"أريد وظيفة بكفاءتي لا بطائفتي"، يقول مارك، وهو شاب ينتمي إلى الطائفة المارونية. أما عامر، وهو عسكري ينتمي إلى الطائفة الدرزية، فيشكو حرمانه من رتبة عسكرية لأنها ذهبت إلى آخر بسبب المحاصصة المذهبية. "تهمّني تجارتي لا طائفة وزير المالية"، يؤكد تاجر السيارات إبراهيم المنتمي إلى الطائفة الشيعية. بينما تلخّص مريم المنتمية إلى الطائفة السنّية وجهات نظر جيل من الشباب والشابات اللبنانيين الذين يتوقون إلى تجاوز النظام الطائفي بقولها: "البرلمان للتشريع والمسجد للشريعة".
في لبنان، ينصّ الدستور اللبناني المعدّل بتاريخ 21 أيلول/ سبتمبر 1990، في مادته رقم 22 على أنه "مع انتخاب أول مجلس نواب على أساس وطني لا طائفي يُستحدث مجلس للشيوخ تتمثل فيه جميع العائلات الروحية وتنحصر صلاحياته في القضايا المصيرية"، وهو تعديل ضمن تعديلات أُقرّت بموجب "اتفاق الطائف" الذي أنهى الحرب الأهلية، كما تدعو المادة 24 منه إلى وضع "قانون انتخابي خارج القيد الطائفي".
حالياً، يتوزّع نواب المجلس، وعددهم 128، مناصفةً بين المسلمين والمسيحيين، ونسبياً بين طوائف كل من الفئتين. ورغم مرور أكثر من 30 عاماً على تعديل الدستور، لم يظهر إلى النور مجلس النواب اللاطائفي بعد.
والطائفية في لبنان مترسخة منذ الاستقلال، عام 1943، حين أسندت رئاسة الجمهورية إلى الموارنة، ورئاسة الحكومة إلى السُنَّة، ثم أسندت لاحقاً رئاسة مجلس النواب إلى الشيعة، في "صيغة" عرفية مستمرة إلى يومنا هذا.
طائفية النظام فتحت باب المحاصصة الطائفية على مصراعيه في تشكيل الحكومات والتعيينات في الوظائف العامة. في المقابل، وبهدف استقطاب الكتل الناخبة، ينجرف السياسي نحو شدّ عصب ناخبيه الطائفي والمذهبي عوض طرح مشاريع وطنية بنَّاءة وعابرة للأسوار المناطقية والطائفية.
هكذا يُضرَب معيار الكفاءة وتبرز دورياً أزمات سياسية تخلّف آثاراً اقتصادية واجتماعية وأمنية تطال حياة جميع اللبنانيين، وأهمها الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975 واستمرت نحو 15 عاماً.
بين الدستور والسياسة
تتراكم الأزمات السياسية في لبنان، نتيجة ممارسة مقيَّدة بالتوازنات الطائفية، ما يشكل سداً منيعاً في وجه سير العملية السياسية بشكل ديمقراطي يضع مصالح المواطنين أولوية له. فهل يشكل انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي مخرجاً للأزمات السياسية نتيجة تغلغل الطائفية في مفاصل الدولة؟ وهل يمهّد ذلك السبل نحو تحقيق دولة مدنية قوامها المواطنة وتكافؤ الفرص على الصعد كافة؟
"علة العلل في لبنان هي النظام الطائفي القائم والذي يجعل من ولاء المواطن موجهاً نحو زعيم طائفته عوض وطنه"، يقول أستاذ الحقوق في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد زكور، مضيفاً: "يستفيد الزعيم من جراء هذه الوضعية من خلال تقديمه الخدمات لابن طائفته على حساب وطنه".
برأيه، "إذا كان بالإمكان الذهاب نحو انتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي نكون قد خطونا أولى الخطوات لسحب الخطاب الطائفي الذي يلجأ إليه المرشحون لشد العصب الطائفي والمناطقي"، داعياً إلى تطبيق الدستور وإلغاء الطائفية السياسية و"حصر هواجس المجموعات الطائفية بمجلس الشيوخ الذي يُفترض أن يمثّل العائلات الروحية الطائفية والمذهبية في لبنان".
