انطفأت أضواء الشاشة الفضية سنوات طويلة في المملكة العربية السعودية، وحرم أهلها من اختبار وقع السينما على النفوس مثلما حُرموا من مظاهر أخرى تحتفي بالحياة. ولكن من مسّه سحر الأفلام وافتتن بعوالمها لا يمكن أن ينساها تماماً، لذا اعتاد السعوديون التردد إلى الدول المجاورة لمشاهدة الأفلام في صالاتها. إلى أن جاءت الانفراجة بقرار رفع الحظر المفروض على دور السينما، وتبعه الإعلان عن تدشين مهرجان سينمائي دولي على الساحل الشرقي للبحر الأحمر.
تأتي خطوة إقامة مهرجان البحر الأحمر السينمائي (من 6 ديسمبر/كانون الأول إلى 15 منه) في مدينة جدة ضمن سياسة جديدة منفتحة تسعى إلى تحديث صورة البلاد وتحريرها من قبضة الأفكار المتطرفة لجذب الاستثمارات وتنويع مصادر الاقتصاد الوطني.
من هذا المنطلق، تُبذل جهود واضحة لتأسيس صناعة سينمائية متكاملة تحقق عوائد مالية وتدعم الفن الناشئ في المملكة.
ساحة خليجية مفتوحة
مع بداية الألفية الجديدة، نشطت الحركة السينمائية في منطقة الخليج من خلال تنظيم مجموعة مهرجانات متخصصة، مثل مهرجان دبي السينمائي ومهرجان أبو ظبي السينمائي، تفتح الباب لصناع الأفلام في المنطقة للإبداع والانفتاح على إنتاجات السينما العالمية، بالإضافة إلى أنها تنشىء أسواقاً للإنتاج المشترك بين العالمين العربي والغربي. وعلى الرغم من تحقيقها نجاحات ملموسة على أرض الواقع، فإن الإيقاف دون إبداء أسباب واضحة كان مصير غالبية تلك المهرجانات.
على سبيل المثال، استطاع مهرجان دبي السينمائي عرض أكثر من 2000 فيلم خلال 14 عاماً، منها 500 فيلم عربي. كما لعب دوراً كبيراً في إنجاز نحو 300 فيلم من المنطقة، وبلغ عدد جوائزه الممنوحة قرابة 200 جائزة ضمن مسابقة المهر المرموقة لصانعي الأفلام العرب الموهوبين.
كذلك تمكن مهرجان أبو ظبي السينمائي من استقطاب أبرز إنتاجات العالم في برنامجه ليعرضها مع أعمال عربية، واهتم أيضاً بإطلاق صندوق "سند" لدعم السينمائيين مادياً، واستكمال أفلامهم الروائية والوثائقية الطويلة.
راهناً، تبدو الساحة السينمائية الخليجية شبه خالية، وهناك فرصة أمام المهرجان السعودي لملء هذا الفراغ، واستعراض إمكاناته المادية في اختيار فرق العمل تضم أسماءً ذات باع طويل في حقل المهرجانات الدولية، وبرمجة الأفلام ودعم المشاريع.
وقد قرر أن يفتتح دوراته بـ25 فيلماً في عرض عالمي أول، و48 فيلماً في أول عرض عربي، و17 في عرض أول بمنطقة الخليج، وفقاً للمؤتمر الصحافي.
ترى إدارة المهرجان أن الانطلاقة ضرورة مُلحة لتنشيط قطاع صناعة الأفلام في العالم العربي. وتقول لرصيف22: "نحمل على عاتقنا مهمة وضع السينما السعودية والعربية على خريطة السينما العالمية. ويسعدنا أن تكون ثمّة مهرجانات أخرى تشاركنا في الرؤية والهدف نفسيهما، ونتمنى وجود أكبر عدد من المهرجانات في الخليج لما في ذلك من أثر إيجابي على المنطقة".
الجدير بالذكر أن برنامج المهرجان يخصص قسماً للروائع العربية، ويحتفي بأحدث إنتاجات المنطقة ويضم أفلاماً مثل "استعادة" للفلسطيني رشيد مشهراوي، و"غدوة" للتونسي ضافر العابدين، و"الامتحان" للعراقي الكردي شوكت أمين كوركي. إلى جانب تدشين قسمين للسينما السعودية لاحتضان الإبداعات المحلية، أحدهما للأفلام الطويلة والآخر للقصيرة.
دفع عجلة الإنتاج
يدرك القائمون على المهرجان أن المهرجانات الكبرى تسهم في صناعة الأفلام ودعمها في مراحل الإنتاج المختلفة. من هنا جاءت فكرة إطلاق صندوق البحر الأحمر الذي تقدر قيمته بـ14 مليون دولار أمريكي لتمويل أكثر من 100 مشروع بمنح ضخمة تصل إلى 500 ألف دولار. وهذا ما يتيح الفرصة أمام المخرجين العرب والأفارقة لصناعة الأفلام الطويلة سواءً كانت روائية أو وثائقية، بالإضافة إلى أفلام التحريك والمسلسلات. ولكن يقتصر دعمه في الأفلام القصيرة على السينمائيين السعوديين فقط.
كذلك ينظم الصندوق سوقاً تجمع محترفي صناعة السينما من المنطقة والعالم، وتضم مجموعة من الأنشطة، منها جلسات لعرض المشاريع، وورشة للأفلام قيد الإنجاز، ومنطقة للعارضين، وندوات ولقاءات تعارف.
أفلام جريئة مثل اللبناني "دفاتر مايا"، والأمريكي "الابنة الضائعة" سيتم عرضها في السعودية بلا رقابة، فكيف سيتفاعل معها الجمهور الغائب عن السينما لعقود؟ أم سيقتصر الحضور على النقاد والصحفيين؟
تمثل هذه الخطة الإنتاجية انتعاشة كبيرة للسينما الخليجية، التي تأثرت سلباً بسبب غياب السعودية عن المشهد السينمائي عدة عقود. فالكثافة السكانية كانت ولا تزال ميزة تتمتع بها المملكة وتعزز فرص الإقبال على دور العرض ووجود عائد مادي يشجع المنتجين على الاستثمار في مجال صناعة الأفلام، كما يشير المخرج البحريني بسام الذوادي، في مقال تفصيلي عن أثر السينما السعودية على دول الجوار. فهو يرى أن "إطلاق العنان للسينما صناعةً وعرضاً في المملكة التي يتجاوز عدد سكانها 32 مليون نسمة، بات من المرجّح أن باباً فُتح لكل دول الجوار الخليجي لتحقيق أفلام سينمائية وعرضها على كثافة سكانية خليجية، تقدَّر اليوم بـ 43 مليوناً وخمسمئة ألف نسمة، يضاف إليهم عدة ملايين من المقيمين. وبالاعتماد على مثل هذه الكثافة السكانية، والنسب المرتفعة المحتملة لعدد المشاهدين، بات من الممكن والمجدي اقتصادياً إنشاء بنية تحتية، والاستثمار في صناعة الأفلام وبناء دور العرض وإقامة المهرجانات ومدن السينما وجذب الصناعات السينمائية الأخرى إلى الأستديوهات ومراكز الإنتاج في المملكة والخليج".
الرقابة داخل المهرجان وخارجه
كل هذه الطموحات والآمال المعلقة على المهرجان مهددة بسبب الخوف من فرض رقابة على حرية الإبداع، والتحكم في محتوى الأعمال السينمائية المشاركة.
علماً أن الأفلام المعروضة في المهرجانات لا تخضع لنفس المعايير، التي تلتزمها دور السينما التقليدية، إذ لا يجوز حذف أي مشاهد لما في ذلك من مخالفة للبروتوكولات الدولية. أقصى ما تستطيع فعله بعض المهرجانات هو وضع تصنيف عمري لأفلام معينة أو جعل الحضور مقتصراً على النقاد والصحافيين.
هناك تساؤلات عدة حول مدى احتمال تدخل إدارة المهرجان السعودي في مضمون الأفلام، بناءً على لوائح تنظيمية داخلية أو بشكل طوعي لإرضاء الجمهور الخليجي. خاصة مع تضمن البرنامج أعمالاً سينمائية ذات محتوى جريء نسبياً، مثل الفيلم الإسباني الأرجنتيني "المسابقة الرسمية"، والفيلم اللبناني "دفاتر مايا"، والفيلم الأمريكي "الابنة الضائعة".
"نحن نختبر العديد من الأمور في دورتنا الأولى، كما يحدث في دورة أي مهرجان أو أي حدث ثقافي في أي مدينة"
تشير الشروط والأحكام المُعلنة على الموقع الرسمي إلى أن جميع الأفلام لن تتعرض لأي نوع من أنواع الحذف أو المونتاج دون الحصول على موافقة خطية مسبقة من أصحاب الحقوق، مما يفتح سبيلًا لإجراء تعديلات بشكل أو آخر. وتعلق إدارة المهرجان على هذه المخاوف: "نلتزم عند اختيارنا للأفلام بقبولها وعرضها وفقاً لتحرير صُنّاعها، دون أي تدخّل منّا، تقديراً لرؤاهم الفنّية".
مع ذلك، قد يكون للجمهور الخليجي المستهدف تأثير على اختيار الأفلام ودعم التجارب الجديدة لضمان جذبه إلى العروض، خاصة مع وجود مبادرات مثل "سينما الحارة" المعنية بإقامة فاعليات في الهواء الطلق بمختلف أحياء جدة خلال أيام المهرجان. وينظر القائمون على الدورة الافتتاحية إلى الأمر باعتباره عملية تبادلية.
تقول الإدارة: "دور المهرجان أن يُعرّف الجمهور على أفلام فنّية خارجة عن النسق التجاري المألوف، ولا تحتضنها -في العادة- صالات السينما التجارية. ولكن المهرجان يراعي -أيضاً- ذائقة الجمهور، ويتعلم كيف يمكن أن يرضي هذه الذائقة، ويسهم في توفير ما قد يلامسها ويوفر للراغبين فرصة الارتقاء بها. نحن نختبر العديد من الأمور في دورتنا الأولى، كما يحدث في دورة أي مهرجان أو أي حدث ثقافي في أي مدينة. نعمل على إرضاء الذوق العام وتقديم ما يصقله. نتطلع إلى أن يتم استقبال مهرجاننا كضرورة ثقافية وفنية وترفيهية، لكننا أيضاً في المقابل، لا ننسى التزامنا الرئيسي إزاء الجمهور والمواهب العديدة داخل أراضي المملكة العربية السعودية".
من الصعب التكهن برد فعل المشاهد السعودي حيال الأفكار المغايرة لموروثاته أو التجارب المختلفة عن السائد. لكن الملاحظ من خلال إيرادات شبابيك التذاكر التقليدية هو حالة التعطش للسينما بشكل عام، والرغبة في التردد إلى صالاتها، في الوقت الذي تزداد فيه قوة المنصات الرقمية يومياً حول العالم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون