اهتمت السينما السعودية مؤخراً بقضايا المرأة في مجتمع شديد الخصوصية والتعقيد، ولا شك أن النساء اللواتي عانين التهميش في مجتمعاتهن هن مادة خصبة، ونبع يفيض بالحكايات بسبب القمع وممارسة السلطة الأبوية إلى حدودها القصوى عليهن، وحرمانهن من الكثير من الحقوق، التي ربما تكون بديهيات في مجتمعات أخرى.
المرأة كـ"همّ" سينمائي
كانت البداية مع فيلم "وجدة- 2012"، إخراج هيفاء المنصور، الذي ينطلق من بطلته المراهقة المتمردة، التي لا تهتم بغطاء الرأس، وتحلم بشراء عجلة وقيادتها في الشوارع، مثلما يفعل أقرانها، إلى تسليط الضوء على عدة أزمات، كتعدد الزوجات، والزواج المبكر، وعمل المرأة. وهذا ما فتح الباب لأفلام أخرى تطلق سهامها نحو هذه الممارسات الجائرة بحق المرأة، مثل فيلم "عُمرة والعرس الثاني" للمخرج محمود صباغ، وفيلم "سيدة البحر" لشهد أمين، وغيرهما.
ويمثل فيلم "بلوغ" الذي عرض أخيراً في افتتاح مسابقة "آفاق السينما العربية" بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الثالثة والأربعين، أحدث هذه الأفلام التي تتخذ من قضية المرأة السعودية موضوعاً لها، وتؤكد أن مشكلاتها أصبحت هماً شاغلاً للصناعة الوليدة، بعدما تم إعطاء صوت للمرأة السعودية لتعبر عن نفسها. فقد كان هذا المشروع مسابقة موّلها مهرجان البحر الأحمر لصناعة فيلم عن النساء من وجهة نظر المخرجات.
"البلوغ" ومشاعر المرأة
تعني كلمة بلوغ في اللغة العربية الوصول إلى هدف ما، أو وصول المرء إلى عمر الرشد، الذي يُمنح فيه امتيازات إضافية، ويتحمل قدراً أكبر من المسؤولية. ويبدو أن هذا هو المعنى الرمزي، الذي أراد صناعه إدراج حكاياته الخمس تحته، وتحمل كل منها عنواناً يعبر عن إدراك بطلاتها، وحياة كل منهن.
يبدأ الفيلم بحكاية "كريمة سُمية" للمخرجة نور الأمير، مسلطاً الضوء على إجبار الفتيات على الزواج، فمن المعروف أن هذه العملية يقررها رجال العائلة، وليس للفتاة سوى الامتثال.
لا نرى العروس، ولا نعرف تحديداً ما إذا كانت رافضة للزواج في المطلق أو للزوج بشكل خاص، ولكننا نرى غرفتها شاغرة في ليلة عرسها، ومحاولات أمها سُمية المستميتة للبحث عن ابنتها، ومنع فضيحة على شفا الانفجار.
"بلوغ" كلمة لا تعبر عن بطلات الفيلم فحسب، بل أيضاً عن المرحلة الحالية التي بدأ فيها المجتمع السعودي يدرك أهمية الفن والسينما والكشف عن عورات المجتمع خلالهما
أما المخرجتان، سارة مسفر وهند الفهاد، فتتجنبان في فيلميهما القصيرين فتؤثران الحكي عن المشاعر الأنثوية والأمومية والفقد.
تختار مسفر في فيلمها "ضَباح" حكاية عن مرحلة شديدة الحساسية والتأثير في حياة أي امرأة، تلك التي ينقطع فيها الطمث. فتستعرض محاولات بطلتها اليائسة لاسترجاع طمثها المقطوع، ومشاعرها المضطربة بين الكآبة والخوف من أبسط الأشياء، وإحساسها بالألم عند احتضان رضيع باكٍ لأنها لن تعود قادرة على الإنجاب مرة أخرى.