وفي السياق نفسه، يعتبر أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية الدكتور علي شكر أن "انتخاب مجلس نواب خارج القيد الطائفي لا يشكل بحد ذاته حلاً للأزمات، إنما يُعتبر خطوة في سياق تغيير بنية الحياة السياسية، وهو ما يسهم مع الوقت في وضع رؤى تسهم في تطوير النظام السياسي... وهذا سيسهم لاحقاً في حل الأزمات".
أما أستاذ العلوم الاجتماعية في الجامعة اللبنانية الدكتور شربل ليشع، فيرى أنه "من الناحية النظرية، يمكن أن يكون هذا الطرح صحيحاً إلى حد ما، غير أنَّ الواقع اللبناني يبيّن لنا أنّ المشكلة لا تكمن في طبيعة المجلس النيابي بل في الوظيفة المراد له أن يؤديها، وبالعوائق الوهمية التي توضع أمام تأديته لوظيفته التشريعية".
تلخّص الشابة اللبنانية مريم وجهات نظر جيل من الشباب والشابات اللبنانيين الذين يتوقون إلى تجاوز النظام الطائفي بقولها: "البرلمان للتشريع والمسجد للشريعة"
يشرح رأيه بقوله: "الديمقراطية التوافقية التي أنتجتها الطبقة السياسية، تتحول إلى ‘ديمقراطية تنافقية’، ونرى كيف يُمارَس التوافق بشكله الحقيقي عندما يتفق أصحاب القرار السياسي بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم على تمرير مصالحهم الخاصة والمشتركة".
ويضيف: "الذهنية التي تُدار فيها الأمور هي الأساس... وأعتقد أن المعادلة بسيطة: إذا أتينا بالتركيبة عينها، ووضعناها في نظام ملكي أو برلماني، أو رئاسي أو أي نظام آخر، ستكون النتيجة هي نفسها".
يشدد ليشع على أن التنوع في المجتمع اللبناني "هو عامل غنى ومصدر قوة، بخاصة أنَّ نموذج ‘الاجتماع اللبناني’ يُعتبر فريداً في منطقة الشرق الأوسط"، وعلى أن "هذا النموذج ليس هو حجر العثرة في تطوير حياتنا السياسية، بل المشكلة هي في توظيف هذا التنوع بشكل سلبي في إدارة الشأن العام".
هناك نوع من الإجماع بين الباحثين على أن الأزمات السياسية المتتابعة التي تضرب النظام اللبناني سببها ممارسات القوى السياسية التي توظف التنوع اللبناني لصالحها وتطيّف المجتمع لتغطية فشلها في السياسة وإدارة الشأن العام وتالياً لإعادة إنتاج نفسها في السلطة من خلال استخدام أسلحة التجييش الطائفي والمناطقي وشد العصب العشائري.
المواطنة وتكافؤ الفرص
أي دولة يقوم نظامها السياسي والإداري على المحاصصة المذهبية والمناطقية والحزبية ستواجه خللاً في ميزان الكفاءة والشفافية في التوظيف وتقلّد المناصب، وستُقصي الكفاءات وتُعلي مصالح الحزب التي تسمّى "مصالح الطائفة".
برأي الدكتور علي شكر، "إصدار النواب القوانين بصفتهم أفراداً يتساوون في الحقوق والواجبات وليس بصفتهم أعضاءً في مجموعات دينية من شأنه أن يحقق تكافؤاً للفرص بين اللبنانيين وعلى المستويات كافة".
وفي السياق عينه، يقول الدكتور محمد زكور "إن مجلساً نيابياً وطنياً يمكنه تحقيق تكافؤ للفرص بين اللبنانيين على اعتبار أن نوابه يعبّرون وفق المفهوم الحقيقي لمجلس النواب عن هواجس كل الأمة ويمثلون جميع المواطنين"، عوضاً عن مطالبة كل "زعيم" بما يسمّيه "حقوق طائفته".
"الديمقراطية التوافقية التي أنتجتها الطبقة السياسية اللبنانية، تتحول إلى ‘ديمقراطية تنافقية’"
أما الدكتور شربل ليشع فيبدي اعتقاده بأن "المسألة تتعلق بضرورة إرساء نظام الكفاءة وإحلاله مكان نظام الزبائنية الذي كرسته الممارسة السياسية في لبنان". ومن هنا يدعو إلى "ضرورة إعادة تفعيل دور مؤسسات مهمة كمجلس الخدمة المدنية، والمؤسسات العسكرية، والتعليم الرسمي بمستوياته كافة، والمجالس الرقابية، ورفع التدخلات السياسية عنها، لتتمكن من جذب الكفاءات بعيداً عن الضغوطات السياسية".
وعن القانون الانتخابي الأنسب للوصول إلى مجلس نيابي وطني خارج القيد الطائفي، يفرض على المرشح التوجه إلى الناخبين من منطلق وطني، ويساهم في تطوير العملية الديمقراطية لإنتاج سلطة وطنية بنَّاءة، يقول ليشع: "القانون النسبي من بين أهم القوانين الانتخابية التي يمكن أن تؤدي إلى تشكيل مجلس نواب خارج القيد الطائفي، وأعني هنا قانون النسبية المطلقة"، مشيراً في الوقت نفسه إلى أن هكذا قانون يصعب تطبيقه في لبنان، أقله في المرحلة الراهنة، "لعدة اعتبارات موضوعية منها الخصوصيات الديموغرافية لبعض الطوائف، والاعتبارات السياسية والأمنية".
وبرأيه، "لن نصل في المدى المنظور إلى تطبيق النسبية المطلقة على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة، بل سيستمر طرح صيغ نسبية، أو أكثرية، أو نسبية-أكثرية هجينة تُراعَى من خلالها مصالح أصحاب القرار السياسي".
بدوره، يقول شكر "إن القانون الانتخابي على قاعدة النسبية يُعتبر ضرورة لتحقيق التمثيل الحقيقي للقوى الموجودة ويحقق مشاركة حقيقية وشاملة". وبرأيه، "إذا كانت هناك إمكانيات لوجستية تمكّن من إجراء الانتخابات على أساس لبنان دائرة انتخابية واحدة فهذا الخيار الأمثل".
ويلفت شكر إلى أن "أهمية النسبية تكمن في تفعيل المشاركة وإعطاء صورة حقيقية عن حجم القوى الموجودة لذلك تُعتبر شرطاً مهماً لتشكيل مجلس نيابي خارج القيد الطائفي".
الإشادة بأهمية النظام النسبي يذهب إليها زكور أيضاً. يقول: "النسبية تشكّل المدخل الفعلي لمنع المحادل الانتخابية وتعطي الفرصة لكل الفئات السياسية والأحزاب على اختلاف أحجامها بالتمثيل النيابي".
بين الشباب والشابات اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم وحتى مناطقهم، يظهر ميل واسع إلى تجاوز النظام الطائفي الحالي والذهاب باتجاه نظام أكثر عدالة وأقل تسبباً بالأزمات، ويحقق تكافؤ الفرص والمساواة بين المواطنين.
كثيرون ينشدون دولة مدنية تكون القوانين هي الحَكَم فيها، ما يكشف عن رغبتهم في الخروج من بوتقة العشائرية الضيّقة والمناطقية المحدودة ومن الطائفية التي تقف عائقاً أمام ممارسة العمل السياسي الديمقراطي، وتالياً بناء دولة حديثة تحقق لهم عيشاً كريماً.
ويؤكد كثيرون أن انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي سيجبر رجل السياسة على التوجه إلى ناخبيه بخطاب وطني عابر للطوائف والمناطق وبمشروع سياسي واسع وجامع يحقق طموحات اللبنانيين واللبنانيات.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ ساعة??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 21 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون