المضطرب حين ينجو
نحن جميعا نسبح في جحيمنا الخاص، أشقياء على هذه الأرض، بؤساء ما لم نتقبل الحياة.
منذ ما يقارب أربع سنوات كنت أسمع عن الاكتئاب، لكن لم أكن أعرف كيف لشخص حي أن يكتئب، أليس من الواجب أن نشعر بالامتنان كوننا أحياء؟ لم أفكر أن الحياة بكل هذا البهاء وفي الوقت نفسه بهذا القدر من البشاعة، لطالما رأيت أن البحث عن الجمال وإدراكه واجب إنساني والارتقاء بالروح كفيل أن يحمي الإنسان من أي اضطراب نفسي. ربما كان جهلا بعلم ما ! نعم هو كذلك...
كل ما في الأمر أني عشت أياماً وردية، أقطع فيها شوطاً مهماً نحو النجاح والأحلام والطموحات والدراسة والعمل والعلاقات والسفر، أتجه بحماس كبير نحو رغباتي وأستقبل الأيام استقبالاً يليق بجمال الورد والسماء.
تدريجياً فقدت سيطرتي على نفسي، وجدت صعوبة في قبول الوضع العام حتى أني لم أعرف كيف أتجاهله، بدأت أنسحب رويداً من كل ما يحيط بي، أجد راحتي في العزلة تخميناً مني أنها مجرد استراحة و فرصة للتفكير، فلم أنتج شيئاً طيلة سنتين، لا طاقة لي للعيش، أصبحت في حالة من الاستسلام الكامل، كأن يكون تصفح كتاب أو قراءة مقال فعلاً مرهقاً.
تساءلت أين من الممكن أن تختفي كل تلك الأطياف البنفسجية؟ كانت فترة صعبة تستمر آثارها إلى اللحظة. التخبط في اللاجدوى أبغض ما قد يصارعه المرء على الإطلاق.
من المستحيل تحديد نقطة التحويل ولحظة التغيير التي جعلت إنساناً يغمره الأمان شخصية مهزومة خائفة تفشل حتى في التفكير، ما أكثر معاركي وما أقوى انكسار الصوت الإنساني بداخلي.
الغريب أنه لا يكتفي بتمزيقك من الداخل، بل ينعكس على ملامحك فتظهر بحلة جديدة من الاصفرار والذبول.
منذ ما يقارب أربع سنوات كنت أسمع عن الاكتئاب، لكن لم أكن أعرف كيف لشخص حي أن يكتئب، أليس من الواجب أن نشعر بالامتنان كوننا أحياء؟... مجاز في رصيف22
ليالي مرة من الظلامية الروحية، الآلام الجسدية، الضيق الخانق، استعادة كل المواقف المؤلمة والتفاعل مع صغائر الأمور مقابل البرود التام اتجاه أحداث مصيرية، ردود فعل غير متوقعة و صراع محتدم بين "الأنا " و"الهو".
رحلة البحث عن أسرار الحزن الدفينة بدل الإيمان باستحقاق السعادة، فقدان الشعور تجاه الآخرين، بحيث يصبح حضورهم وغيابهم وجهين لعملة واحدة، كما قد نتخلى عن الكثير من الفرص التي كانت في يوم من الأيام تحدث فارق في حياتنا.
أول مرة قررت فيها زيارة الطبيب لم تكن بشكل مباشر
كنت أشعر بضيق تنفس شديد أعاني منه يومياًـ يتزامن مع غروب الشمس، حيث أقضي ليالي صعبة إعياء ودوخة. قصدت أقرب طبيب مختص في الأمراض الصدرية، فحصني جيداً ثم استطرد قائلاً: "جهازك التنفسي سليم، أما نقص الأوكسجين في حالتك فمجرد وهم".
لم اقتنع كثيراً، فبالنسبة لي أنا فعلاً أختنق ولا يمكن لأحد في الكون أن يشعر بما أشعر به كل ليلة. توالت زياراتي من حكيم لآخر، طبيب الأمراض القلبية ومن ثم طبيب الأمعاء والمعدة، حيث قمت بمعظم التحاليل الطبية، كان رأيهم واحداً، كل محاولاتي نحو التشافي كانت هدراً للوقت والمال.
حاصرني الشك. ربما حالتي بحاجة فعلاً لطبيب نفسي، لم أتردد في اتخاذ قرار كهذا رغم أسعار الكشف المرتفعة، التي لم تكن لتناسبني كطالبة لا تملك دخلاً شهرياً...خضت التجربة فقناعتي بالعلاج لم تكن تتأثر بالمنظومة الاجتماعية كما أرى أن رأي الآخرين يخصهم فقط.
نفس الأسبوع أخذت موعداً، في تمام الساعة السابعة صباحاً كنت عند الباب الخلفي لمستشفى مصطفى باشا أسأل عن عنوان العيادة، قطعت طريق أحمد غرمول مشياً على الأقدام، أصوات مختلفة تقتحم هذا الرأس: هل أنا مريضة حقا؟ بماذا سيخبرني؟ كيف سأبدأ الحديث معه؟ وهل لشخص عادي أن يفهمني أكثر مما أفهم نفسي؟ و كأني أجيب نفسي بشكل غير مباشر: "لست على طبيعتك" .
