لم تفارق كليوباترا الغواية حتى بعد ألفي عام على رحيلها الغامض. اشتهرت الملكة الأخيرة للسلالة البطلمية في الثقافة الشعبية للأسباب الخاطئة، إذ لا ينظر إلى دورها في قيادة البلاد ومحاولة الحفاظ على استقلالها النسبي عن الرومان، بل يستدعيها المؤرخون والشعراء كملكة عاشقة ضحت بحياتها من أجل الحب؛ لا هرباً من مواجهة الهزيمة وفقدان الاستقلال.
من الذين مروا على مصر أو حكموها، تمثل كليوباترا السابعة المعروفة اختصاراً بـ"كليوباترا"، ومن قبلها الإسكندر الأكبر، لغزين محيرين، إذ تفيد روايات مؤرخين بأن الأولى ماتت ودفنت في مصر، وتفيد روايات ضعيفة بأن الثاني طلب أن يحمل جثمانه من الهند كي يدفن في مصر. ولهذا ظل البحث عن قبريهما فكرة مثيرة تجتذب المغامرين والراغبين في الشهرة، وأحدثهم كاثلين مارتينيز، رئيسة بعثة التنقيب المشتركة بين مصر والدومينيكان التي تؤكد منذ 14 عاماً أنها على وشك التوصل إلى مكان دفن آخر ملكة عدت نفسها مصرية قبل الغزو الروماني الذي استولى على مصر بعد قتلها، وقبل 30 عاماً من ميلاد المسيح.
لقاء أنطونيوس وكليوباترا - لورانس ألما تاديما - 1885
حلم مارتينيز
في مقابلة مع موقع ذا ناشيونال في الرابع من ديسمبر/ كانون الأول الجاري، قالت مارتينيز: "كانت كليوباترا آخر فصل في الحضارة المصرية. لذا فإن العالم سيكون مهووساً بالعثور على قبرها بشكل يفوق ما حدث عندما تم التوصل إلى مقبرة توت غنخ آمون، الذي لم يكن سوى مجرد صبي تولى الحكم بعض الوقت".
من الذين مروا على مصر أو حكموها، تمثل كليوباترا السابعة ومن قبلها الإسكندر الأكبر، لغزين محيرين. ولهذا ظل البحث عن قبريهما فكرة مثيرة تجتذب المغامرين والراغبين في الشهرة، وأحدثهم كاثلين مارتينيز
هذا التعليق يشي بأن الباحثة لا تعرف سر الانبهار بمقبرة توت عنخ آمون، كونها كانت أول مقبرة تكتشف، وهي لا تزال موصدة وغير منهوبة. وهذه إشارة تدل على مدى معرفتها بعلوم المصريات ومحطات التنقيب عن الآثار المصرية.
وصف موقع "ذا ناشيونال"- صحيفة إماراتية تصدر بالإنجليزية- مارتينيز بأنها عالمة آثار غير محتملة، وقال: "المحامية الجنائية السابقة القادمة من الدومينيكان إلى مصر تحولت إلى عالمة آثار. وهي مصممة بعد انفصالها عن زوجها على حل لغز قديم أحبط العالم الأثري، وهو موقع قبر الملكة كليوباترا. وهي تمضي قدماً في ذلك رغم الانتقادات التي تعرضت لها بعد مغادرة بلدها".
لا يستفيض الموقع بعد ذلك في التعرض إلى تلك الانتقادات، ولا إلى شرح ما يعنيه بكونها "عالمة آثار غير محتملة".
من هي كاثلين مارتينيز؟
يطابق بروفايل مارتينيز شخصيات المغامرين الأوروبيين الذين توافدوا إلى مصر منذ نهايات القرن الثامن عشر للتنقيب عن الآثار، فهي قانونية "محامية جنائية"، ودارسة للاقتصاد تنتمي إلى أسرة ثرية ذات نفوذ اقتصادي وسياسي في دولة الدومنيكان الكاريبية، ساعدتها على افتتاح شركة المحاماة الخاصة بها وهي بعد في التاسعة عشرة من العمر. وحصلت مارتينيز في وقت لاحق – بعد فترة من زواجها- على ماجستير في الآثار.
المعلومات المنشورة في المقابلات والمقالات التي كتبت عن مارتينيز بالإنجليزية أو الإسبانية (اللغة الرسمية لجمهورية الدومينيكان)، تحدد من أي جامعة حصلت على الماجستير المتخصص في الآثار. هناك معلومة واحدة بهذا الخصوص نشرت في بروفايل في مجلة وارتون (تصدرها جامعة بنسلفانيا). تقول المجلة التي وصفت مارتينيز بأنها "مغامِرة"، إنها حصلت على الماجستير في الآثار كي تتغلب على الملل أثناء رعايتها طفلها الثاني في إسبانيا. وهذا يشير إلى أنها حصلت على ذلك الماجستير من إحدى الجامعات الإسبانية لأن جمهورية الدومينيكان "مسقط رأسها" هي جزيرة استيطانية، وعمرانها مبني على المهاجرين الأوروبيين وقليل من القبائل البولينيزية المحلية ولا يوجد في سجلها آثار.
تقلل مارتينيز من شأن اكتشاف مقبرة توت عنخ آمون باعتباره "مجرد فتى"، ما يشي أنها لا تعرف أن سر الانبهار بمقبرته، يعود إلى كونها كانت أول مقبرة تكتشف وهي لا تزال موصدة وغير منهوبة
مستعينة بثروتها، جاءت مارتينيز إلى القاهرة في 2006، بعد انفصالها عن زوجها، وسعت إلى تحديد موعد مع الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار – وزير الآثار الفعلي – وقتذاك، زاهي حواس، وعرضت عليه نظريتها حول موضع قبر كليوباترا.
وبالرغم من أن مارتينيز ليست لها سوابق عملية في التنقيب عن الآثار سواء بكتابة الأبحاث أو المشاركة في بعثات للتنقيب، وافق حواس على منحها تصريحاً بالعمل لتصبح رسمياً رئيسة بعثة أثرية تنقب عن قبر كليوباترا داخل معبد تابوزيريس ماجنا السكندري. واعترفت بها جمهورية الدومينيكان في 2018، بعد 12 عاماً من التنقيب، وعينتها مستشارة ثقافية في سفارة الدومينيكان في مصر، لتصبح رئيسة "البعثة المصرية الدومينيكانية المشتركة للتنقيب".
بحسب اللائحة المنظمة للتنقيب عن الآثار والمنشورة على الموقع الرسمي لوزارة السياحة والآثار المصرية، فإن الضوابط الأساسية لمنح تصاريح التنقيب عن الآثار تشترط أن يكون المنقبون، وعلى رأسهم رئيس البعثة، تابعين لجهة علمية (جامعة أو مؤسسة أكاديمية مختصة). وبحسب تصريحات مارتينيز نفسها فإنها حصلت على التصريح بالتنقيب باعتبارها "سفيرة ثقافية" لدولتها لا باعتبارها باحثة تابعة لجامعة أو مؤسسة مختصة في علوم الآثار، بحسب اشتراطات القانون.
كيف بدأت المهمة؟
تتحدث مارتينيز عن بداية عملها في مصر باقتضاب في حوارها مع موقع باب مصر: "وصلت إلى مصر في عام 2004 للقاء الدكتور زاهي حواس، الأمين العام للمجلس الأعلى للآثار في ذلك الوقت، لأقترح فكرتي في قيادة مشروع للتنقيب عن أنقاض"تابوزيريس ماجنا" وبعد عام، منحتنا اللجنة الدائمة بوزارة الآثار رخصة التنقيب".
لكنها تكشف لناشيونال جيوغرافيك تفاصيل أخرى: "في عام 2004 راسلت زاهي حواس عبر البريد الإلكتروني ولم أتلق رداً، فسافرت إلى القاهرة حيث تمكنت من لقائه بمساعدة مرشد سياحي، ورفضت أن أفصح له في البداية عن رغبتي الحقيقة بالبحث عن قبر كليوباترا حتى لا يتهمني بالجنون، وطلبت زيارة أماكن أثرية غير مفتوحة للجمهور، وبالفعل حصلت على إذن بزيارة هذه الأماكن".
في عام 2005 عادت مارتينيز إلى مصر وحملت إلى حواس نبأ تعيينها سفيرة ثقافية للدومينيكان وأخبرته أنها زارت معبد تابوزيريس في العام الماضي وتريد أن تعود إليه مجدداً، بزعم أن هناك بقايا كنيسة قبطية يهتم بها الدومينيكيون، فوافق حواس. وبعد أن قامت بتصوير الموقع عادت إلى حواس وأخبرته أنها تريد التنقيب في المكان لاعتقادها بوجود قبر كليوباترا فيه، وهو ما أثار دهشته، خاصة مع وجود فرق تنقيب فرنسية ومجرية كانت تعمل في المكان، ولكنها ألحت عليه، وقالت امنحني شهرين وسأعثر على القبر، وذلك وفقاً لناشيونال جيوغرافيك.
بالرغم من أن مارتينيز ليست لها سوابق عملية في التنقيب عن الآثار سواء بكتابة الأبحاث أو المشاركة في بعثات للتنقيب، وافق المسؤولون على منحها تصريحاً بالتنقيب
أمضت مارتينيز في مهمتها أكثر من 15 عاماً لم تتمكن خلالها من الكشف عن مكان قبر كليوباترا، لكنها تصر على أن ذلك ربما يكون وشيكاً. تقول لناشيونال جيوغرافيك: "لا يمكن أن تجد أي إشارة في أي مخطوط قديم تشير إلى المكان الذي دُفنت فيه كليوباترا، لكنني أعتقد أن كليوباترا خططت لكل شيء مسبقاً، بدءاً بأسلوب حياتها، مروراً بطريقة وفاتها، وصولاً إلى الكيفية التي أرادت أن يُكشف بها قبرها".
ورغم أن مارتينيز لم تشارك في أعمال تنقيب سابقة في مصر أو في غيرها ولا توجد معلومة تشير إلى أية سابقة لها، فإنها تترأس اليوم بعثة للتنقيب عن قبر كليوباترا.
معلوم أن زاهي حواس أثار صدمة كبيرة العام الماضي في تصريحات أدلى بها إلى وكالة الأنباء الإسبانية إذ استبعد وجود مقبرة كليوباترا في معبد "تابوزيريس ماجنا" غرب مدينة الإسكندرية، حيث تابع مارتينيز عن قرب لمدة 12 عاماً. وأضاف: "لا يوجد دليل علمى على ذلك. وأعتقد أن كليوباترا دفنت في مقبرتها في قصرها [الغارق] تحت الماء الآن، ومعظم ما عثرنا عليه خلال أعمال التنقيب لا يتعلق بكليوباترا".
"ضجيج بلا طحين"
يستبعد عالم الآثار بسام الشماع في حديثه لرصيف22 أن تعثر المغامٍرة الدومينيكانية على قبر كليوباترا، ويقول: "هناك غموض في شأن مارتينيز التي لم نسمع أنها شاركت في أعمال تنقيب عن الآثار من قبل، فلا نعرف شيئاً عن ثقافتها أو أفكارها أو عن الأسباب التي دفعت زاهي حواس لمنحها تصريحاً بالتنقيب عن آثارنا دون أن يكون لها أية سابقة عمل في هذا المجال. علاوة على هذا كله فإنها لم تحقق ما وعدت به ولو بنسبة ضيئلة. وهي لا تفعل شيئاً سوى استخراج بعض التماثيل الصغيرة بين الحين والآخر. ولو كان المسؤول عن هذه البعثة مصرياً لما ظل في موقعه هذه المدة الطويلة التي تجاوزت خمسة عشر عاماً من دون إنجاز".
ويضيف: "هذه الفترة الطويلة تستدعي مساءلة زاهي حواس عن المبررات التي اعتمد عليها في منحها تصريحاً بالتنقيب".
وانتقد مارتينيز قائلاً: "إنها لا تسعى لشيء سوى الشهرة. فلم نسمع عن عالم آثار في التاريخ تحدث عن وصوله لكشف كبير قبل أن يحدث ذلك كما فعلت هي، إذ لا تكف عن الحديث عن اقترابها من الوصول لقبر كليوباترا".
أمضت مارتينيز في مهمتها أكثر من 15 عاماً لم تتمكن خلالها من الكشف عن مكان قبر كليوباترا، لكنها تصر على أن ذلك ربما يكون وشيكاً
إنجازات كشفية
الباحث المختص في الآثار محمد النجار يختلف مع الشماع حول أهمية ما تقوم به مارتينيز ويقول لرصيف22: "القانون نظم عمل بعثات التنقيب الأجنبية في مصر وهي تخضع في عملها لرقابة كاملة من إدارة شؤون البعثات بالمجلس الأعلى للآثار. كما أن بعثة الدومنيكان تتبع جهة علمية هي جامعة سانتو دومنيجو التى رشحت مارتنيز لتمثيلها في هذه المهمة، ولا يمكن منح تصريح تنقيب لأية جهة من دون أن تتوفر الضوابط اللازمة لذلك، والبعثة تعمل في منطقة يقع بها معبد تابوزيريس التاريخي".
بحسب المعلومات الرسمية المتوفرة عن جامعة سانتو دومينيغو، التي يفترض أن بعثة مارتينيز تابعة لها، فإن الجامعة – بحسب موقعها الرسمي كذلك- لا تضم كليات أو أقساماً تدرّس علوم الآثار أو تهتم بالبحث فيها.
ويضيف أن البعثة حققت إنجازات كشفية كبيرة خلال العام الجارى إذ أزاحت الستار عن 16 مقبرة منحوتة في الصخور. كما تمكنت من استخراج مومياء تحوي لساناً مصنوعاً من الذهب، "وهو ما كان شائعاً خلال العهدين البطلمي والروماني في مصر. وكل هذه شواهد تراها مارتينيز مؤشراً على وجود قبر كليوباترا"، وفق النجار.
تدمير القبر
أما الدكتور حسين عبد البصير مدير متحف الآثار بمكتبة الأسكندرية فيقول لرصيف22: "قبر كليوباترا من الصعب جداً الوصول إليه. وأرجح الروايات أنه تم تدميره ومن المستبعد تماماً في حال وجود القبر أن يكون في المنطقة التى تنقب فيها مارتينيز منذ سنوات طويلة. ولا يوجد أي شواهد تاريخية تعزز الفرضية التي تلهث خلفها مارتينيز".
ويشدد "على أننا سمعنا من المؤرخين القدماء من يتحدث عن قبر الإسكندر الأكبر لكننا لم نسمع أحداً منهم تطرق إلى قبر كليوباترا".
حصلت مارتينيز، المحامية الجنائية، على ماجستير في الآثار "للتغلب على الملل". وأتت لتنقب في مصر تحت لواء جامعة "سانتو دومينيجو" التي لا يوجد بها أقسام أو معاهد علمية مختصة في الآثار
"لا مخالفات قانونية"
الدكتور زاهي حواس وزير الدولة لشؤون الآثار السابق، في مصر والذي كان يشغل منصب أمين المجلس الأعلى للآثار وقت حصول مارتينيز على تصريح التنقيب، يقول لرصيف22: "حصلت مارتينيز على تصريح بالتنقيب بعد طلب رسمي تقدمت به في ذلك الوقت استوفى الاشتراطات الرسمية، ووافقت عليه اللجان المختصة، وتمكنت البعثة المصرية الدومينيكانية التى تترأسها على مدار سنوات من تحقيق بعض النجاحات عبر اكتشاف مجموعات من المقتنيات وقطع الآثار. ولكن لا يوجد في الوقت نفسه ما يشير إلى وجود قبر كليوباترا في المنطقة التى تعمل بها البعثة".
فيما أكد مصدر في المجلس الأعلى للآثار تحدث لرصيف22 شريطة عدم الإفصاح عن اسمه، قال: "هناك علماء مصريون يشاركون في التنقيب عن الآثار مع مارتينيز في معبد تابوزيريس، ووهذا كله يخضع للرقابة من مسؤولين مختصين بوزارة الآثار، كما هو متبع مع البعثات الأجنبية، ولا يمكن تجميد عمل البعثة لعدم العثور على قبر كليوباترا، فربما يتم هذا لاحقاً أو لا نجد له أثراً. ولكن في كل الأحوال فإننا أمام منطقة آثرية يجب أن يتواصل التنقيب فيها".
وختم: "هناك لجنة متخصصة تضم عدداً من الكفاءات تتولى ملف بعثات التنقيب الأجنبية ولا شأن لها بالجدل الذي يثار حول هذا الشخص أو ذاك في وسائل الإعلام، أو ما يردده من تصريحات. فهي تتعامل مع مستندات رسمية، من بينها السيرة الذاتية الخاصة بكل فرد من أفراد الفريق، والجهة العلمية التي يتبعها. وبالتالى فمزاعم السماح لهواة أو غير متخصصين بالمشاركة في أعمال تنقيب غير واردة إطلاقاً".
تواصل رصيف22 مع سفارة جمهورية الدومنيكان للحصول على موعد مع كاثلين مارتينيز، أو وسيلة للتواصل معها للرد والتعليق، لكن السفارة لم تتح أية وسبلة للتواصل حتى الساعات الأخيرة قبل نشر التحقيق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ يومرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون
Ayman Badawy -
منذ أسبوعخليك في نفسك وملكش دعوه بحريه الاخرين