تختار الفهاد الحكي في فيلمها "المرخ الأخير" عن نوع آخر من الفقد، ربما أشد إيلاماً، هو فقدان الابن، فنرى شخصية القابلة العجوز، التي تساعد النساء على حل مشاكل الإنجاب، بينما تعيش مع خيال ابنتها التي فقدتها قبل سنوات، ومريضتها الصيدلانية الشابة التي فقدت جنينها.
وتروي المخرجة فاطمة البنوي في فيلمها "حتى نرى النور" حكاية رمزية عن قوة النساء، ومحاولتهن النجاح وتخطي الأزمات، رغم كل ما يحيط بهن من عقبات والتقليل من شأنهن، فنرى شخصية أم المطلقة وهي محاطة بالجدران والسيارات داخل مرأب البناية التي تسكنها.
تحاول الأم جاهدة استدعاء عامل المرأب أو مالك السيارة، التي تقف في طريقها لكن بلا جدوى. في النهاية تجد طريقها للخروج رغم الخدوش والرضوض التي تتعرض لها سيارتها.
في الفيلم القصير الخامس "مجالسة الكون" تسلط المخرجة، جواهر العامري، الضوء على مرحلة البلوغ الجسدي لدى الفتيات، وقدوم الدورة الشهرية، التي تصورها المجتمعات العربية كوحش يلتهم براءة الطفولة، ويحوّل الفتيات إلى كائنات مخيفة جالبة للمصائب والعار، ويجب التخلص من عبئهن بتزويجهن سريعاً. هذه الصورة تجعل الفتيات يتعاملن مع حيضهن بكراهية واشمئزاز، رغم ما يحمله من معان الحياة والخصوية.
ثريا بطلة هذه الحكاية تغسل يديها بعنف واشمئزاز بعد أن فاجأها طمثها الأول وشبح أمها التي تخبرها أن "غلطتك اليوم صارت بعشرة".
فتيات يتعاملن مع الحيض بكراهية واشمئزاز، رغم ما يحمله من معان الحياة والخصوبة، بسبب مجتمع يصوره كوحش يلتهم البراءة، ويحول الفتيات إلى كائنات مخيفة جالبة للمصائب والعار، في الفيلم السعودي "بلوغ"
دعونا نتفق على أن الأفكار العظيمة والنوايا الطيبة لا تصنع بحد ذاتها فناً جميلاً، وإلا ما فائدة استخدام وسيط فني بالأساس، فقط من أجل بعث الحياة في هذه الأفكار.
فرغم نبل المسعى، تفتقر الأفلام الخمسة إلى تيمة موحدة تمثل عموداً فقرياً يربطها معاً، ولا يمكن الارتكان إلى فكرة المعاناة المجردة لأنها تعبير عام فضفاض، خاصة أن هذه الحكايات لم تطرح قضايا اجتماعية أو إنسانية متماسكة.
عانت الأفلام من اضطراب واضح في السيناريو، وطرح مباشر فج في بعض الأحيان لم ينج منهما سوى فيلم "كريمة سُمية"، الذي يعد متكامل التكوين على المستوى الفني.
ولا يمكن التذرع بحداثة سن صناعة السينما السعودية، لأنها ليست صناعة نابتة في الصحراء، إذ هناك الكثير من الأفلام السعودية، التي أنتجت خلال السنوات الماضية، فكانت على قدر كبير من الحرفية أهلتها للمنافسة والفوز بالجوائز في مهرجانات دولية.
عدا أن مخرجات هذه الأفلام لسن "دخيلات" على الصناعة، لكنهن جزء منها، وإن خاضت بعضهن هذه التجربة للمرة الأولى.
ولكن تظل الرغبة في إعطاء النساء، والمبدعات تحديداً، الفرصة للتعبير عن أنفسهن ومشاعرهن ورؤيتهن لما يتعرضن لهن من قسوة وعنف خطوة جيدة، في سبيل التخلص من التعتيم الذي خيم على حياتهن لسنوات طويلة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...