ضَجّت الصحف وإعلانات الشارع وأنفاق الميترو الفرنسية بخبر صدور كتاب "الله: العلم البراهين"، الذي يبلغ عدد صفحاته 577، ويتألف من 24 فصلاً لـ"خيرة" العلماء والباحثين تحت إشراف Michel-Yves Bolloré وlivier Bonnassies.
الكتاب الذي "رُوّج" له بهذا الشكل يقدم نفسه كـ"ثورة" في التاريخ، كونه يحسم العلاقة بين الدين والعلم وينتصر لله. وكالعادة، تلقّفت بعض الصحف العربية ملخصاته بلهفة وبنوع من التعالي والسخرية من "الآخر" الذي أضاع عقوداً في البحث عن الله المثبت وجوده منذ زمن طويل، إذ نقرأ في أحد المقالات شرحاً لسياق ظهور الكتاب بالشكل التالي: "مسألة وجود الله محسومة عندنا ولا يخطر على بال أحد أن يجادل فيها. معاذ الله.
ولكن الأمر ليس كذلك في فرنسا وعموم الغرب، حيث تهيمن الفلسفة المادية الإلحادية بشكل شبه مطلق على الجميع. من يؤمن بوجود الله عندهم يُعد شخصاً رجعياً متخلفاً عن ركب الحضارة".
يستمر المقال في "ترجمة" سير على المشرفين على الكتاب، وذكر مكانتهم العلمية والشهادات التي يحملونها، ضمن صيغة أقرب للتقريظ، مفادها انظروا... علماء فرنسا قالوها، الله موجود، و"من اللاشيء خُلق كل شيء. كنْ فيكون. سبحان الله. إنه القرآن كريم". هكذا يوصف الكتاب الفرنسي في المقال المذكور.
ضَجّت الصحف وإعلانات الشارع وأنفاق الميترو الفرنسية بخبر صدور كتاب "الله: العلم البراهين" لـ"خيرة" العلماء والباحثين. الكتاب الذي "رُوّج" له يقدم نفسه كـ"ثورة" في التاريخ، كونه يحسم العلاقة بين الدين والعلم وينتصر لله
مفارقة الكتاب الساخرة
محاورة ذاتية:
- هل قرأت الكتاب؟
- طبعاً لا.
- لماذا؟
- لأنه كتاب!
المفارقة تكمن بأن الحاجة لإثبات وجود الله أساسها كتاب، أي ضمن سيناريو شديد المثالية بعد قراءة الكتاب، لابد للملحد المؤمن بالعلم والعلوم وخطابهما وكل الطيف العدمي، أن يتحول إلى متعبد، مؤمن بالخالق الذكي، الله، سواء بدأ الخلق بـ"كلمة" أو بـ"كن فيكون"، وهنا الإشكالية، أداة نشر أو صياغة هذا الإثبات هي "كتاب"، الطريقة التقليدية التي اتبعتها كل "الأديان" في سبيل الدفاع عن "خالقها" وإثبات وجوده، لكننا نهاية أمام كتاب، سواء عرفنا مؤلفه أو لم نعرفه.
هو كتاب يحوي داخله ما فاتنا وما لا نعلمه، لكن، وحسب الفرضية المثالية، بمجرد أن نقرأ هذا "الكتاب" سنؤمن بالله، سواء لبلاغته أو "علميته" أو " تاريخيته"، إذ سُيثبت لنا أن كل بحثنا كان نوعاً من الهباء، فها هو الخالق، قريب ممن يؤمن مباشرة، وبعيد لمن يريد أن يبحث عنه على المدى الطويل.
هذه الهيمنة التي يمتلكها "الله" وقدرته على التحرك في كل "الكتب"، تهدد مفهومه نفسه
هذه الهيمنة التي يمتلكها "الله" وقدرته على التحرك في كل "الكتب"، تهدد مفهومه نفسه، نميل هنا في رأينا نحو مركزية اللوغوس، المقاربة التي اقترحها جاك دريدا، والتي ترى أن "اللغة" وتابعتها "الكتابة" بأشكالها، حتى العلمية، محكومة بطيف ميتافيزيقي، يجعل معنى الكتابة الكامل أو الواضح أو الأصلي، مؤجلاً، هذا التأجيل ينتمي إلى عالم الله ووجوده، وهذه بالضبط المفارقة التي نشير إليها، لم لا يثبت وجود الله إلا في الكتب؟
تحت المجهر، أو في أقصى نقطة يمكن أن يلتقطها التليسكوب، الله غير واضح، أو اعتباطي، لابد من "كتابة" تحيط به كي يتضح لنا "المعنى/ معناه"، كل الأدوات قاصرة إلا الكتابة القادرة على خلق البرهان، وهنا المفارقة المضحكة: لم لا يُثبت الله بأغنية؟ بأنشودة؟ بمعادلة رياضية مفهومة للجميع؟ بتمارين لياقة بعد الانتهاء منها يمكن القول: نعم هو موجود؟
ماكينات المنطق العبثية
العلاقة بين العلم والدين تحوي نوعاً من التحذلق والجبن في النظر إلى الذات، سبب ذلك أولا تاريخ الخطاب العلمي، وثانياً الانضباط الداخلي الذي يمارسه بعض العلماء على أنفسهم لرسم إطار التعبير عن أفكارهم ونتائجهم لغةً وكتابةً، إذ يتبنون ببداهة مطمئنة قواعد للشرح مستمدة من اللغة نفسها، من أجل تحويلها بثقة عمياء إلى أداة علمية، يتجلى ما سبق في حذلقات القضايا المنطقية، "كل نهاية لابد أن تكون لها بداية!"، " أرسطو إنسان، الإنسان يموت، أرسطو يموت، الله موجود، لأنه لا يموت"، "قُل جمايكا، أمك نـ****" و ما إلى هناك من قضايا "تبعبص" في الدماغ، وينتهي الأمر حين مناقشتها كصراع بلاغي ولغوي.
لكن، هناك أساليب أخرى للحذلقة يتبناها الخطاب المعاصر أحياناً، مثلاً، نشاهد في "متحف التكنولوجيا الإسلامية" في إسطنبول، إحدى المسائل التي طرحها أبو سهل الكوهي في القرن الرابع الهجري، ونصها: "هل يمكن وجود حركة دائمة إلى ما لا نهاية على خط متناه"، يجيب الكوهي بنعم، مناقضاً أرسطو ومناقشاته حول الموضوع التي تمتد إلى الأبد والله والإنسان، كل هذا طبعاً موجود في وصف المسألة أمامنا في المتحف.
العلاقة بين العلم والدين تحوي نوعاً من التحذلق والجبن في النظر إلى الذات، سبب ذلك أولا تاريخ الخطاب العلمي، وثانياً الانضباط الداخلي الذي يمارسه بعض العلماء على أنفسهم لرسم إطار التعبير عن أفكارهم ونتائجهم لغةً وكتابةً
نكتشف لاحقاً أن هذه المسألة أثبتت عبر آلات ذاتية الحركة، صمم الكوهي أحدها، وصنعت لأول مرة في القرن السادس الهجري، ونقرأ أيضاً في وصف هذه الآلة التي وصلت لاحقاً إلى أوروبا: "أن الأكاديمية الفرنسية أعلنت بأنه من غير المجدي تقديم اقتراحات أخرى لحل القضية"، والمقصود قضية الحركة اللانهائية.
بحث صغير يكشف أن هذه الآلات الخشبية التي تشبه التحف الموجودة في مكاتب موظفي الموارد البشرية غير دقيقة، وحركتها ليست أبدية، وهذا ما يفسر أن النموذج الحي لها في المتحف لا يعمل، وهنا كانت مفاجأتي الشخصية، ماكينة حركة أبدية لا تتحرك، لكن الملفت، هو وجود مولدة كهربائية بجانبها، هما غير موصولتان، لكن، "الله أعلم".
ما نحاول قوله، إن العلم ذاته و أدواته محكومة بمنطق داخلي يحوي بلاغة لغوية ما، " هناك أجسام تتشكل وتفنى في أقل الوحدات الزمنية"، عبارات جميلة، والتجارب حولها قائمة، لكن التفسير، يقف عند حدّ دقيق ما زال مرسوماً منذ "الأبد"، بصورة أدق، الخمسينيات حين انتشرت نظرية الانفجار الكوني، وبالرغم من أن الآلات اختلفت، و لم تعد مجموعة من الأخشاب التي تدور حول محور خشبي، بل مسرعات تمتد لكيلومترات لرصد ثوان من "الوجود الجديد" ثم "غيابه"، مازال التفسير في بعض الأماكن بلاغياً.
النظر إلى تلك الآلة الأبدية ووصفها والسخرية منها ومما "تثبته" الآن عام 2021، مشابه للنظر إلى الكتاب وقراءته عام 2021، لكن المشترك أن العلم ما زال منذ بداية خطابه يصل في بعض اللحظات إلى "سرّته"، وهي مساحة لا يمكن بعدها إلا التخيل أو التأويل، لرصد التشابهات وإطلاق الأحكام والإثباتات، شأن مشابه للأحلام الأدبية إلى تراود شخصيات بورخيس.
لكن، أي "إله" هو الموجود؟
في مقابلة مع Olivier Bonnassies، نقرأ في إجاباته إحالات إلى الديانة المسيحية وتاريخ الشعب اليهودي "الذي ما زال موجوداً منذ القدم"، ومعجزات القديسين، ثم قفزة إلى الانفجار الكبير وما قبله!
تصف صحيفة شارلي إيبدو الكتاب بأنه برهان على تأثير البروباغندا واللوبي الكاثوليكي المعادي للعلمانية الفرنسية
المثير للاهتمام في الحجج العلمية حول "وجود الله" أنها تحوي المصطلحات الدينية التقليدية: الدقة، الإتقان، المثالية، التناغم وغيرها من الكلمات التي يضبط الخطاب العلمي نفسه بها من الداخل حين لا يكون محايداً أو يسلم بالقضايا المنطقية التقليدية، كحالة قضية البداية والنهاية، التي يذكرها الكاتب في اللقاء، "الإنجيل يؤكد دوماً على لحظة بداية"، وهذا ما وصل إليه العلم والكتاب "لحظة البداية"، إذن voila... الله موجود.
التدقيق في هذه الكلمات، التي تختزن وراءها متخيلاً دينياً بحتاً، يتركنا أمام نموذج عن كيفية تحول العلم إلى أداة دعائية، خصوصاً أن الكتاب لا يتناول "الله" بكل أشكاله، بل وجوداً ذكياً يصدف أنه يتطابق مع الله المسيحي، إذ يعتمد المؤلفين على الحكايات والاقتباسات التقليدية عن "الدين" والله" وعودة العلماء إلى الصواب، و ترهات الله لا يلعب النرد.
لكن المثير، هو عدم توظيف كلمات تتعلق بالله، كالفوضى، اللاجدوى، الأخطاء المتكررة، كلها تعابير يُمكن أن يعاد تأويلها، لكنها منفية من هذا الخطاب الدعائي-العلمي، لأسباب بلاغية لا علمية، وهنا نقترح التالي: لم لا ننظر إلى عمل التجهيز "كيف تعمل الأشياء" كمثال على آلة، تثبت إحدى المسائل المنطقية التي توصل إلى الله، والتي مفادها: "يمكن لدولاب سيارة أن يتسبب بدمار كل ما يقف أمامه بمجرد أن يبدأ بالتدحرج".
العلم كبروباغاندا مسيحية ضد العلمانية
تصف صحيفة شارلي إيبدو الكتاب بأنه برهان على تأثير البروباغندا واللوبي الكاثوليكي المعادي للعلمانية الفرنسية، عبر إنتاج مئات الصفحات المطبوعة بالخط الكبير، التي يجمعها كتاب مليء بالأخطاء العلمية والمفارقات، يترافق ذلك مع كم الإعلانات الهائل، إلى حد تهكم المقال على بعض المشاركين في الكتاب، عبر التأكيد على أنّ "المكانة العلمية المميزة لا تحمي الشخص من الحماقة"، لتتابع بعدها المقالة وصف ابتعاد مُعدّي الكتاب عن العلم، وعضوية أحد المشاركين في المحافل المريبة، والإشارة إلى أن مشارك آخر يعادي الداروينية ونظرية التطور، وآخر يؤمن بالقوى السحرية.
يسوق الكتاب حجة "استثناء" الإنسان ووجوده على الأرض، ويرد أنطوان فيشتي، كاتب المقال في شارلي إيبدو، على هذه الرطانة، عبر أمثلة عن اليانصيب والوجود ومصادفاته، ويختم بقوله "أنت (أيها القارئ) نتيجة اللامحتمل، مع ذلك أنت موجود، لا حاجة ليد الله".
بعيداً عن الدعاية السياسية والدينية المرتبطة بالكتاب، هناك قلق لدى جميع البشر حول الوجود نفسه، وعدم إمكانية أن نوجد هكذا، من خارج "الاحتمالات" أو نتيجة مجموعة من الشروط العشوائية، علماً أن هذه "المسألة" تثبت يومياً، وبأساليب متعددة، مبتذلة أو دقيقة، والأمثلة لا نهائية حولها، ولا حاجة لكتاب أو كتب لإثباتها، كأن تخرأ عليك حمامة، أن يصفعك رجل أمن كفاً، أو يهبط برميل متفجر فوق منزلك، أن تقرر الشرطة توقيفك لتفتيش عشوائي، أن تستيقظ متعباً فجأةً، أن تتألم وحدك دون دواء حد الإغماء.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...