وصلت الأولى، لكني لم أكن الوحيدة. شاهدت حالات معقدة لا حصر لها، أصعب من حالتي بكثير، فئات عمرية مختلفة، حالات مستعصية لا يمكنها الحياة من غير طبيب وأدوية، أليس صعباً أن تحمل بطاقة المرض النفسي كما تحمل معك الهوية؟
سأفتح قوساً لأربط هذا بذاك، قد أكون على خطأ، لكني أحسب أنهما الشيء نفسه، فالهوية بالنسبة لي تكتسب عبر الزمن كما يكتسب المرض النفسي. إنك لا تستطيع أن تتصور كم يساهم المحيط والأحداث العامة في الوصول بنا إلى هنا... إلى العيادة.
الغريب أن الاكتئاب لا يكتفي بتمزيقك من الداخل، بل ينعكس على ملامحك فتظهر بحلة جديدة من الاصفرار والذبول... مجاز في رصيف22
الكثير يربط هذه الحالات بالمس أو الجنون أو الانحراف أو نقص الإيمان، كل ما يجب استيعابه أن المرض النفسي، كغيره من الأمراض العضوية، قابل للعلاج. فقط يحتاج منا قناعة بذلك. إذن الدين لا يحمينا من الأمراض النفسية، ربما يساعدنا في تجاوزها، ومن ناحية أخرى قد يكون ابتلاء يجب أن نصبر عليه.
أخيراً قابلت الدكتور (ي.م) ولا أجد نفسي إلا أبكي بكاء السنين، هذا كل شيء... البكاء.
بعد حوالي ربع ساعة سألني عن الهدف من القدوم. تناثرت مني القصص واختلطت علي الأحداث بين الحاضر والماضي، طفولتي والمستقبل وأني لا أجد حلاً لنوبات الاختناق، لا أحد يفهمني، ولا أستطيع البوح بمخاوفي، تعبي كان حقاً كبيراً، حديثي سريع كأنما أنطق لأول مرة، أشتهي أن أخبره عن تفاصيل حياتي في جلسة.
بعد لحظات طلب مني الهدوء، تعرف علي أكثر و من ثم أخبرني أني أعاني من الاكتئاب الحاد، حاول تبسيط الحالة لأقصى حد: " ليس بالمرض الذي لن يشفى، لكن لا يجب أن يهمل لأنه سيتطور لحالة أكثر تعقيداً".
وصف لي مضاداً للاكتئاب، وقطع لي موعداً بعد شهر. ساعدني الدواء على الاسترخاء والنوم لأيام، تخلصت فيها من نوبات الاختناق الشديدة والأرق، أصبحت أكثر سلاماً. كل ما يمكنني الجزم به أن الشخص الذي دخل العيادة لا يشبه الشخص الذي خرج منها.
شعرت بإقبال على الحياة، والاستمرار في ما كنت قد بدأت. أتخيل في تلك اللحظة أني إنسانة يمكنها بلوغ عنان السماء... أتخيل فقط.
استمرت فترة العلاج التي تقيدت بها حوالي أربعة أشهر، يفصل بين كل موعد وآخر شهر أو 15 يوماً، حسب الحاجة بعد التوقف عن تناول المضادات في تمام الشهر الأول. كنت بحاجة للكلام لا أكثر والحقيقة أن الدكتور (ي.م) كان مستمعاً طيباً، كم أعجبني حينئذ أن يهتم أحدهم بكلامي فيمسك ورقة وقلماً.
الاكتئاب كالظل يغير الزاوية لكنه لا يختف
لا أنكر أني بدأت أرتاح تدريجياً، خاصة من الآثار العضوية إلا أني لم أنته من المرض تماماً. أصبح على شكل نوبات من الحزن تحضر وتغيب بشكل مفاجئ، توقفت عن زيارة الطبيب بعد تأقلمي مع وضعي الجديد، صرت أفهم حالتي أكثر من ذي قبل وأجيد التعامل معها، بحثت حول مرضي أكثر كما ابتعدت عن الضغط وكل ما يمكن أن يزعجني، حاولت خلق جو وظروف جديدة تنجيني من الغرق، لم يكن الأمر سهلاً، فالرجوع للعمل والدراسة والمشاريع العالقة مازال يبدو ثقيلاً.
هل يمكن للحب أن ينجي المكتئب من الغرق في الظلال؟
العلاقة العاطفية الصحية إضافة لكنها ليست علاج، كل ما يمكنني التصريح به أنهما إن اجتمعا يجعلان المرء في حيرة أكبر. يزعم بعض المحللين النفسانيين أن الحاجة لشريك والفشل في الاندماج مع كيان آخر من أهم الدوافع التي انتهت بالكثير من المشاهير الفنانين إلى الاكتئاب، ما جعلهم يضعون حداً لحياتهم حيث يعتقدون أنهم لو وجدوا الحب في الوقت المناسب لما غادروا الحياة سريعاً.
لم يمنعني مرضي من الحب والزواج والأمومة، إلا أن التأكد من قراراتي المصيرية آنذاك كان بحاجة إلى زيارة جديدة لطبيبي النفسي بدافع بعض الأسئلة حول الارتباط المصيري والمسؤولية، ومدى استعدادي لخوض هذه التجربة؟
باختصار زيارتي الأخيرة أكدت لي أننا عندما نعيش في الظلام يسهل علينا رؤية الأشباح وتوقع الأسوأ من الحياة، ولأننا ببساطة لا يمكننا نقل الكوابيس لأي طبيب نفسي أو شخص آخر حتى ينقذنا منها قررت أن أنقذ نفسي بنفسي، لست وحيدة بعد الآن في الحياة متسع للحلم، أريد أن أموت وأنا أمسك بيد الحب من جهة وبيد طفلي من جهة، أليس من المتعارف عليه أن جراح المرء تشفى على كف الطفولة، كل ما علينا هو تغيير زاوية النظر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 22 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت