"كيف فيكي تسمعي كل هالمشاكل؟ كيف بتتذكّري كل هالقصص؟ منيح اللي ما بتجنّي...."، هذه عيّنة مما نسمعه نحن النفسانيين العرب، سواء كنّا نعمل في العيادة أو في المستشفيات، وذلك في ظل مجتمع غير مدرّب على الإصغاء، ملوّث بالأحكام والأفكار النمطيّة المعدّة لنا سلفاً منذ لحظة الولادة.
هذا المجتمع "يعيش على حبوب الأعصاب"، فنسبة الأشخاص الذين يلجؤون إلى المهدئات تزداد في العالم، خصوصاً بعد العام 2019، وما زاد الوضع سوءاً هو بروز جائحة كورونا التي تسببت بمشاكل نفسية كبيرة، جرّاء الاجراءات التي فُرضت في معظم الدول، والتي أيقظت مشاكل نفسية كانت مدفونة أو متلطية خلف نمط الحياة السريع وساعات العمل الطويلة.
وقد رافق ذلك ازدياد كبير في عدد الأشخاص الذين زاروا العيادات النفسية بحثاً عن العلاج، بينما يتابع البعض الآخر جلساته عبر العديد من التطبيقات مثل واتساب وزوم.
تدهور الصحة النفسية
لم يسلم العالم العربي المليء بالصراعات من تدهور الصحة النفسية للشعوب، ففي لبنان الذي يعاني من تدهور اقتصادي كبير، إضافة إلى الخطر الصحي والأزمة السياسية المتفاقمة، يزداد الإقبال على المهدئات وأدوية الاكتئاب بشكل ملحوظ، بخاصة وأن البعض منها لا يحتاج إلى وصفة طبية.
وبالمثل، ازداد الطلب على العلاج النفسي رغم الغلاء المعيشي وانهيار العملة الوطنية، لكنه أصبح حاجة ماسة لا يمكن الاستعاضة عنها، خصوصاً في علاج التروما الناتجة عن الأحداث الأمنية المتتالية.
"كيف فيكي تسمعي كل هالمشاكل؟ كيف بتتذكّري كل هالقصص؟ منيح اللي ما بتجنّي...."، هذه عيّنة مما نسمعه نحن النفسانيين العرب، وذلك في ظل مجتمع غير مدرّب على الإصغاء، ملوّث بالأحكام والأفكار النمطيّة
ورغم ذلك، ما زالت مهنة الأخصائي/ة النفسي/ة يشوبها الكثير من الغموض والتضارب والتساؤلات التي قد تمنع الشخص من اللجوء إلى العلاج النفسي عند الحاجة، فيسارع إلى تناول الأدوية التي قد تهدئ من شدّة الأعراض لكنها لن تساعده على حلّ أساس وجوهر المشكلة نفسها.
بالإضافة إلى ذلك، هناك العديد من الأشخاص من حولنا الذين وقعوا ضحية تجارب سيئة مع معالجين نفسيين، أضافوا إليهم اضطرابات جديدة عوضاً عن مساعدتهم على ايجاد حلّ مناسب للمشكلة الأساسية.
هل المشكلة إذن هي في جوهر المهنة وتعدد المدارس النفسية، أم في نقص المعرفة حول أساليب العلاج لدى المريض/ة؟ ما الذي يجعل تلك العلاقة شديدة الحساسية بين المريض/ة والمعالج/ة النفسي/ة مؤذية بحق المريض/ة أحياناً؟
هل يعرف طالب العلاج إلى من يذهب؟
الدراسات حول فوائد العلاج النفسي لا تعد ولا تحصى، وبالرغم من بعض "المكابرة" التي ما زلنا نشهدها لجهة اللجوء إلى العلاج النفسي لأسباب دينية، كزعم الشخص بأن ما يشعر به من كآبة أو فشل أو حتى إدمان على مادة أو المرور بصدمة عاطفية أو غيرها من الأزمات، ما هي إلا نتيجة الابتعاد عن الله أو عدم ممارسة فرائض الصلاة، أو لأسباب أخرى لها علاقة بالمستوى التعليمي للفرد، أو حتى عدم اللجوء إلى العلاج النفسي من باب الضائقة المادية، إلا أن الإقبال على زيادة العيادات النفسية أصبح يتزايد حتى ضمن فئة الرجال الذين كانوا في السابق أقل طلباً للعلاج النفسي.
تختلف المدارس النفسية حول العالم وتتنوّع معها طرق العلاج. من أبرزها المدرسة النفسية التحليلية Psychoanalysis التي أسسها سيغموند فرويد في العام 1890، والتي طوّر مفاهيمها وطرقها تلاميذه فيما بعد لتصبح Psychodynamic. وهي المدرسة النفسية التي ترتكز على أهمية فهم وقراءة اللاوعي في علاج المشاكل النفسية الناتجة عن أحداث قد عاشها الشخص خلال طفولته وأخرى قد شعر بها وكبتها، فتحوّلت إلى اضطراب في السلوك أو التفكير باتت تعرقل حياته اليومية.
وبالتالي، فإن دور المعالج النفسي أن يصغي إلى الشخص المعني الذي قد يفتقد إلى الترابط المنطقي أحياناً وأن يساعده في فهم جوهر الخلل، مفنّداً الأسباب الشخصية والعائلية والاجتماعية، فالبوح والعودة إلى الماضي يساعدان الشخص في فهم سلوكه ومن خلفه آليات الدفاع التي يعتمدها لحمايته من المشاعر المدمّرة، وصولاً لاعتماد آليات أكثر إفادة وسلوكاً تساهم في تطوّر الشخص عبر إزالة المعرقلات أو التعامل معها بطرق مختلفة تقلل من أثرها السلبي.
في وقت لاحق، تم انشاء مدارس نفسية أخرى، مثل العلاج السلوكي المعرفي CBT في أواخر التسعينيات، وهو يعتمد على آليات يساعد فيها المعالج الشخص المعني في إيجاد تقنيات معرفية عملية مختلفة للتعامل مع الاضطرابات.
وفي العام 2018، أُنشأت تقنية الـEMDR أي إبطال الحساسية وإعادة المعالجة من خلال حركة العينين وهي تقنية تستعمل في علاج اضطرابات ما بعد الصدمة، ويكون هدفها الوصول إلى الذكريات الصادمة و معالجتها بهدف الوصول إلى حلّ تكيّفي.
مدارس نفسية كثيرة والهدف واحد: إيصال الشخص إلى الأمان والتأقلم الإيجابي والتوازن العاطفي.
تلك المعلومات أساسية يجب لطالب العلاج أن يعرفها قبل اختيار نوع العلاج، بخاصة وأن امتلاكه لتلك المعلومات يساهم في التنبه لأي إشارات غير مألوفة قد يختبرها في العيادة النفسية.
تجارب مرّة... تسببت بقتل المعالج النفسي
"المعالج النفسي نصحني بالقيام بعلاقات جنسية عابرة لحلّ مشكلة الثقة بالنفس"، تقول هند التي ظنّت أن المعالج النفسي يدرك ما هو أفضل خيار لها، غير أن الإقدام على ما طلبه منها تسبب بأمراض جنسية ناتجة عن عدم الوقاية.
بدورها، تتحدث روى عن العلاج النفسي بازدراء بعدما "أضاعت وقتها ومالها"، كما تقول، بسبب الذهاب أسبوعياً إلى جلسات نفسية شعرت خلالها أنها هي المعالجة وليس العكس: "كانت مدة الجلسة 45 دقيقة، 30 منها مخصصة للاستماع إلى تجارب المعالجة النفسية وتفاصيل حياتها الشخصية".
ظنّت الشابة أن تصرف المعالجة ينطوي في سياق الأساليب العلاجية، لكنها وبعد قراءات عديدة اكتشفت أن ذلك غير مهني.
الوضع أسوأ بالنسبة إلى عادل الذي لجأ للعلاج النفسي تجنّباً للتورط في المهدئات والأدوية، لكن الأمر انتهى بالإدمان على الأدوية بعدما قضى 9 أشهر في علاج نفسي، اكتشف بعدها أن المعالج كان يريد منه التخلي عن هويته الجنسية "لحمايته من غضب الله"، كما نقل عنه.
في مقال نشر على موقع غارديان شهادات لعدة أشخاص تعرّضوا لضرر نفسي بسبب جلساتهم النفسية، كما كشف تقرير آخر أن أكثر من 33 معالجاً نفسياً قتلوا في الولايات المتحدة الأميركية على يد أشخاص كانوا يقصدونهم للعلاج.
ما يطرح السؤال التالي: من يحمي المعالج النفسي من وضع المريض/ة النفسي ومن يحمي المريض/ة من عدم مهنية النفساني؟
الجواب بسيط: العلاج النفسي والتمرين المستمر الذي يحتاجه الأخصائي/ة وقوننة المهنة ومراقبتها.
مهنة متروكة لمصيرها الأسود
العلاج النفسي لا يُدرّس في الجامعات. وهي معلومة قد لا يعرفها الكثيرون. فالتخصص في علم النفس وإجراء اختبارات نفسية لا تخوّل النفساني ممارسة العلاج. العلاج النفسي تخصص مختلف يحدث عبر تمرين مع متخصصين/ات على مدارس وأساليب علاجية.
إن لم يقتنعوا بفائدة العلاج النفسي لنفسهم أولاً، كيف يقنعون مريضهم به؟
وعليه، تلفّ مهنة المعالج النفسي تناقضات تختلف حسب المدرسة النفسية. منهم من يعتبر أن المعالج النفسي ليس بحاجة إلا لبضعة أشهر من التدريب على أسلوب علاجي، وهذا يكفي لشرعنة الممارسة، وآخرون يشددون على العلاج الذاتي أولاً لدى متخصص آخر، من أجل القدرة على فهم الآخر وبناء حاجز صحي بين المعالج وطالب العلاج لحماية كليهما من المشاعر السلبية وعدم خلط التجارب.
وبين هذا الرأي والرأي الآخر مهنة حساسة جداً يعتقدها الكثيرون خشبة خلاص من تعبهم المزمن. مهنة تخضع لعوائق الدين أحياناً ولقوانين غير واضحة في مجتمعات عدة، وبالطبع تظل مسألة الرقابة شائكة بين من يشدد على ضرورة الرقابة وبين من يدعو لاحترام خصوصة المريض وبالتالي سرّية الجلسات.
من يحدد ماذا يحدث خلال تلك الجلسات إذن؟ من يحمي طالب العلاج من "انحراف" مهني ممكن؟ ومن يحمي أيضاً النفساني من مريض نفسي قد يعاني من هلوسات قد تجعل الأخير يشكل خطراً عليه؟
الحل موجود ويتطلب تواضعاً
ماذا لو أُدرِجت مسألة العلاج النفسي والتمرين المستمر للنفساني ضمن نطاق الضرورة وشرط من شروط الممارسة؟ ألا يحمي ذلك النفسانيين من إسقاط واقعهم الذي قد يكون مريراً أحياناً؟ فهم أشخاص قبل أن يكونوا معالجين، هم آباء وأمهات، هم ضحايا ماضٍ أليم، لديهم حاضرهم وتحدياتهم، ذكرياتهم وأحلامهم.
هؤلاء الأفراد يعيشون حياتين: من جهة، يصارعون "شياطين" اللاوعي الذاتي الذي قد لا يحوي إلا النظريات والمعلومات التي اكتسبوها بفعل التعب والتراكمات، ما يؤدي إلى اصطحاب تلك التجارب الخاصة إلى داخل جدران العيادة عن غير قصد، ونقلها إلى آخر غريب متعب أيضاً، لا يمتلك من المناعة النفسية شيئاً لحمايته من ذلك، ومن جهة أخرى، يلجأ إليهم الناس بحثاً عن توازنهم خلف ضوضاء المشاعر وضجيج الحياة.
ما زالت مهنة الأخصائي/ة النفسي/ة يشوبها الكثير من الغموض والتضارب والتساؤلات التي قد تمنع الشخص من اللجوء إلى العلاج النفسي عند الحاجة، فيسارع إلى تناول الأدوية التي قد تهدئ من شدّة الأعراض لكنها لن تساعده على حلّ أساس وجوهر المشكلة
فكيف يمكن أن يحدث ذلك الفصل الصحي دون نزع صفة التعاطف من النفسانيين إن لم يحققوا توازنهم أولاً؟ إن لم يقتنعوا بفائدة العلاج النفسي لنفسهم أولاً، كيف يقنعون مريضهم به إذن؟ مع العلم أن العلاج النفسي لا يخص المريض الذي يعاني من الكآبة المرضية أو الصدمة أو الإدمان فقط، بل الشخص الراغب في استكشاف ما يعرقل قراراته ومشاعر السعادة لديه.
في هذا الصدد، شدّد مقال ورد على موقع medium على فوائد العلاج النفسي للمعالج النفسي وضرورة بدأ العلاج قبل استئناف العمل العيادي لحماية الطرفين، كخضوع المعالج لتجربة تفكيك اللاوعي وتحقيق توازن نفسي يساهم في تحمّل عبء المشاعر السلبية التي يعيشها في العيادة وعدم اصطحابها إلى حياته الخاصة، ومناقشة الحالات التي قد يشعر النفساني أمامها بالعجز لاكتساب معلومات وطرق متعددة مفيدة في سير العلاج، والأهم إدراك جهوزية المريض وكيفية اصطحابه إلى "النور" الذي أتى من أجله.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...