في روايته "ثورة الأيام الأربعة"، يكتب المغربي عبد الكريم جويطي، أن "الجبل يُلملم جراحه، ويلزمه وقت طويل لذلك، الناس تعبت ولن تغامر مرةً أخرى، دعوهم يلتقطون الأنفاس، دعوهم أرجوكم".
كلمات الروائي تنطبق على سكان جبال الأطلس في المغرب، الذين كلّما حلّ موسم البرد، قاسوا الأمرَّيْن.
جراح الجبل
جراح الجبال، وأهلها، يلزمها وقتٌ لتندمل. هي مفتوحة على الدوام. مفتوحة وعارية أمام سنوات التاريخ. وعلى الرغم من أنها قاومت الاستعمار، إلا أنها لم تستفد شيئاً من رياح الاستقلال.
تُعدّ منطقة أزيلال، في جبال الأطلس، من بين المناطق التي تُطوّقها الثلوج، ويخنقها الصّقيع، ويحبس البرد أنفاسها، في موسم البرد.
يعاني السكان، كلّ سنة، من العزلة التامة عن العالم الخارجي. وبين عزلة الجبال وسكونها المخيف، وبين الثلوج التي تطوّق السكان من الجهات كلها، يعيش الأهالي عالَمهم الخاص، وأنينهم الصامت، وسكونهم الذي تحتضنه جبال الأطلس بملء فجاجها، وقممها، وتجاويفها الفسيحة.
تبعد جماعة "زاوية أحنصال"، عن مدينة أزيلال، 82 كيلومتراً، وتنقسم إلى ثلاث قبائل: قبيلة آيت عطا، وقبيلة إحنصالن، وقبيلة آيت عبدي، وداخل الجماعة (بلدية) تتفرّق القرى، وتبتعد عن المركز، وتقترب منه، إذ تبلغ المسافة بينه وبين أبعد قرية أكثر من 70 كيلومتراً، وهي منطقة تطغى عليها التضاريس الوعرة، والمناخ القاسي، شتاءً وصيفاً، وتتفاوت هذه القساوة كلما ابتعدنا عن المركز.
طُرق وثلوج وعزلة
محمد بن سعيد، من سكّان زاوية أحنصال، أكد لرصيف22، أن المنطقة تعيش خلال موسم الأمطار والثلوج "قصصاً لا يعرف عمقها وتفاصيلها ومعاناتها إلا سكّان المنطقة"، مشيراً إلى أن الطرق الرئيسية من أزيلال إلى الجماعة، "تنقطع عند سقوط الثلوج، فيُمنع المرور منها، حتى يكون الجو صافياً. آنذاك، تتدخل مندوبية وزارة التجهيز لفكّها، وتبقى في كل الأحوال خطيرةً بسبب الانزلاقات".
أما الأنكى، يقول بن سعيد، فهي الطرقات المتفرعة المؤدية إلى الدواوير، والتي لا يعبرها الواحد إلا بشقّ النفس، مؤكداً أن هناك دواوير "ما زالت معزولةً، ولا تتوفر على أي مسلك، ومنها دَوَّار (بلدة) تاغية الذي لم تصله الطريق بعد".
حالة الأطفال والنساء في هذه الظروف القاسية، شبيهةً بالتجنيد الاجباري، فالكل يعملون في هذه الأجواء رغماً عنهم، سواء أكانوا أطفالاً أو نساءً. موسم الثلوج في جبال الأطلس
وأوضح الرجل أن السكان في المناطق مضطرون إلى الانسجام مع الطبيعة، والتكيّف معها. فحين يقترب فصل الشتاء، يضطرون إلى تحزين الأكل والعلف، تحسباً للعزلة عن بقية العالم، فلا تسوّق، ولا طبابة، ولا مدرسة، عندما تتساقط الثلوج، أو الأمطار. إنه انفصال تام عن العالم الخارجي، إلَّا في الحالات الضرورية والقصوى التي تفرض الكثير من المغامرة والتحدي الذي ينتهي في الكثير من الأحيان بمآسٍ إنسانية.
عندما تكون إحدى الأسر مضطرةً إلى نقل أحد مرضاها، وخاصةً النساء الحوامل، يكون الأمر عاجلاً، فيُحمل الشخص على نعشٍ إلى أقرب مكانٍ تتوفر فيها سيارة الإسعاف، لإيصاله إلى المصحّة الموجودة في مركز الجماعة.
وتُعدّ المصحّة بدورها مشكلةً، إذ "لا يوجد فيها طبيب، وهناك بعض الممرضات اللواتي يُجبرن على توجيه المريض إلى المستشفى الإقليمي في أزيلال، ولا يصل المريض في هذه الأحوال، كما في الأيام العادية، إلى المستشفى، حتى تتدهور حالته، إن لم يمت في الطريق، لا قدّر الله"، يضيف بن سعيد.
حالة الأطفال والنساء في هذه الظروف القاسية، تكون شبيهةً بالتجنيد الاجباري، كما يرى أبناء المنطقة، فالكل يعملون في هذه الأجواء رغماً عنهم، سواء أكانوا أطفالاً أو نساءً، والهدف "توفير بعض الكلأ للماشية على وجه الخصوص، ويتم ذلك وسط البرد والصقيع، وعدم توفر التدفئة التي تزيد المعاناة ألماً"، يقول محدّثنا، ويستدرك بالقول: "أما حكاية النساء الحوامل في مثل هذه الظروف، فقصصهن تُعدّ الأكثر قساوة".
طريق بلا وجهة
شارك الرجل شخصياً في نقل النساء الحوامل، حملاً على الأكتاف، لإيصالهن إلى المشفى، وكذا حالات مرضية أخرى كثيرة تم التعامل معها بالطريقة نفسها"، وأحياناً حاصرته ورفاقه الثلوج. يقول "لم نستطع وسطها حتى التمييز بين الشمال والجنوب، إذ تكون الطريق مغلقةً تماماً، لتترك الأمر لله وللقدر، وتسجل مغامرتك الجديدة في مذكراتك إن كُتبت لك النجاة".
الحسين أمراي، من سكان جماعة زاوية احنصال، يتذكّر قصةً وقعت في ظروف مشابهةٍ، وأثّرت فيه. يحكي لنا قصة "امرأة من دوار تغيغت كانت في حالةٍ مرضيةٍ صعبةٍ تزامنت مع سقوط الثلج، وانقطاع الطريق والمواصلات تماماً، ما جعل عائلتها تواجه الظروف بشكلٍ محرجٍ للغاية، إذ عانت كثيراً بسبب صعوبة وصولها إلى المستشفى. كانت مأساةً إنسانية عشتها بأمّ عيني".
حكاية النساء الحوامل في مثل هذه الظروف، تُعدّ الأكثر قساوة وينقلن على الأكتاف لانقطاع الطرق بسبب الثلوج
واسترسل أمراي في حديثه عن متاعب السكان قائلاً: "هناك مستوصف (مصحّة) واحدٌ لأزيد من عشرة آلاف شخصٍ يعيشون في جماعة زاوية أحنصال وحدها. جميع سكان الجماعات الثلاث، آيت بوكماز، وآيت محمد، وزاوية أحنصال، ينقلون مرضاهم إلى أزيلال، وبني ملال، ومراكش"، مشيراً إلى مشكلة أخرى تتعلق بـ"المماطلة التي تعانيها الأسر، وطول الانتظار إلى حين وصول الموعد، بالإضافة إلى ظروف الفحص والاكتظاظ في المستشفيات. إنها معاناة مزدوجة ومركّبة للأسف".
طرق مهترئة
"هنا يقلّ كل شيء، إلا منسوب الصبر والأمل"؛ بهذه العبارة تحدّث نور الدين محيي الدين، إلى رصيف22، وهو من سكّان "آيت بوكماز"، التي تبعد عن زاوية أحنصال مسافة 62 كيلومتراً.
إنها منطقة جبلية فيها قلب جبال الأطلس الكبير، على علو 1800 متر عن سطح البحر، وتحيط بها جبال طولها أربعة آلاف متر، وتعرف خلال فصل الشتاء تساقطاتٍ ثلجيةً، وانخفاضاً في درجة الحرارة الدنيا إلى ما دون الصفر، مما يزيد من معاناة أهاليها.
يصف محيي الدين حالة البنية التحتية عموماً، والطرقية في أثناء سقوط الثلوج، بـ"الكارثة، فواقعها مؤلم إذ بدل أن تُخفف من أنين السكان ومعاناتهم، فهي تزيد من حدّتها".
وأوضح المتحدث أن السكان يواجهون هذه القساوة والمعاناة "بمنسوب الصبر أولاً، ثم إنهم يتّخذون كافة الاحتياطات قبل دخول فصل الشتاء، من توفير التدفئة والمؤونة ومختلف الضروريات"، مبيّناً، في السياق نفسه، أن حالة الأطفال والنساء تُعدّ "أشدّ وطأةً بحكم أن المرأة هي عَمُود الحياة في هذه المناطق المنسية، فهي تقوم بجلب الحطب للتدفئة، كما تقوم بجلب الكلأ للماشية".
طب بديل... وغياب السياسيين
في هذه الجبال، يغيب السياسيّون، كما تغيب معالم الطرقات، ويصف محيي الدين تحركات المنتخبين على أنها "محتشمة، ويتيمة، وفقيرة، كمّاً وكيفاً"، مشيراً إلى أن "تلك العوالم الجبيلة للأسف تخترقها السياسة طولاً وعرضاً، لكن بارتجال وعشوائية، وبسياسة تنموية عرجاء، وغير واضحة المعالم".
وحسب المتحدّث، فإن نقطة الضوء تتمثّل في "مبادرات أغلبها من المجتمع المدني (القوافل الإنسانية)، تزوّد السكان بالحاجيات الضرورية، من مأكلٍ وملبسٍ، وتساعد في فكّ العزلة عنهم، حتى يتمكّنوا من مواجهة قساوة البرد والثلوج".
من جهته، يقول لحسن آيت المغروس، من سكّان قرية تباشكوت التابعة لجماعة "تمدا نومرصيد"، أن أغلبية السكان لديهم قدرة مكتسبة عبر السنوات والتاريخ، على التكيّف مع هذه الأجواء، إذ هناك استعداد دائم لمواسم الشتاء. فأغلبية الأسر الميسورة، يقول المتحدث، تكون لديها احتياطات ومؤونة للتخزين، مشيراً إلى أن الإشكال الأكبر هو المدرسة التي تُعدّ "التحدّي العميق جداً"، إذ يحدث "انقطاع كلي عن فصول الدراسة حتى ترجع الأجواء إلى حالتها الطبيعية، مما يضيّع على الأطفال حقهم في التعليم والتعلّم".
وبخصوص العلاج، أوضح آيت المغروس، أن السكّان يلجؤون إلى الطب البديل، سواء في فصل الشتاء أو خارجه، فالمنطقة في الأحوال كلها، تعرف "نقصاً فظيعاً في جانب التطبيب والمستوصفات، لذلك فالناس هنا يلجؤون للأعشاب وغيرها من الوسائل، للتداوي. إنهم يعانون، فليس هناك لا رعاية ولا دعم، الناس يكافحون والدولة غائبة، الناس هنا يعيشون وفق العادات، وما توفره الطبيعة، ويعانون من الأمراض والروماتيزم".
وشدد آيت المغروس، على أنّه، وفي كلّ سنة، وفي أثناء موسم الشتاء، نشاهد قصصاً خاصةً بالولادات، إذ تُحمل النساء فوق البغال، وكثيرات منهن يمُتن في الطريق، ووسط الثلوج، وهناك حالات لمواشٍ غمرتها الثلوج ونفقت، وأحياناً يحدث ذلك للبشر، كما وقع في دوار آيت عبدي، إذ غُمر العديد من الناس وسط الثلوج. ويسترسل بأسى: "عشنا قصصاً كأطفال في التسعينيات من القرن الماضي، وما زال الأطفال يعيشونها، من انتفاخ اليدين والرجلين، وضياع قطعان المواشي التي تُعدّ المصدر الوحيد للأسر، إنها مآسٍ حقيقية لا يعرف مرارتها إلا سكان الجبال".
ضوء في العتمة
يؤكد آيت المغروس، أن هناك موجةً جديدةً من الفاعلين الشباب الذين لديهم غيرة على هذه المناطق، وهناك تحركات وفق المتحدث، "إذ ازدادت مساحة الطرق المعبّدة على العموم، فهناك طريق تربط بين آيت بوكماز وآيت محمد، وطريق زاوية أحنصال. هناك تحسّن بخصوص الربط بالمسالك وتشجيع السياحة الجبلية".
لكن الرجل يعدّ أن هذه المستجدّات نسبية: "لكن لنكن واقعيين، فمشكلة الثلوج صعبة، ويصعب أن تجد لها حلولاً عمليةً ونهائية"، ونوّه المتحدث بما تقوم به بعض المنظمات المدنية على الصعيد الوطني، عبر تنظيم بعض المبادرات التضامنية، من توزيع الملابس والمواد الغذائية في فترة الشتاء، فهي "وإن بدت حلولاً ترقيعية، وليست حلولاً ناجعةً ومستدامةً، إلا أنها تنمّ عن الحسّ التضامني الذي بين المغاربة، في هذه الظروف الصعبة".
ويقترح آيت المغروس، مجموعةً من الحلول، من بينها دعم الدولة للسكان بأعلافٍ للماشية، خاصةً في تلك الفترة التي يصعب فيها الوصول إلى الأعلاف، مع مواكبتهم وتوفير المواد الغذائية الأساسية والملابس ووسائل التدفئة. فالسكان يعيشون في مناطق نائية، بل في الكهوف، ولا سكناً يحميهم، ولا موقداً يدفئهم، ولا غذاءً يطفئ نار جوعهم".
أما أمراي أمراي، فقد دعا القطاعات الحكومية كلها إلى تبنّي إستراتيجية واضحة تأخذ بعين الاعتبار شمولية القطاعات ذات الصلة وفاعليتها، من صحةٍ وتعليمٍ وعملٍ وبيئة، عبر تشجيع الدراسة، وتكثيف الأنشطة المدرّة للدخل، وإعطاء الفرصة للشباب الحاصلين على شهادات لينخرطوا إيجابياً في تنمية المنطقة، بدل الصراعات السياسية والقبلية التي تضيّع على المنطقة فرص التنمية، وتزيد من تأزيم أحوال سكانها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...