نلعبُ لعبة الغمّيضة مع الزمن، نحنُ سيئات الحظ اللواتي هُدرَت أعمارُهن بين حروبٍ، وثوراتٍ، وجوائح...
تحاولُ كلٌّ منا أن تخبّئ العمر في حقائبها... وأن تزورهُ كمن يزورُ هويةً.
"لو يرجع فينا الزمن لورا...!".
جملةٌ تتكررعلى ألسنتنا، وتُقال بين حديثٍ وآخر، وكأنها أمنيةٌ سهلةٌ، في بلدٍ كلُ ما فيه مستحيل.
الجمال، والصورة الحلوة، والأنوثة... كلها مفردات ناقضت المصطلحات الحربية، والأخبار العاجلة.
في العقدين الأخيرين، أُلقيت على كاهل النساء السوريات مسؤوليات لم تكن ضمن جدول واجباتهن؛ فالأحوال المادية ضيّقة، والطوابير طويلة تستنزفُ كل أفراد الأسرة، خاصةً أن موضوع الخدمة العسكرية صار تهديداً للرجال عموماً، فكان عليهن القيام بمهماتٍ مضاعفةٍ استُهلك فيها العمر، لتأمين المتطلبات المعيشية اليومية.
مع ذلك، كثيراتٌ تحايلن على الزمن، وابتكرن وسائل دفاعية لردّ فعله، عبر استثمار المتاح لصنع المعجزات.
الزمن العملاق، كيف تسجنينه في قمقم؟!
أصبغُ شعري مثلاً!
تهربُ النساء إلى المرايا، قد تجد فيها متنفساً يعيدُ إليها بعض الاستقرار النفسي، أو بعض الهدوء، خارج إطار الضغوط اليومية التي عليهن مجابهتها.
تقول سلمى، التي تعمل في نزع الشعر، أن عملها لم يتوقف في أثناء اندلاع المعارك في منطقتها، بل كثيراتٌ من زبوناتها أردن أن يكنّ بكامل أنوثتهن، إن حصل وخطفتهن رصاصةٌ فجأةً
في أثناء عملي في منظمة الهجرة الدولية، كان علينا تقييم احتياجات الأسر التي استطاعت الهروب إلى أماكن أكثر أماناً، حاملةً معها اللوازم الضرورية، والأوراق الثبوتية، لكننا وجدنا أن الكثيرات من النساء لم يعجزن عن تأمين قلم كحلٍ، أو أحمر شفاه... أو أن بعض أدوات التجميل قد نزحت فعلاً مع صاحباتها، في أصعب ظرفٍ يمكن أن تتعرض لهُ!
دائماً لدى الأنثى ما يفاجئك، وما يقلب الطاولة على الحرب، وعلى الموت.
تقول سلمى، التي تعمل في نزع الشعر، أن عملها لم يتوقف في أثناء اندلاع المعارك في منطقتها، بل كثيراتٌ من زبوناتها أردن أن يكنّ بكامل أنوثتهن، إن حصل وخطفتهن رصاصةٌ فجأةً.
الجمال، والصورة الحلوة، والأنوثة... كلها مفردات ناقضت المصطلحات الحربية، والأخبار العاجلة.
تقول عبير: "اشتركت في جمعية لساوي بوتكس!".
تخبرنا أمُ حسن أن الطبيب بشّرها بأنها ستعيش سنواتٍ إضافيةً، بعد العملية الجراحية لقلبها. تتصل بابنها في أربيل، وتقول له: "جهّزتلك قلب جديد لو تجي"!
نساءٌ كثيرات استطعن تأمين ثمن زيارة عيادة تجميل، أو صالونٍ للحلاقة، كوسيلة دفاعية لردّ الزمن، إذ ترى كلٌ منهن أن ذلك حقٌ مشروعٌ لها كأنثى. فعلى الرغم من تدهور الأحوال الاقتصادية، والظروف المعيشية الصعبة لدى الأسرة السورية، إلا أننا نشهد في السنوات الأخيرة ازدياداً كبيراً في عدد مراكز التجميل التي تلبّي الشرائح كلها على اختلاف مستواها المادي، أو الاجتماعي.
حتى الفلترات المستخدمة في الصور، هي تجميل زمني بعد سنواتٍ من الضغوط التي يقاسيها شعبٌ بأكمله، ولكن العمر عدّادٌ مضاعف علينا نحنُ النساء.
"يقول لي: اصبري كم سنة، وباخد الجنسية، ربما في ذاك الوقت سأكونُ عاجزةً عن الإنجاب!".
"أربع سنوات، وتقطعني الدورة الشهرية. أخاف من أن أصير في 'سن اليأس' قبل أن تُفرَج هذه الأحوال!".
هذا هاجسُ كثيراتٍ ممن يعاركن الوقت، أو يختبئن عن الزمن، عدوّنا اللدود، والشبح الذي يقف على عتبة الأربعين.
"دراسة بريطانية تقول إن عمر الشباب يستمرُ حتى سن الخامسة والستين".
"اليوغا حلّ لشبابٍ دائم".
أقلّب بين هذه العناوين، وأشتري كتب التنمية الذاتية، وأكتب، وأخرج مع صديقاتي، ونتذكر أيام الدراسة، والعلاقات العابرة، والأحلام المؤجلة... أنجبُ طفلاً، وأشتري "كريم" لتأخير التجاعيد، وأنتقي عشيقاً، وأتصالح مع المرايا... لكن الوقت يمرّ، وانتظار ما لا يأتي صار محبِطاً.
البلادُ تشبهنا. تصارع الزمن بأدواتٍ بسيطة، وحيلٍ مقدورٍ عليها، لكنها تنتظر كما نحن.
تخبرنا أمُ حسن أن الطبيب بشّرها بأنها ستعيش سنواتٍ إضافيةً، بعد العملية الجراحية لقلبها. تتصل بابنها في أربيل، وتقول له: "جهّزتلك قلب جديد لو تجي"!
الانتظار حليف الزمن. ندفع في سبيله العمر بالعملة الصعبة، وكأن الأيام ليس لها ثمن... ننتظرُ حبيباً يقف على جبهةٍ، وننتظرُ فيزا، أو لمّ شملٍ، ومفقوداً، أو سجين حرب... لكن العمر لا ينتظرُ أحداً، والوسائل التي ابتكرتها النساء تبقى بدائيةً، أو فعلاً تخديرياً لحياةٍ تقهرُنا.
"افتتحنا حصةً للرقص الشرقي. كانت معنا فتياتٌ يعانينن من الاكتئاب في فترة الحجر، أو الأرق، وامرأة نصحها طبيبها بالرياضة، لعلاج خطوطٍ بيضاء تفشّت في جسدها، نتيجة صدمةٍ نفسيةٍ في أثناء الحرب... جميعن هربن من هذا كله، إلى ساعةٍ واحدةٍ من الرقص والضحك"
تقول منال، مدرّبة في نادٍ رياضي: "افتتحنا حصةً للرقص الشرقي. كانت معنا فتياتٌ يعانينن من الاكتئاب في فترة الحجر، أو الأرق، وامرأة نصحها طبيبها بالرياضة، لعلاج خطوطٍ بيضاء تفشّت في جسدها، نتيجة صدمةٍ نفسيةٍ في أثناء الحرب... جميعن هربن من هذا كله، إلى ساعةٍ واحدةٍ من الرقص والضحك".
الرقص سلاحٌ مشروعٌ لقتل الزمن.
الخمسينية التي كانت ترقص في النادي، كانت تهرُّ سنواتٍ من اليأس...
الرغبة، والشغف، والشوق، والشهوة... كلّها تخبو، وتنطفئ، وتموتُ مع الوقت، لكننا نساءٌ عنيدات نحاولُ ألا نخسرها بسهولةٍ. نضنُّ بالعمر لأننا نخاف من أن نعجز عن منحه لمن نحب.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 22 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت