شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!

"غُزاة الساحات"... "تكتيكات" أحزاب السلطة اللبنانية في مواجهة منتفضي تشرين

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

سياسة

الأربعاء 8 ديسمبر 202112:17 م

في بداية التظاهرات، ما بعد 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، مَنع أهل بلدية رويسة البلوط، في قضاء بعبدا، المتظاهرين من إغلاق الطرقات، بطلب واضح من أحزاب المنطقة، فما كان من رامي زيدان إلا أن حوّل وجهته إلى نقطة ثانية، فأغلق مع رفاقه طريق ضهور العبادية-طريق الشام، عند نقطة تُسمّى قصر أسمهان، وتبعد نحو ستة كيلومترات عن ضيعة رامي، رويسة البلوط، بالدواليب والحجارة.

"بدأنا بإغلاق الطرقات، مع ترك مسارب داخل عاليه تسمح بمرور الناس، فانطلقت الشائعات عنّا، واتهمونا بأننا من خلفيات شيوعية وقومية، وبدأت تحركات من شباب حزبيين لافتعال المشاكل، وإشاعة أجواء الخوف، لإبعاد الناس عن التظاهر، والوقوف ضد تحركاتنا"، يروي رامي لرصيف22.

منذ بداية الاحتجاجات، شكّل رامي الذي يبلغ من العمر 40 عاماً، ويعمل مبرمجاً للماكينات الكهربائية، مع مجموعة أشخاص من مناطق قرى قضاء عاليه، نواة حراك مُعارض للسلطة السياسية، ومن ضمنها الحزب التقدمي الاشتراكي الذي له انتشار واسع في المنطقة التي يغلب عليها الوجود الدرزي. تحرُّك رامي كان في محيط سكنه، في رويسة البلوط، وتحديداً في ضهور العبادية، على طريق الشام، مع زيارات إلى ساحات الثورة المجاورة.

"حاول الاشتراكيون بشتى الوسائل تنميط الثوار بصورة قطّاع طرق. وعمد عناصر ومؤيدون للحزب التقدمي الاشتراكي إلى احتلال النقطة التي يقف عندها الثوار في ضهور العبادية-طريق الشام. أغلقوا الطرقات باسمنا، وبدأوا بطلب المال من السيارات عنوةً، لقاء السماح لها بالمرور، وضربوا أناساً في سيارات متوجهة إلى البقاع، مؤيّدين للثنائي الشيعي، اختاروهم بعناية. كانوا يريدون أخذ الثورة إلى فتنة مناطقية وطائفية، وإشاعة صورة سيّئة عن الثوار. نجحوا في ذلك، وحملنا آثار فعلتهم، بعد أن التصقت التهمة بنا. هذا الأمر حتّم علينا تنظيم صفوفنا للاستمرار"، يقول رامي.

ليس بعيداً عن تلك النقطة، وبالتحديد بالقرب من مسجد الرفاعي، على مقربة من تمثال شكيب جابر، في منطقة عاليه، نصبت مجموعة من المنتفضين خيمة في موقف خاصّ لتكون عنواناً لاعتصام سلمي مفتوح يعترض على الواقع وممارسات أحزاب السلطة، ما شكّل تهديداً للحزب الاشتراكي الذي لا يستسيغ منافسته في الحيّز العام.

يروي زيدان: "حاول الحزب الاشتراكي ركوب موجة الثورة. في إحدى المرات، دخل مناصرون له إلى خيمة عاليه، ليلاً، وعلّقوا أعلام حزبهم، ونشروا صوراً لذلك على وسائل التواصل الاجتماعي، للإيحاء بأنهم جزء من الثورة، وأن الثورة مسيّسة".

تنوّعت الشائعات بحق المنتفضين، يتابع رامي: "مرةً قالوا عنا شيوعيين كفّاراً، لا نلتزم بتعاليم الدين، وقالوا عنا إسرائيليين، لأننا نقف ضد الحزب الاشتراكي، وحاقدين نريد تصفية حساباتٍ شخصية مع ‘البيك’ (وليد) جنبلاط، ومرّة أنه يتمّ تمويلنا من سوريا، ووئام وهاب، وحزب الله، بهدف ضرب الدروز في الجبل".

أما الأساليب الحزبية، فكانت تأخذ أشكالاً مختلفةً: "في إحدى المرات، قام أحد الأشخاص بإطلاق ثلاث رصاصات على خيمة الثوار، وما لبثت أن وصلت مخابرات الجيش بعد شائعة عن وجود أسلحة في الخيمة، وبدأت اتصالات ترد إلينا، متسائلةً: من أين لنا السلاح؟ مخابرات الجيش اكتفت بالتحقيق، بعد تأكدت من أن الخبر عارٍ عن الصحة".

وعاليه هي أحد أقضية محافظة جبل لبنان، يُشكّل الدروز 55% من سكّانها. ويحظى الحزب التقدمي الاشتراكي الذي أسّسه، منتصف القرن الماضي، كمال جنبلاط، بشعبيةٍ كبيرة في المنطقة. ويدين الدروز بالولاء لابنه وليد جنبلاط الذي كان من زعماء الحرب الأهلية، ويعتقدون أنه أحد الأسباب التي جعلتهم يبقون في مناطقهم.

