جدران تاريخية عتيقة ترك الزمن بصماته على أحجارها المتكسرة التي كساها الإهمال. أبواب ونوافذ لا تعرف الإحكام، حجرات وطرقات، دهاليز وأنفاق وخنادق لاتحوي شيئاً سوى الظلام الذي نمت فيه الخرافات يوما بعد يوم، فتحولت مع الزمن إلى حكايات تتوارثها اللأجيال، أصبحت مع الوقت حقائق لدى الكثيرين يروونها كتاريخ للمكان.
إنها طابية عرابي، المبنى الغامض الذي يحتل حافة مدينة عزبة البرج التابعة لمحافظة دمياط المصرية، والذي أدرجته وزارة السياحة الآثار المصرية ضمن المواقع الأثرية التابعة لها منذ سنوات. وبالرغم من ذلك طالته أيدي الإهمال وغيرت عوامل التعرية ملامحَه فأصبح في نظر الدمايطة مسرحاً لأحداث درامية لا يصدقها عقل.
يقول ناصر فودة شاب من أبناء عزبة البرج أنه منذ فترة قرر هو ومجموعة من أصدقائه دخول الطابية في منتصف الليل كنوع من أنواع التحدي والمغامرة لاكتشاف أسرارها والتأكد مما يدور حولها من حكايات. يحكي ناصر لنا: "ليلتها ظهرت قطة فجأة. وعندما سلطنا عليها الضوء من هواتفنا اختفت في غمضة عين. ارتعدنا وتركنا المكان هاربين".
ويواصل ناصر حديثة: "حينها تذكرت كل الحكايات التي ترسخت في ذاكرتنا ونحن أطفال عن الطابية والتي كان عقلي يرفضها. لكن بعد مشهد اختفاء القطة في الفراغ أصبحت كل الحكايات الخرافية التي اختزنتها في ذاكرتي أقرب للتصديق".
الطابية التي تعد واحدة من أكثر الحصون التاريخية تميزاً في طرازها المعماري تم ادراجها ضمن الآثار الاسلامية بمحافظة دمياط بالقرار 21 لسنة 1985
سهام فتحي إحدى نساء عزبة البرج في الثلاثينات من عمرها، زوجة وأم لطفلين تحكي لنا أن أمها كانت دوماً تحدثها عن رجل من أبناء العزبة دخل إلى النفق الذي يصل الطابية بمنطقة اللسان (حيث يلتقي نهر النيل بالبحر الابيض المتوسط)، والذي كان يستخدمه الجنود قديماً لمراقبة البحر وتخزين الإسلحة- في محاولة منه لاستكشافه، إلا أنه تاه بداخله، وخرج بصعوبة؛ ليتحدث عن أمور غريبة شاهدها في النفق، حتى فقد عقله بعد أيام قليلة من تلك الزيارة. وهو الأمر الذي أثار فضول سهام وهي طفله فقررت أن تكتشف النفق بنفسها تحكي سهام عن تجربتها:
عندما رددت أمي قصتها كثيرا هي وجيراننا في العزبة، أصبح عندي فضول غريب لاكتشاف المكان، لكنني لم أجرؤ على دخول النفق فكنت أذهب لرؤيته من الداخل عبر نوافذ الطابية وكنت أشاهد أحذية الجنود القديمة ملقاه في أماكن مختلفة. وعندما حكيت لأمي حذرتني من الذهاب وأكدت لي أن هذه الأحذية القديمة آخر ما تبقى من جثث جنود عرابي بعد تحللت وأصبحت تراب. وأن المكان مليء بعفاريتهم... فقررت ألا أذهب مرة أخرى.
الطابية التي تعد واحدة من أكثر الحصون التاريخية تميزاً في طرازها المعماري تم ادراجها ضمن الآثار الاسلامية بمحافظة دمياط بالقرار 21 لسنة 1985 لكن لم تجر بها أي أعمال صيانه أو حفر إلا كشف السور الخارجي للخندق والذي تم في 1989. كما قد صدر بحقها قرار ترميم منذ أكثر من 16 عاماً غير أنه لم يتم تنفيذه حتى الآن.
وقال حسين دقيل باحث وأكاديمي متخصص في الأثار تحدث عن الطابية:
في البداية ومنذ عام 854 من الميلاد، أمر الخليفة العباسي (المتوكل) واليه على مصر ببناء برجين عند مدخل النهر بدمياط، وظلا هذان البرجان يجدا الرعاية من حكام مصر وولاتها لزمن طويل، وكان هذا هو سبب تسمية المكان بعزبة البرج. غير أنه وعندما جاءت الحملة الفرنسية إلى مصر عام 1799م، وجدت مقاومة كبيرة من الأهالي عندما تحصنوا بالمنطقة، وقتلوا العديد من الجنود الفرنسيين، حينها قامت القوة الفرنسية بتدمير ما تبقى من البرجين وإقامة هذه الطابية على أنقاضهما.
وظلت القلعة تؤدي دورها في الحماية، وقد اهتم بها محمد علي، وعددٌ من أفراد أسرته الذي تولوا الحكم من بعده وعلى الأخص الخديو عباس والخديو إسماعيل، فحافظوا على مكانتها، وتم استخدامها في الدفاع ضد هجمات الإنجليز فيما بعد.
وقد لجأ إليها العرابيون عام 1882م كحصن في مواجهة الإنجليز، بل وكانت مركز قيادة الثورة في فترة من الفترات، فقد استخدمها أحد قادة الثورة العرابية الأميرالاي عبدالعال باشا حلمي- الذي توفي بمنفاه في سرنديب عام 1891م – استخدمها في الدفاع عن دمياط، وقام بتدعيمها وتحصينها. ومن هما جاء سبب تسميتها بطابية عرابي.
يذكر، داود بركات، في كتابه (الثورة العرابية بعد خمسين عاما، رؤية الأهرام)، هذه الطابية، حيث يقول يبين أنه وبعد أن استطاع الإنجليز الاستيلاء على العديد من الحصون والقلاع برشيد ودمياط وأبو قير خلال الثورة، ولم يتبق أمامهم إلا طابية عرابي التي كانت تحت قيادة الأميرالاي عبد العال باشا حلمى، الذي رفض الاستسلام وظل يقاوم وهو وجنوده الإنجليز، فحفروا الخنادق وأقاموا المتاريس، وكانوا في أعلى درجة الاستعداد، غير أنه وبمجرد أن وصلهم نبأ استسلام عرابي فترت عزائمهم، وفر بعض الجنود، ولما وصلت الجيش الإنجليزي أرسل إلى الأميرالاي عبدالعال حلمي باشا كي يستسلم، غير أنه رفض الاستسلام، فحاصره الإنجليز واعتقلوه وسجنوه مع عرابي ورفاقه في دار بجوار جامع أزيك في سبتمبر من عام 1982م.
والطابية عبارة عن سورين كبيرين بينهما خندق عرضه 14 متراً، يوجد بها العديد من الآثار الحربية الأخرى كأبراج المراقبة والدفاع، وغرف لسكن الجنود، وتخزين السلاح، ومسجد صغير.. لم ينجو من حكايات أهل المدينة الخرافية.
حيث يؤكد محمد هريدي صاحب مصنع صغير للحلوى بالمدينة أنه سمع من خادم المسجد منذ سنوات أن المسجد بنى إكراماً لشخص من المغرب كان يمر دوماً في ذلك المكان خلال ذهابه للحج. وفي إحدي المرات قتل بجوار الطابية وسرقت أمواله، فاجتمع العسكر المقيمين في الطابية للبحث عن القاتل، فاقترح أحدهم أن يسألون القتيل عن قاتله، فهو رجل صالح وله كرامات وحتما سوف يدلهم. ففعلوا وكانت المفاجأة أن القتيل أشار نحو قاتله ليدلهم عليه. فقرر العسكر على الفور إقامة ضريح للجثمان ومسجدا حوله اطلقوا عليه اسم مسجد المغربي.
عادل سعيد تاجر سمك من ابناء عزبة البرج أكد أن كل ما يتردد من حكايات حول طابية عرابي ما هي إلا خرافات من نسج خيال أهل العزبة، وأنه شخصياً لم يرى شيئاً غريباً فيها بنفسه. وأكد حزنه على إهمال مكان بهذه المساحة والقيمة التاريخية، وقال "شهدت بنفسي منذ خمسين عاما عمليات هدم للطابية كانوا بياخدوا أجزاء منها ويردموا شوارع العزبة وقت المطر للاسف الشديد وهذا ما أدى الى تدمير أجزاء كبيرة منها".
تتفق معه مروة السيد التي تعمل بمجال الأدوية، حيث تؤكد أن المكان عادي جداً، تمر بجواره خلال ذهابها لعملها وأحياناً اذا أرادت اختصار الطريق تعبر من داخله، سنوات وهي تفعل ذلك لا رأت عفريتاً ولا شبحاً. بل بالعكس المكان مع الوقت أصبح مرتعا للشباب الفاسد فكثيرا ما تصادف مجموعة من الشباب يشربون المخدارات في بعض غرف الطابية. وهذا ما يسيء للمكان أكثر من العفاريت وحكاياتها.
منى كامل خريجة كليه التربية وواحده من نساء العزبة، احتلت الطابية مكاناً هاماً في ذاكرتها فقد كانت تمر هي وصديقاتها عبرها للذهاب إلى المدرسة. تؤكد مني أنها وبالرغم من خوفها من ظلمة المكان وغرابته إلا أنه مميز جداً معمارياً وتاريخياً، وكانت تتمنى أن تستفيد منه المحافظة بالشكل اللائق، فجدير به أن يصبح مزاراً سياحياً او مجمع ثقافي مميز. فالطابية تقع على مساحة كبيرة جدا تقترب من الـ15 فدانا في موقع مميز جداً يؤهلها لان تصبح منارة ثقافية عالمية اذا وجدت اهتماماً من الحكومة المصرية.
تميز طابية عرابي معمارياً جذب العديد من المصورين المحترفين اليها والذين فاز بعضهم بجوائز دولية عن صور خاصة بها. كان منهم المصور الدمياطى الدكتور طارق هيكل
مختار القزاز مدير منطقة الاثار الاسلامية والقبطية بدمياط تحدث عن جهود المحافظة اتجاه المكان:
على الرغم من الإهمال الذي أصاب طابية عرابي منذ السبعينات، إلا أننا بدأنا الاهتمام بها وإدراجها في جدول رحلات الوعي الأثري الذي تنظمه منطقة الاثار حيث تأتي إليها زيارات طلابية من مختلف انحاء مصر.
وعلى الرغم من إدراج وزارة السياحة والآثار منذ سنوات للطابية كموقع أثري إلا أنها حتى الان لم تخصص ميزانية لترميمها وفقاً لما صرح به القزاز.
تميز طابية عرابي معمارياً جذب العديد من المصورين المحترفين اليها والذين فاز بعضهم بجوائز دولية عن صور خاصة بها. كان منهم المصور الدمياطى الدكتور طارق هيكل الذي حصد المركز الثانى في مسابقة ويكيبيديا لعام 2018 عن صورة لطابية عرابي.
كما تشهد الطابية مؤخرا اهتماماً كبيراً من شباب دمياط الذين قرروا انتاج فيديوهات مصورة عن المكان وتاريخية وانشرها عبر مواقع التواصل الاجتماعي في محاولة منهم لتسليط الضوء عليه ربما تنتبه له الحكومة المصرية ونقدر قيمته.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ يوملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري