في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، تصدر اسم كاتبة إسبانية تدعى كارمن مولا وكالات الأنباء العالمية، في واقعة لا تحدث عادة إلا عند إعلان اسم الفائز بجائزة نوبل، لكن مولا التي أعلن عن حصولها على جائزة بلانيتا الإسبانية للرواية، صارت محط الاهتمام العالمي عندما صعد ثلاثة رجال لاستلام جائزتها، وأعلنوا أنهم هم الثلاثة، كانوا يتبادلون الكتابة تحت اسم كارمن التي تبين أنها شخصية وهمية.
أجوستين مارتينيز وخورخي دياز وأنطونيو ميركيرو الذين تسلموا الجائزة تحت اسم مولا، كانت لديهم مبررات لم تقنع محرري الادب المختصين، برروا بها انتحالهم اسم امرأة لنشر أعمالهم - التي تنتمي إلى أدب الجريمة- تحته. وبحسب صحيفة الغارديان، لم يكن الرجال الثلاثة ليعلنوا عن هوياتهم لولا قيمة الجائزة التي تتجاوز قيمة جائزة نوبل (مليون يورو).
إلا أن مفاجأة كارمن مولا لم تكن أمراً مستحدثاً، فقد عرف الأدب الغربي، كما العربي، عشرات الكتاب الذين كتبوا تحت أسماء مستعارة، إما لأسباب اجتماعية، أو لدوافع إبداعية، وأشهر من كتبوا تحت أسماء عديدة غير اسمهم الحقيقي لأسباب إبداعية، كان الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا، الذي صارت أسماء الشخصيات التي كتب تحت أسمائها أعلاماً أدبية في ذاتها، باعتباره قد خلق شخصيات جديدة ذات عوالم مختلفة وثرية، وليس مجرد أسماء مستعارة.
تاريخ عربي للتخفي
لمدة 22 عاماً، نالت روايات الجزائرية ياسمينة خضراء اهتماماً لدى قراء منطقة المغرب العربي، ومثل كارمن مولا، كانت ياسمينة تنشر قصصاً وروايات تصنف تحت أدب الجريمة. وفي العام 2000، بعد ما يزيد على العقدين من الكتابة والنشر منذ العام 1978، تبين أن ياسمينة خضرا ما هي إلا زوجة الكاتب محمد مولسهول التي اختار أن يكتب تحت اسمها رواياته خلال فترة عمله بالجيش، وأفصح عن هويته الحقيقية بعدما أنهى خدمته. ولا تزال المواقع والدوريات الأدبية تحاور مولسهول وتصدر عناوينها باسميه ياسمينة خضرا ومحمد مولسهول.
في تسعينيات القرن الماضي، وضع يوسف أسعد داغر، الباحث اللبناني المختص بعلم المكتبات والبيبلوغرافيا والتوثيق، مؤلفه " معجم الأسماء المستعارة وأصحابها". في كتابه يرصد الباحث أن التخفي في الأدب العربي قديم قدم نهضة عمليات التأليف والترجمة العربية في القرن الرابع الهجري. مذكراً بأن المؤلفات العربية الكبرى كرسائل إخوان الصفا والترجمات ومؤلفات الحكي التي تطورت عبر عشرات السنوات مثل ألف ليلة وليلة، لا تزال أسماء كتابها مجهولة إلى يومنا هذا. وكذلك السير العربية الكبرى التي ربما وضع بذرتها مؤلف، قبل أن تتدخل فيها مخيلات الرواة لتضيف إليها وتسبغ عليها صفة السيرة الملحمية، كما في مرويات تغريبة بني هلال أو الزير سالم وعنترة بن شداد وغيرهم.
يورد داغر فهرساً طويلاً من كتاب عراقيين ومصريين ولبنانيين وسوريين، نشروا في الصحف منذ مطلع القرن الماضي متخفين وراء أسماء مستعارة، أكثرهم رجال كتبوا تحت أسماء نساء
أما عن التخفي وراء أسماء مستعارة في أزمنة أحدث، يورد داغر فهرساً طويلاً، من كتاب عراقيين ومصريين ولبنانيين وسوريين، نشروا في الصحف السيارة منذ مطلع القرن الماضي متخفين وراء أسماء مستعارة، أكثرهم رجال كتبوا تحت أسماء نساء، مثل زكي عبدالحميد سليمان الذي كان يكتب مقالات في مجلة الصباح المصري تحت اسم "أبلا روز" أو نساء كتبن تحت أسماء مستعارة منهن جليلة بنت صالح علي، أول طبيبة مصرية تنشر مقالاتها في الصحف، وأول عربية تتخصص في الصحافة العلمية، ونشرت مقالاتها في مجلة يعسوب الطب التي أشرف عليها يعقوب صنوع، وهي كذلك أول صحيفة علمية عربية متخصصة، وكانت تكتب تحت اسم "جليلة تمرهان". ومن الطرائف أن أم كلثوم عندما أحبت أن تراسل الصحف، اختارت أن تتخفى وراء اسمها الحقيقي "فاطمة إبراهيم" وذلك بحسب فهرس يوسف أسعد داغر.
"ليست أمراً غربياً"
يقول أستاذ الأدب العربي الدكتور حسين حمودة لرصيف22 إن الكتابة تحت الأسماء المستعارة "شائعة ومشتركة بين مجتمعات وثقافات متعددة، ولها أبعاد كثيرة"، وبحسب حمودة، وُجدت تلك الظاهرة في العالم العربي لأسباب مختلفة تتصل بالسياقات العربية المختلفة كثيراً عن مثيلتها الغربية.
سمر نور: "الكتابة يُصاحبها إحساس بالمسؤولية تجاهها. ومن مظاهر تحمل تلك المسؤولية: الظهور علناً"
هذه الأسباب تفسرها الروائية منصورة عزالدين: "في أغلب الأحيان يلجأ الكاتب العربي إلى التخفي وراء اسم مستعار بسبب الخوف، أو بحثاً عن حرية قد لا يتيحها استخدام اسمه. وهذا أمر يمكن تفهمه والتعاطف معه في ظلّ مئات المحاذير وآليات الرقابة التي تزخر بها مجتمعاتنا العربية".
وتلفت صاحبة "بساتين البصرة" إلى أنها لا تعني بالرقابة الرسمية فحسب بل تقصد كذلك "الرقابة المجتمعية والعائلية والرقابات المستترة وغير المباشرة".
الروائية سمر نور تقول لرصيف22 إنه لم يخطر لها في أية لحظة أن تكتب تحت اسم مستعار، وتعلق: "الكتابة يُصاحبها إحساس بالمسؤولية تجاهها. ومن مظاهر تحمل تلك المسؤولية: الظهور علناً"، لكنها تفهم تماماً أنواع الرقابة المجتمعية التي تحدثت عنها منصورة، فحتى الآن لا يفهم القارئ العربي أن الكتابة الأدبية مُختلفة تماماً عن السيرة الذاتية للكاتب.
تعرضت سمر نور نفسها للرقابة المجتمعية إذ اعتقد أحد المقربين أن روايتها الأولى "محلك سر" سيرة ذاتية. تقول: "في البداية لما تعرضت للمواقف دي اتخضيت، وبعد كدا استوعبت"، وأهم ما تفعله سمر هو أنها لا تُدافع عن نفسها ولا تلجأ إلى التخفي "دي كلها ألعاب وحيل في الكتابة"، وفق قولها.
ما تتحدث عنه سمر يقترب مما ذكره التشيكي ميلان كونديرا في كتابه "فن الرواية"، ففي فصل محوره استخدام الاسم المستعار كتب كونديرا الذي نشأ في ظل الحكم السوفياتي الشمولي: "أحلم بعالم يجد فيه الكُتّاب أنفسهم مجبرين بحكم القانون على أن يبقوا هوياتهم طي الكتمان، وعلى استخدام الأسماء المستعارة، إذ سيكون من فوائد ذلك تراجع جنون فرض الذات على الآخرين. وهي الصورة الأكثر إثارة للسخرية لإرادة فرض القوة والسلطان، والقضاء على ظاهرة تفسير الأعمال الأدبية في ضوء السيرة الذاتية للمؤلف".
ثمّة أسباباً أكثر قسوة تدفع بالكاتبات لإخفاء أسمائهن الحقيقية، وأبرزها خشية التعرض لتهديدات تمس سلامتهن الجسدية أو حياتهن الأسرية بسبب الكتابة
للكاتبات أسباب أخرى
لكن ثمّة أسباباً أكثر قسوة تدفع بالكاتبات لإخفاء أسمائهن الحقيقية، وأبرزها خشية التعرض لتهديدات تمس سلامتهن الجسدية أو حياتهن الأسرية بسبب الكتابة. ومنهن، كما ترصد الدكتورة شيرين أبو النجا أستاذة الأدب المعاصر، أليفة رفعت التي لم تعلن عن اسمها الحقيقي "فاطمة رفعت" إلا بعد وفاة زوجها.
بحسب أبو النجا: "عانت أليفة المولودة عام 1930 الكثير في حياتها، إذ كانت لديها رغبة كبيرة في استكمال تعليمها الجامعي، لكن أسرتها عارضت القرار وقامت بتزويجها، وحاولت أليفة خلال سنوات زواجها الكتابة تحت أسماء مستعارة، وحينما علم زوجها جعلها تُقسم ألا تكتب ثانية حتى وفاته".
تطرقت أليفة في كتاباتها إلى معاناة النساء وحياتهن في الريف المصري، ورغباتهن الجنسية التي لا يحترمها الأزواج، والحياة الجنسية للمراهقين والمراهقات.
"في تسعينيات القرن الماضي ظهر التخفي جلياً في الجزيرة العربية، فوضع المرأة بها لم يكن في أفضل حالاته، ولذلك ظهرت ألقاب مثل بنت الصحراء وبنت الجزيرة"
وتُرجِع أبو النجا ميل النساء خلال القرن العشرين إلى الكتابة بأسماء مستعارة إلى "علاقات القوى بين الجنسين من ناحية، وبين النساء والمؤسسة المجتمعية بكل ما فيها من سلطة من ناحية آخرى".
وتذكر أن مي زيادة وقّعت كتاباتها الأولى - التي كانت باللغة الفرنسية- باسم "إيزيس كوبيا"، وحين تحولت للكتابة بالعربية، اختارت اسم "عايدة"، وفيما بعد تمكنت من الظهور بشخصيتها الحقيقية.
وفي تسعينيات القرن الماضي ظهر التخفي جلياً في الجزيرة العربية، فـ"وضع المرأة بها لم يكن في أفضل حالاته، ولذلك ظهرت ألقاب مثل بنت الصحراء وبنت الجزيرة"، وترى أبو النجا أن تلك الفترة في الخليج كانت أوضاع النساء فيها تشبه أوضاع المرأة في إنكلترا الفيكتورية، التي كتبت أبرز كاتباتها وأشهرهن الأخوات برونتي تحت أسماء مستعارة.
وفي بدايات الألفية صدرت روايات سعودية جريئة وصادمة للمجتمع بأقلام كاتبات تخفين تحت أسماء مستعارة، أبرزهن "صبا الحرز" صاحبة "الآخرون"، وهي رواية تتبع حياة فتاة مثلية في المملكة المحافظة.
ويتخفى أيضاً الرجال وراء أسماء مستعارة، ولكن لأسباب مختلفة، فالبعض فعل ذلك تجنباً للوقوع في المشاكل، مثلما فعل الممثل ومدير دار الأوبرا المصرية سليمان نجيب الذي كشف الشاعر والناقد الراحل أسامة عفيفي أنه صاحب كتاب "مذكرات عربجي"، وهو سجل ساخر لقاهرة بدايات القرن العشرين وتحولات المجتمع عقب ثورة 1919. ونشر سليمان المذكرات تحت اسم "الأسطى حنفي أبو محمود"، كما فعل ذلك الأديب والمؤرخ السعودي عبد الرازق القشعمي الذي تخفى وراء حوالى 450 اسماً مستعاراً.
الكاتب سيد محمود المحرر الأدبي في مؤسسة الأهرام يقول إن "هناك فترات كانت فيها الأسماء المستعارة أشبه بالموضة في الستينيات والسبعينيات"، مذكّراً بأن الإعلامي مفيد فوزي كتب لسنوات طويلة تحت اسم "نادية عابد"، تأثراً بمقالات إحسان عبد القدوس التي كتبها تحت اسم "زوجة محمد".
يرصد فهرس داغر أن أم كلثوم عندما أرادت التخفي عند الكتابة للصحف، تخفت وراء اسمها الحقيقي: "فاطمة إبراهيم"
أما عن تخفي الرجال وراء أسماء مستعارة، فالأمثلة عليه كثيرة من عبدالله النديم وغسان كنفاني وصولاً لمحمد مولسهول الذي سبقت الإشارة إليه، وذلك هرباً من ملاحقة السلطات. لكن اللافت هو الكتابة تحت اسم مستعار من قبل أصحاب تلك السلطات أنفسهم، كما فعل الحاكمان السابقان صدام حسين ومعمر القذافي في روايات منسوبة إليهما.
أستاذ التاريخ المعاصر والحديث الدكتور أحمد زكريا الشلق يتذكر أن طه حسين كان يُوقّع أحياناً باسم "تاسيت"، رغم معرفة القُراء هوية الكاتب الحقيقية، ويقول الشلق إنه ربما يكون اسم تاسيت هو التحريف من الاسم الأجنبي "حسين"، ويُضيف أن العديد من الكتاب في الصحافة المصرية تباروا في العشرينيات والثلاثينيات من القرن الماضي في الكتابة في أكثر من صحيفة "يكون بيكتب الصبح باسمه في جريدة الأحرار الدستوريين وبالليل يرد على نفسه في جريدة منافسة زي الوفد"، مثلما فعل الصحافي توفيق دياب، ووصف الشلق أن ما حدث مع هؤلاء الكتاب كان نوعاً من العبث في الصحافة الحزبية.
تظلّ واقعة كارمن مولا مُدوية في مجال النشر والأدب، ويذكر الدكتور حمودة أن مسألة اتفاق مجموعة من الكتاب أن يتخفوا تحت اسم واحد ليس ظاهرة جديدة، وهناك أمثلة سابقة عليها كاتفاق الكاتبتين كاثرين برادلي وإديث كوبر، على نشر بعض الأعمال المشتركة تحت اسم مايكل فيلد، ويختم: "هذه الظاهرة لم تتكرر كثيراً".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...