يقول رامي: "على مرّ السنوات، استطاع الحزب (التقدمي الاشتراكي) فرض هيمنته على المنطقة، بمساعدة المشايخ. وعُدَّ مجرماً مَن يتعرض لكرامة ‘البيك’، وحزبه. ولأنه الحزب الأقوى، فإن جمهوره يتحرّك أحياناً من دون إيعاز".

يضرب مثلاً عن ممارسات "الاشتراكي" بما حصل يوم المسيرة الموحّدة في منطقة عاليه، في 6 تموز/ يوليو 2020، والتي ضمّت أعداداً كبيرةً من المتظاهرين: "نُظّمت هذه المسيرة بالتنسيق مع مجموعات الثورة في المناطق كلها، وهدفت إلى إقامة تحركات أمام السرايات. يومها، انتشر عناصر الحزب الاشتراكي على مسافة كيلومترين، كل 20 متراً منها ينتصب فيها أربعة شباب مع قائدهم، وفي حوزتهم جهاز لاسلكي. حُمّلت السيارات بالعصي. حضور الجيش والقوى الأمنية حال دون حدوث المسيرة، واكتفى المحتجّون بوقفةٍ رمزية".

ويتابع: "قمت بالالتفاف من الخلف، بطريقةٍ ما، واستطعت الدخول إلى السوق. سرتُ بينهم متحججاً بإجراء مكالمةٍ هاتفية، وبدأت بتصويرهم. ما لبثت أن قامت مجموعة كبيرة من الشباب بمهاجمتي. أخذوا منّي الهاتف، ورموه على الأرض، وكسروه. بعد انتهاء الوقفة، تعرّضت فتيات مشاركات للاعتداء، ولتكسير سيارتهن. بالإضافة إلى حرق سيارة أحد الناشطين".

يقول رامي عن الفارق بين الأمس واليوم: "في ما مضى، لم يكن الحزب يولي اهتماماً بالأصوات المعارضة، إذ كان يقمعها بالتهديد، عبر قطع الأرزاق، والتعرض لها، أو الضغط عليها لإسكاتها، ثم يتدخل قادة من الحزب لحل الموضوع، وإجراء مصالحات لتبييض صورتهم لدى جمهورهم. وهذا ما حصل مع أحدهم، إذ تم تهديده، فهرب مع عائلته من منزله، ثم عاد بعد ‘العفو’ عنه. هذه المرة، في ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، خافوا منّا، فمارسوا إرهابهم علناً". هذا ما جرى مثلاً عندما عمد مناصرو الاشتراكي إلى إحراق خيمة عاليه والتهجّم على المعتصمين، رغم تأكيدهم على سلمية تواجدهم.

لم يكن "الترهيب" الذي مارسه الحزب الاشتراكي العامل الوحيد وراء خفوت الثورة، وتراجع أعداد المعتصمين. أزمة كورونا من جهة، والانهيار الاقتصادي من جهةٍ ثانية، مع ما ولّده من حالة إحباط عام، كلها عوامل ساهمت في انكفاء المنتفضين عن النزول إلى الشارع. يقول رامي: "الثورة لم تنتهِ. صحيح أننا اختفينا من الشارع، إلا أن التواصل مستمر، لا سيما اليوم مع التحضير للانتخابات".

ساحة صور... شائعات واعتداءات

تحوّلت ساحة العلم في صور إلى مقرّ إقامة لحسن حجازي. الشاب البالغ من العمر 40 عاماً، والحائز على دكتوراه في الصيدلة، ومؤسس جمعية "فكر وإنسان"، وهي جمعية بيئية ثقافية اجتماعية، في منطقة صور، عايش جولات الاعتداء كلها. وعندما أشار بإصبع الاتهام إلى الفساد الذي يتحكم بالمنطقة، وُضع على قائمة مَن ينبغي استهدافهم.

في اليوم الأول من احتجاجات 17 تشرين الأول/ أكتوبر، بدأ ما يقارب الـ40 شخصاً بالنزول إلى شارع مدينة صور، للاعتصام، وتزايدت أعداد المحتجين. كانت الأمور هادئةً في البداية. في اليوم التالي، أي في 18 تشرين الأول/ أكتوبر، خرجت تظاهرة، علا فيها السباب والشتم للزعماء كلهم، لا سيما الشعارات المناهضة لرئيس مجلس النواب نبيه بري، وزوجته، وهو ما عدّه الفريق المؤيد لهما "مسّاً بالمقدسات".

رداً على هذه التظاهرة، تمت إشاعة خبر حرق المنتفضين لصورة الإمام موسى الصدر في الساحة. يقول حجازي لرصيف22: "هذه الشائعة لا أساس لها من الصحة، وعملنا كثوارٍ على نفي هذه الكذبة، ثم دعونا إلى اعتصامٍ في اليوم الثالث، أي في 19 تشرين الأول/ أكتوبر، في ساحة العلم".

والصدر شخصية دينية وسياسية أساسية في تاريخ شيعة لبنان الحديث، وهو قامة لها مكانتها في وجدان قسم كبير من اللبنانيين الجنوبيين. وفي مناطق الجنوب كلها، تنتشر صوره على الطرقات، وفي أماكن التجمعات، كما تُرفع لافتات تحمل أقوالاً له، في دلالة على عِظم أثره الباقي رغم مرور أكثر من أربعين سنة على إخفائه في ليبيا.

واستفادت حركة أمل كثيراً من مكانة مؤسسها الصدر في وجدان الشيعة، لتُعزز حضورها وتبعية المجتمع لها.

بشكل عام، تقع مدينة صور تحت سيطرة الثنائي الشيعي، وتتحكم حركة أمل تحديداً بمفاصل السلطة فيها. والحركة التي تُقدّم نفسها على أنها حركة المحرومين، وتستمد قوّتها من امتلاكها كتلة نيابية وازنة في المجلس النيابي من جهة، ومن الغطاء الذي يؤمّنه لها حليفها حزب الله، من جهة أخرى، حمّلها المنتفضون المسؤولية عن الكثير من ملفات الفساد.

بعد يومين من بدء الثورة، أي في 19 تشرين الأول/ أكتوبر، دعا النائب علي خريس، وهو نائب عن حركة أمل في صور، إلى تظاهرة مضادة في ساحة العلم، أي في ساحة تجمّع المحتجّين، مستفيداً من شائعة التعرض للصدر.

نقل المتظاهرون المعارضون مكان تجمعهم إلى ساحة "أبو ديب"، في قلب المدينة، تلافياً للصدام. "التظاهرة (المضادة) كانت مسلّحة، وغنيّة بالعصي والأسلحة"، يروي حجازي ويتابع: "اعتدوا على المتواجدين في ساحة ‘أبو ديب’، ولم يفرّقوا بين نساء ورجال. وانتشرت فيديوهات صادمة لحزبيين يعتدون على المتظاهرين بطريقةٍ وحشيةٍ، ويكسّرون سياراتهم".

عن سبب هذه الممارسات، يشرح الباحث في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا الاقتصادية والخبير في قضايا العمل والحوار الاجتماعي، سعيد عيسى، لرصيف22، أن "ثوار 17 تشرين، كانوا مصدر تهديد للسلطة، وتالياً من الطبيعي أن تلجأ هذه السلطة إلى آلية ردعٍ، أو دفاع، حتى يتسنّى لها الاستمرار في المحافظة على سلطتها".

يفصّل عيسى فكرته ويقول: "اختلفت هذه الآليات بين الأحزاب من ناحية درجة القسوة، وحدّة الممارسات، ولكنها تعود إلى ثقافةٍ واحدةٍ، هي النزعة الطائفية، وممارسة السلطة من خلال العنف، وقد حاولت الأحزاب إرسال رسالة إلى الآخر، أي الثائر، بأنه تخطّى الحدود المرسومة له، متكئةً على خبرةٍ كبيرة، وممارسات طويلة في هذا المجال".

"السلطة (اللبنانية) خلال الثورة شعرت بعدم استقرار، بسبب تهديد مكاسب أطرافها التي راكمتها لسنوات، من خلال المحاصصة، والزبائنية، وتثبيت قاعدة أنها الأقوى، بعدما أخذوا البلد غنيمة حرب، فتحاصصوه في ما بينهم، وقسّموه وفق مزاجهم"

لم يمرّ يوم من دون تعرّض المحتجين والمعتصمين في ساحة العلم للاستفزاز، لا سيما من قبل مسيرات سيّارة تمرّ بجانبهم مطلقةً شعارات تشيد بـ"الزعيم"، كـ"الله وبري"، مثلاً.

في ليل 25 تشرين الثاني/ نوفمبر، عاش المعتصمون حالة ذعر وخوف، بعدما عمد مناصرون للثنائي الشيعي في صور إلى التهجّم على ساحة العلم، وإحراق الخيم بمادة البنزين، وإطلاق النار، والتعرّض لعناصر من الجيش اللبناني.

"فضحت حادثة حرق خيم ساحة العلم ليلاً تطرّف مناصري حركة أمل، واستماتتهم في الدفاع عن هيبة حزبهم"، يقول حجازي ويضيف: "تم تحذيرنا من أن شباباً من منطقة برج الشمالي يتحضّرون للهجوم علينا ليلاً، وهذا ما حدث بالفعل. جوٌّ من الرعب عشناه تلك الليلة. رموا عبوات معبّأة بالبنزين على الخيم، بعد مسيرة بالسيارات حولها. اعتدوا على كل من كان في الساحة، ورفعوا صورة نبيه بري فيها. إحدى العبوات أصابت عسكرياً، ما دفع الجيش إلى صدّهم بالقوّة".


في اليوم التالي، وصل إلى الساحة علي إسماعيل، ممثلاً الرئيس برّي، واستنكر تصرّفات المعتدين، في سلوك اعتادت الحركات السياسية اللبنانية على استخدامه: تحرّض على ارتكاب الفعل وأحياناً تنظّمه ثم تستنكره، فتربح في المرة الأولى بإثارتها للخوف وتربح في المرة الثانية بظهورها بمظهر المعتدل.

يضع مدير "مركز البحوث التطبيقية في التربية" في جامعة سيّدة اللويزة، الباحث والأستاذ الجامعي باسل عكر، تصرّفات مناصري الأحزاب في خانة "العقلية العنفية المتوارثة من الحرب الأهلية، حتى اليوم". يقول: "هذه العقلية تبني عليها الأحزاب المؤيدين لها، وتمنعهم من التواصل مع الجمهور الآخر في أماكن عامة".

يُقدّم عكر مثالاً على هذا الأمر: "يمكن لرؤساء الأحزاب الجلوس والتحاور في ما بينهم، على طاولة واحدة، ولكن إذا وُضع جمهوران متقابلان، لا مجال للتفاهم بينهما إلا بالقوّة، وذلك لأن مناصري الأحزاب لا يعرفون أدوات تواصل، ولا مشاركةً مع أحزاب أخرى، وهذا يرجع إلى التربية التي تتم تنشئة الأطفال عليها، لا سيما في المدارس، حيث لا يتعلّمون الحديث عن التنوّع، والتعبير عن رأيهم. وعليه، يكون الحزب المكان الوحيد للحديث عن الآخر، فيتّجه الحوار في مسارٍ واحدٍ ومحدد. أثر هذا الأمر يُترجم بعدم الشعور بالآخر، وفي حال حصول أي نقاش، أو صدام، يكون العنف أسهل رد فعل".

"تُعدّ الساحات أماكن مقدّسة للأحزاب، ولجمهورها حصراً"، يقول عكر لرصيف22. وفي تفسيره لما جرى في صور تحديداً يعلّق: "جمهور الثورة عبّر عن رأيه في منطقة يعدّها الحزب المسيطر ملكاً له، وبقعةً جغرافيةً يعبّر فيها عن الفكر الأوحد، وهذا ما أدّى إلى عدّ الثوار دخلاء، واستخدامهم لساحة الحزب له انعكاسات أهمها إضعاف الحزب، وتالياً إضعاف قوّة السلطة، لذا لجأوا إلى العنف لإنهاء الثورة".

بدوره، يتحدث الناشط والصحافي مهدي كريّم، 30 عاماً، عمّا كان يجري في صور بقوله لرصيف22: "نشر مناصرو الثنائي الشيعي جملة من الأكاذيب والاتهامات، طوال الوقت، بحق الناشطين: عملاء في الداخل، وصهاينة".

كل شخص يبرز كانوا يشنّون عليه حملة لتشويه صورته. ولمواجهة التنوّع في الساحة، "اعتمد حزب الله إستراتيجيةً مبتكرةً تتمثل في تحويل الساحة إلى ساحة حمراء معزولة، وإلقاء صبغة شيوعية عليها بهدف عزلها وإفراغها من المتظاهرين"، يقول كريّم.

وكان الطابع الانتقامي يغلب على نفوس المناصرين الحزبيين، فإذا تعرّض متظاهرون في مكان بعيد، كبيروت، لقيادات أحزابهم، كانوا يتوجهون إلى ساحة العلم للانتقام، عبر التعرّض للموجودين فيها.

ولّد كل ذلك شعوراً بالخوف لدى بعض الناشطين الذين لجأوا إلى حماية أنفسهم، وتبرير تحرّكهم، فتارةً يقومون بحرق علم إسرائيل وتارة يحرقون علم أمريكا، وصار هاجسهم نزع صفتي "العمالة" و"الصهيونية" عن أنفسهم.

شيئاً فشيئاً، وبسبب التهديدات والاعتداءات اليومية وحملات التخوين، نضب زخم الحراك تدريجياً، وخرج معتصمون كثيرون تباعاً من الساحة، إلى أن فرغت لاحقاً، مثلها مثل باقي الساحات اللبنانية.

ساحة النبطية... لغة العنف

على مقربة من ساحة الإمام الحسين في النبطية، نُصبت خيم اعتصام المنتفضين على النظام. لم تعتد المدينة، ولا أهلها، على هذا المشهد في السنوات السابقة. المناسبات الدينية، من إحياء ذكرى عاشوراء، والمسيرات الحسينية، وإحياء ذكرى تغييب الإمام موسى الصدر هي المناسبات المعتادة لدى أهل المنطقة المناصرون لحزب الله وحركة أمل في السنوات الأخيرة. احتجاجات 17 تشرين الأول/ أكتوبر كانت نقطة تحوّل.

في النبطية، برزت ساحتان استقطبتا الجماهير الثائرة. ومنذ اليوم الأول للانتفاضة، أرست كل ساحة قواعدها. زمنياً، يبلغ الفارق الزمني بينهما أربع دقائق فقط في السيارة، لكن فكرياً هناك اختلاف جوهري: تبنّى الناشطون في ساحة كفررمان خطاب "كلّن يعني كلّن"، وسمّوا علناً حزب الله وحركة أمل، فيما حاول ناشطو ساحة السراي أن يكونوا أكثر "ديبلوماسية".

في الأيام الأولى من الحراك، استطاعت الساحتان حشد أعداد كبيرة من المنتفضين. توجّه المنتفضون إلى نواب المنطقة، وساروا في شوارع النبطية مطالبين بإسقاط رئيس مجلس النواب نبيه بري، وجالوا على مكاتب النواب في المنطقة، حتى وصلوا، في اليوم الثاني للحراك، إلى منزل النائب عن حركة أمل، ياسين جابر، حيث واجههم مرافقوه بإطلاق الرصاص الحي في الهواء.

وفي الليلة الثالثة من الحراك، أي في 19 تشرين الأول/ أكتوبر، احتشد مناصرون لحركة أمل، وصل عددهم إلى ما يقارب الـ200 شخص، حسب ابن المنطقة الناشط مازن أبو زيد، وتهجّموا على المتظاهرين في ساحة السراي والذين كان عددهم 15 شخصاً.

يتحدث أبو زيد لرصيف22 عن محاولات الثنائي الشيعي لإنهاء الحراك: "أرسلوا مَن يفتعل المشاكل في الساحتين، وتواصلوا مع العائلات التي تسكن في محيطهما، وحرّضوهم على الاعتراض على إغلاق الطرقات، ونجحوا في ذلك، فقد خرجت العائلات للاعتراض. كذلك، تلاسن التجار مع الثوار، عادّين الحراك ضارّاً بمصالحهم".

كانت ساحتا الثورة في النبطية مسرحاً لإظهار قوّة الثنائي الشيعي الذي تناوب مناصرو طرفيه على الاعتداء على المحتجّين. يروي أبو زيد: "الضربة الأقوى كانت من حزب الله في ساحة السراي. في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، بدأ الحزب باستدعاء عناصره من المناطق المجاورة إلى الحسينيات، ونقلهم بالباصات إلى ساحة الإرشاد (تبعد دقائق عن ساحة الحراك). كان عددهم كبيراً جداً. هجم الحزبيون بعصيٍّ ملفوفة بشارات صفراء، وبدأوا بضرب الناس موقعين عدداً كبيراً من الجرحى. حاول الحزب التنصّل من التهمة، بإسنادها إلى شرطة البلدية، إلا أن الفيديوهات، ومقاطع الصوت المسرّبة، تثبت الحقيقة. يومها، الأخ ضرب أخاه، وأبناء العم تقاتلوا. حاولنا النزول من ساحة كفررمان، إلا أن الجيش منعنا".

يستذكر أبو زيد "الغارات الحزبية"، كما يحلو له أن يسمّيها. لكل غارة أو هجمة مكان في ذاكرته. لا ينسى الهجوم الأكبر على خلفية هتافٍ أطلقه، رداً على غارةٍ سابقة اعتُدي فيها على المحتجين: "مش حَ نخاف مش حَ نطاطي، كل زعرانك عَ صبّاطي". هذا الهتاف دفع مناصري "قوى الأمر الواقع" في النبطية إلى البحث عن مازن للانتقام منه.

يروي أبو زيد: "تهجّموا علينا في ساحة كفررمان، يوم 17 كانون الأول/ ديسمبر. طلب المناصرون الحزبيون من الثوار الموجودين في الساحة تسليمي لهم، لإنهاء الهجوم. استمر الجدال من الثالثة عصراً لغاية الـ11 ليلاً، وانتهى بهجومٍ من قبلهم على الساحة، ثم تدخّل الجيش لفضّ الإشكال".

إثر هذا الهجوم، نُشر عنوان سكن أبو زيد على فيسبوك، مع دعوات للمناصرين بالتهجم على منزل عائلته، ثم أقيمت حواجز في محيط المنزل للقبض عليه. استطاع أبو زيد الهرب من المنطقة.

"التعديات لم تكن محصورةً بالساحات. وصل الأمر إلى المنازل. في الثاني من آذار/ مارس 2020، ذهب المناصرون إلى منزل الناشط البارز علي جمول، لضربه. لم يجدوه، فضربوا أخاه بدلاً منه. في حادثة أخرى، اعتدوا على ثلاثة ناشطين في منطقة عربصاليم. الوحشية التي ضربوا الشباب بها تدلّ على أنها محاولات قتل، وليست محاولات ترهيب فحسب. كذلك، لاحقوا الناشط بشير أبو زيد في ضيعته كفررمان، وضربوه في 23 آذار/ مارس 2020. وبعدها عُقد اجتماع لدى مختار البلدة، بحضور قيادات من حزب الله وحركة أمل، لمحاولة حصر تداعيات الحادثة، ووضعها في إطار الإشكال الفردي، لا أكثر"، يروي مازن، مضيفاً أن بشير تقدّم بشكوى قضائية أمام القضاء اللبناني، لكنه لم يحصّل حقه من المعتدين، بعد أن تنازل عنها "رأفةً بالمعتدي".


"لا حدود لسلطة الأحزاب"، تقول مؤسِسة جامعة اللاعنف وحقوق الإنسان (أونور)، الباحثة أوغاريت يونان، مضيفة لرصيف22: "نظام المحاصصة متجذّر في لبنان، وسيطرة الأحزاب تتفرّع لتصل إلى الزوايا كلها. قدرتهم على التحكم تبدأ مناطقياً، لتتوسع. السيطرة على مداخل ومخارج القرى كلها أحد وجوهها، من خلال اختيار الوجوه الفاعلة، وتوكيل قيادة المنطقة إلى أشخاصٍ يبرز دورهم في تلميع صورة حزبهم. وقدر برز هذا الدور في ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وهي أداة من أدوات العمل السياسي".

يقول أبو زيد: "أوراق كثيرة أُخرجت لترويع الناس، أوّلها اتّهام المشاركين بأنهم ممولون، وعملاء للسفارات يريدون تخريب البيئة الحاضنة، وأنهم ينتمون إلى حزب القوات. اتّهموني بأن لدي بطاقة حزبية من القوات".

وبالنسبة إلى الجنوبيين، أن تكون تابعاً لحزب القوات اللبنانية الذي يرأسه سمير جعجع هو أمر يعني تهمة معاداة المسلمين والتقرّب من إسرائيل، فصورة الحزب المذكور في الحرب الأهلية لا تزال بدون تغيير لدى غالبية الجنوبيين.

المفارقة أنه في وقت لاحق، وفي ذكرى مرور سنة على انفجار المرفأ، أي في الرابع من آب/ أغسطس 2021، تعرّض مناصرو القوّات اللبنانية لأبي زيد، في الجميزة، وأوسعوه ضرباً، ما أدى إلى نقله إلى المستشفى، بعد أن تلقى طعنات بسكّين حاد في أكثر من مكان في جسده.

يعود أبو زيد إلى الحديث عن تكتيكات الثنائي الشيعي في مواجهة المنتفضين ويقول: "وصل بهم الأمر إلى استخدام الدين لمحاربتنا، ولجأوا إلى استباحة حياتنا الشخصية، كي يُبرّروا أننا خارجون عن مجتمعهم المحافظ. اتّهمونا بممارسة الدعارة في الخيم، وشرب الكحول، ونشر أفكار غربية. ذلك كله لترهيب الناس، وتأليبهم ضدنا. ونجحوا، بعد أن وصل بهم الأمر إلى تهديد المتظاهرين بلقمة عيشهم، وطردهم من أماكن عملهم".

"وصل بهم الأمر إلى استخدام الدين لمحاربتنا، ولجأوا إلى استباحة حياتنا الشخصية، كي يُبرّروا أننا خارجون عن مجتمعهم المحافظ. اتّهمونا بممارسة الدعارة في الخيم، وشرب الكحول، ونشر أفكار غربية. ذلك كله لترهيب الناس، وتأليبهم ضدنا"

"قاعدة العنف أن استخدام العنف لامحدود"، تقول أوغاريت يونان وتضيف: "مَن لديه هذه العقلية، فإنه لدى ممارسته العنف، لا يعود قادراً على النظر إلى ما يقوم به، واستدراك الأمر. هذا النمط هو أداة مهمة في العمل السياسي. ويرتفع هذا العنف عند وجود غاياتٍ تبرّر الوسيلة. فالسلطة خلال الثورة شعرت بعدم استقرار، بسبب تهديد مكاسب أطرافها التي راكمتها لسنوات، من خلال المحاصصة، والزبائنية، وتثبيت قاعدة أنها الأقوى، بعدما أخذوا البلد غنيمة حرب، فتحاصصوه في ما بينهم، وقسّموه وفق مزاجهم".

وتتابع: "شهدنا خلال الثورة استشراس الأحزاب في ممارسة العنف... تقوم الأحزاب بإثارة الانفعالات لدى جمهورها... العنف والطائفية إذا اجتمعا، لهما عواقب وخيمة. وهذا ما شاهدناه على الأرض".

اضطر ناشطو الحراك في النبطية لفتح الطرقات، وضُيّقت المساحات عليهم، وحُصروا في أمتارٍ قليلة، ما جعل الثورة تتراجع إلى حدّ اختفائها. بحسب أبو زيد، "الناس تلجأ إلى المكان الأقوى، وعندما رضح الناشطون للضغوط، أُرسيت معادلة تقول إن الثورة هي الحلقة الأضعف".

ساحة بعلبك... الأحزاب والعشائر

لا يختلف الحال في بعلبك عن الساحات الأخرى التي ظهرت خارج العاصمة بيروت والتي يهتم هذا الموضوع بأحداثها. الأسلوب نفسه اتّبعه الثنائي الشيعي فيها، مع دخول عامل آخر غير موجود في الساحات الجنوبية: سطوة العشائر.

عمّا جرى في "مدينة الشمس"، تحدثت "سمر" مطولاً لرصيف22. في البداية لم تمانع من ذكر اسمها الكامل، إلا أنها عادت لاحقاً، وتراجعت عن ذلك، خوفاً من الضغوط عليها، والتي اختبرت جزءاً كبيراً منها.

حتى اليوم، بعد انتهاء الاحتجاجات، لا تسلم سمر (اسم مستعار) من تحرّش جماهير حزب الله بها. وكالعادة يأتي الترغيب بجانب الترهيب. قبل شهرين، وصلتها رسالة من مجهول تدعوها للانضمام إلى الهيئات النسائية في حزب الله، مقابل عائد مادي.

كانت سمر من أوائل المتظاهرين في بعلبك. عندما بدأت احتجاجات 17 تشرين الأول/ أكتوبر، وجدت مكانها الطبيعي في الشارع.

كانت البداية مع خروج أهالي المدينة إلى ساحة الجبلي، عند مستديرة دورس. هناك اعتصموا. وبعد أيام قليلة، انضمت إليهم مجموعات محسوبة على العشائر المطالبة بإقرار قانون "العفو العام" عن المسجونين والمطلوبين بمذكرات توقيف، وهو مطلب عشائري قديم متجدد يدعو الدولة إلى العفو عن المطلوبين بجرائم مختلفة بينها القتل والسرقة والإتجار بالمخدرات، ولم يتم التوصل حتى اليوم إلى اتفاق حول المشمولين فيه.

ممارسات هذه المجموعات التي تصفها سمر بـ"التخريبية"، وإشهارهم السلاح علناً، وتعدّياتهم على الموجودين في الساحة، دفع المحتجين المعارضين لأحزاب السلطة إلى نقل اعتصامهم إلى ساحة خليل مطران، حفاظاً على الثورة كما يرونها.

تقول سمر: "يعلم ثوار بعلبك أن حزب الله دفع بعض الأشخاص المنتمين إلى العشائر، نحو الساحات، لتحقيق مآربه بإنهائها. انتقالنا إلى ساحة خليل مطران لم يعجب الجماعات العشائرية المحسوبة على الثنائي الشيعي، فحاولوا إعادتنا إلى ساحة الجبلي بالقوة، من خلال التعرّض لنا، وملاحقتنا، وتهديدنا عبر الهواتف".

تروي أنه "ذات مرةٍ، اتصل بي أحدهم، وقال لي ‘بدنا نطبعلك علم حزب الله عَ جبينك’. ليس هذا فحسب، بل حاولوا إغراءنا بالمال، مقابل العودة إلى الساحة، بعد أن قمنا بنصب الخيم في ساحة خليل مطران، واستأجرنا محلاً لوضع الصوتيات. قالوا لنا عودوا إلى الساحة، وكل شيء سيكون على حساب نوح زعيتر، فرفضنا".

ونوح زعيتر من كبار تجار المخدرات في لبنان، وهو مطلوب، وعليه العديد من مذكرات التوقيف، ويتزعّم عصابة مسلّحة معظم أفرادها من أبناء عشيرته.

لعب حزب الله دوراً متقناً في البقاع. يحفظ المنتفضون حادثة تسردها سمر: "في 22 كانون الثاني/ يناير 2020، وفي احتفالٍ منظّمٍ من قبل حزب الله، خطب الوزير السابق حمد حسن، داعياً إلى التمسك بسلاح المقاومة. وجد حسن مكاناً لترسيخ رؤية الحزب للثورة، فوصفها بـ‘الحراك الأسود’، الأمر الذي دفع بالمناصرين إلى التوجّه نحو ساحة الاعتصام، وحبس الثوار داخل كاراج. كنت مع نساءٍ داخل الكاراج، وإذ بنحو مئة شاب يرفعون أعلام حزب الله وحركة أمل قَدِموا وهم يصرخون ‘شيعة شيعة’، وحاولوا التهجّم علينا، فوقف الجيش بيننا، بعد حصرنا في مكانٍ مغلق. حينها، اشترطوا لإنهاء هجومهم ذهابنا من الساحة، وفضّ الحراك، فرفضنا. استمر الأمر من الساعة الـ11 صباحاً إلى التاسعة مساءً. أحد المشايخ المحسوبين على الثنائي الشيعي هددنا قائلاً: ‘منحرق بعلبك بساعتين، بس بدها عشرين سنة وما حدا بعمّرها’".

تضيف: "من جملة الاتهامات التي وجهها إلينا الشيخ هي سبّ (أمين عام حزب الله) السيد حسن نصر الله، و(السيدة فاطمة) الزهراء، والمقامات الدينية، وشتمهم، وعندما حاولت التكلّم وتكذيبه، ردّ الشيخ بالقول: ‘أغلقي فمك’. في هذا الوقت، كان الثوار في الخارج يحاولون فضّ الإشكال، إلا أنهم فشلوا في ردّ هجوم المحازبين. وحده اتصال هاتفي للشيخ من قيادي حزبي دفعه إلى العودة مع المناصرين إلى ساحة الجبلي".

كانت خيمة الحراك في ساحة خليل مطران مكاناً لتفريغ المناصرين لغضبهم. عند أي حدث يجري بعيداً في أي مكان من لبنان ولا يعجبهم، كانوا يأتون ويعتدون على المتظاهرين.

تروي سمر: "ليلاً، بينما كانت النساء داخل الخيمة، دخل شخص غاضب، وبدأ برشّ مادة البنزين فيها، بينما نحن في داخلها. أحد الثوار أدركنا في آخر لحظة. كانت الخيمة من الخارج أيضاً مبتلّةً بالبنزين، وبينما كان أحدهم يحاول إشعال قدّاحته، هجم عليه أحد الرفاق، وأوقفه. بات الثائر ليلته في المستشفى، بكسرٍ في يده. لم تكن هذه الحادثة الوحيدة. تتالت الهجومات، والتربص بالخيمة أكثر من مرة، وأكثر من مرة حوصر الثوار داخلها".

تُكمل سمر سردها لما كان يحصل: "في إحدى المرات، دعا نوح زعيتر إلى تظاهرة في ساحة الجبلي، في دورس، بحراسة مشددة من الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي، ولم يجد تجاوباً عند الناس مع دعوته، وعدد المتظاهرين في تلك الساحة كان لا يفي بالغرض، فأرسل ابنه إلى ساحة خليل مطران في بعلبك. وصل زعيتر الابن إلى الساحة، وطلب من المعتصمين، شاهراً سلاحه، التوجّه إلى ساحة الجبلي، حيث ينتظر والده، وبدأ بكيل الشتائم للمعتصمين، إلا أنّ عدداً من ناشطي الاعتصام تصدّوا له، واتّصلوا بوالده طالبين سحبه من الشارع، حتى لا تتطور الأمور"، وتضيف "في حديثٍ جانبي، أكّد زعيتر الأب أنه يتعرّض لضغوطٍ من حزب الله، للنزول إلى الاعتصامات، وتهديد كل مَن يتخطى الحدود المرسومة، ويهين الزعامات السياسية، والأمين العام لحزب الله، أو يتعرّض لهم".

هناك إشكالية حول نوح زعيتر، هي: "مَن يدير مَن؟". هل يسعى حزب الله إلى استرضائه لما له من شعبية بين أبناء عشيرته، ومن قدرة على التحكم بهم، أم العكس؟

علامات استفهام كثيرة تدور حول علاقة حزب الله بنوح زعيتر. يوصّف المحامي فراس علام، ابن مدينة الهرمل، هذه العلاقة بأنها قائمة على المنفعة المتبادلة بين الطرفين. يقول لرصيف22: "نوح زعيتر المطلوب الأول، يوفّر الحزب له غطاءً أمنياً في منطقته، حتى أن زعيتر تواجد في سوريا، في المناطق التي سيطر عليها حزب الله، حيث يلعب دور ‘روبن هود’، كما يلقّب نفسه، بينما يستفيد الحزب من زعيتر في ضمان شعبيته في عشيرة زعيتر، وهي كبيرة، بالإضافة إلى العشائر التي تربطها علاقات معه".

تذكر سمر أن "الخوف يلازم أهل المنطقة عند ذكر اسم نوح زعيتر. منطق القوة، واستسهال العنف من دون حسيب مخيفان إلى درجةٍ كبيرة. وحاول حزب الله استخدام هذه الورقة في الساحة، لإشاعة الخوف، إلا أنها لم تنجح".

في ساحة خليل مطران، حاول الناشطون الإبقاء على حراكهم قدر إمكانهم، إلا أن تفشي كورونا أعاق مخططاتهم، فقد عمد الجيش اللبناني إلى إنهاء التحرك، بسبب الأزمة الصحية الضاربة.

الثورة مساحة للتعبير

تحلل دراسة بعنوان "قوة التذكّر: الأحزاب السياسة، والذاكرة، والتعلم من الماضي، في لبنان"، أعدّها مدير "مركز البحوث التطبيقية في التربية" في جامعة سيدة اللويزة، باسل عكر، إلى جانب الأستاذة المساعدة في تاريخ غرب آسيا في جامعة إيرفورت الألمانية، مارا ألبرشت، ما تسمّيه "ثقافات تذكّر" خاصة بالأحزاب، تعمل على تأمين استمرارها عبر "شعائر سياسية" واحتفالات تكريمية ومواقع تذكارية وأغانٍ حزبية ومتاحف، لتربط مناصريها بالماضي محوّلة التاريخ إلى "أساطير وروايات" سياسية حزبية، خالصةً إلى أنه "يمكن اعتبار عملية تذكّر العنف والحرب المبنية على روايات متفاوتة كسبب لتجدد الصراع في المستقبل".

يقول عكر لرصيف22: "تعِدّ السلطة في لبنان، وهي انعكاس للأحزاب على الأرض، وجود الثوار في الساحات نوعاً من التهديد لمنظومة كبيرة، ما دفعها إلى التصرف معهم باللغة الوحيدة التي تعرفها: العنف".

ويضيف: "بالنسبة إلى الأحزاب، جاء الثوار كشعب ضد قيم الأحزاب المحافظة، مجموعات لا تمثّل أحداً، وضد القيم الاجتماعية للبيئات الحاضنة، الأمر الذي جعل السلطة تخاف، وتُظهر خوفها من خلال العنف".

برأيه، "خلقت ثورة 17 تشرين الأول/ أكتوبر ساحات ومساحات لم يُقدَّر لها أن توجد يوماً، ويظهر ذلك من خلال الهندسة الجغرافية للمدن، في بيروت والمناطق. فليس من مصلحة السلطة خلق مساحة عامة لما لها من أبعاد. المساحة العامة تعلّم الناس المشاركة، إلا أن الأحزاب اليوم ترسي مبدأً تقسيمياً على قاعدة ‘هذا لي وهذا لك’. من هنا، نسمع عبارات مثل ‘هذا الشارع لي وذاك لك’".

يدعم عيسى هذه الفكرة، فهو يرى أن انتفاضة تشرين "استطاعت خلق أرضية مشتركة لأناس كانوا يتقاسمون أفكاراً متشابهةً، من دون وجود مكان يجمعهم في السابق. كل فردٍ يختلف عن الجماعة، كان ينعزل بأفكاره وحده، إلا أنه في ثورة تشرين، رأيناهم كمجموعات، وليس كأفراد لديهم تعبيرات فردية، وفي ساحة واحدة".

من جهتها، تقول يونان: "في لبنان، الموجودون في السلطة هم امتداد لـ40 سنةً من قوى الأمر الواقع، والميليشيات، وحتى بعد صدور قانون العفو في العام 1991 عن جرائم الحرب، عادوا هم أنفسهم، واستمرّوا في الحكم بتوازناتٍ مختلفة. وعلى الرغم من عدم معاقبتهم من قبل أي جهة، فإن نمط العنف لدى عقلية الأحزاب مستمر، فهذه الأحزاب هي ميليشيات وُجدت بالعنف، وحققت وجودها في السلطة عبر نمط العنف، حتى لو انتقلنا إلى مرحلة ما بعد الحرب".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image