مثّل العطر لدى العرب قصّة ثقافة، لا "قصّة قاتل" كما في رواية باتريك زوسكند. ومن شدّة شغفهم به، أرجعوا أصله إلى أبي البشر آدم. حيث يذكر الطبري في تاريخ الرسل والملوك: "أنّ الله تعالى عندما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جعل لا يمرّ بشجرة من شجر الجنة، إلّا أخذ غصناً من أغصانها، فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها؛ تحات، فكان ذلك أصل الطيب".
أشعار بالعطور
هذه الرؤية الإسلامية قامت على تقاليد جاهلية مفتونة بالعطر، فقد ضمّخ الشعراء الجاهليون قصائدهم بأبيات تتكلّم عن طيب عطر محبوباتهم. وهذا الأعشى يقول: "إذا تقوم يضوع المسك أصورة/ والزنبق الورد من أردانها شمل".
فيما امرؤ القيس يصف كيف تستيقظ محبوبته من نومه، فلا يغيب عنها العطر في نومها وصحوها: "وَتُضْحي فَتِيتُ المِسكِ فوق فراشها/ نؤوم الضحى لم تتنطق عن تفضل".
من شدّة شغف العرب بالعطر، أرجعوا أصله إلى آدم. حيث يذكر الطبري "أنّ الله تعالى عندما أهبط آدم عليه السلام إلى الأرض، جعل لا يمرّ بشجرة من شجر الجنة، إلّا أخذ غصناً من أغصانها، فهبط إلى الأرض وتلك الأغصان معه، فلما يبس ورقها؛ تحات، فكان ذلك أصل الطيب"
لم يكتف العرب أن يكون العطر ريحاً طيبة، بل ميثاقاً لأحلافهم، كما في حلف "المطيّبين"، وقسماً لا يحنث به، فها هو دريد بن الصمة، قد أقسم أن لا يتطيّب حتى يدرك ثأره. ومن أشهر العطور الذي ضرب به المثل: "أشأم من عطر منشم".
إذ كانت العرب قبل الخروج في حروبها تتعطّر، وكأنّهم رغبوا، حتى وهم موتى، أن تفوح منهم الروائح الطيبة. لقد كان عطر منشم فألاً سيئاً لمن تعطّروا به، فقد كثر بينهم القتل، لكنّهم ماتوا معطّرين بالطيب.
وإذا يممنا وجهنا نحو العصرين الأموي والعباسي، نطّلع في كتاب "الفهرست" لابن النديم على ثبت في العديد من المؤلفات التي تتناول العطر وصناعته، فقد ألّف العديد من الكتّاب رسائل في العطر، نذكر منهم: الكندي، يحيى بن خالد البرمكي والمفضل بن سلمة. وقد كلّف المتوكل جحظة البرمكي بتصنيف كتاب له جاء بعنوان "في العطر".
شاعت العطور منذ القديم، وكانت عبارة عن عجينة صمغية تحتوي المادة العطرية، كالزبّاد الذي اشتهرت به عدن، ومن ثمّ تطورت صناعة العطور عبر نقع الزهور في زيوت وشحوم، فتمتصّ خلاصتها العطرية، إلى أن كان التقطير بواسطة الإنبيق على يد الكندي، وتبعه في بذلك ابن سينا.
عرفت العرب العديد من أنواع العطور منها؛ المسك والغالية التي راجت على يد أمراء بني أميّة. وقد احتفى العصر العباسي بالعطور، فبلغت شأناً كبيراً من الإتقان في الصنع، فأصبحنا نجد العطور كماء الورد، والنضوحات، حيث يكون الحامل للعطر هو الكحول؛ وهي تشبه العطور المستخدمة حاليّاً.
كانت العرب قبل الخروج في حروبها تتعطّر، وكأنّهم رغبوا، حتى وهم موتى، أن تفوح منهم الروائح الطيبة
لقد أخذ العرب العطر إلى أمداء أخرى عبر الكتابة به على القراطيس والكاغد وممن ترك لنا إضاءة مهمة في ذلك، الشاعر عمر بن أبي ربيعة، فبعد أن علم بزواج الثريا من غيره وهو في اليمن، دفعه الشوق إليها بأن يخطّ لها كتاباً جعل مداده من أخلاط العطر، وكان مطلع كتابه: "كتبتُ إليكِ من بلدي/ كتابَ مُوَلَّهٍ كَمِدِ".
وعندما قرأت الثريا كتاب عمر، وتنسّمت روائح العطر التي تفوح منه ردّت إليه: "أتاني كتابٌ لم يَرَ الناسُ مثلَه/ أُمِدَّ بكَافُورٍ ومِسْكٍ وعَنْبَرِ". ويذكر الباحث عمر فرّوخ في كتابه؛ العرب في حضارتهم وثقافتهم، بأنّ عمر بن أبي ربيعة كان له عطر خاص، يعدّه أحد عطّاري مكّة ولا يصنع مثله لأحد.
قد يكون ما ذكرناه عن كتابة عمر بن أبي ربيعة بالعطر من الأدلة القليلة التي أتتنا من العصر الأموي، لكنّ الأمر قد شاع في العصر العباسي، وخاصة بعد أن كثر الظرفاء والجواري والغلمان، حيث درجت العادة على تطريز أبيات الشعر على الثياب والزنانير، كما فعلت ولادة بنت المستكفي التي كتبت على ثوبها: "أنا واللَه أصلح للمعالي/ وأَمشي مشيتي وأتيهُ تيها/ أمكّنُ عاشقي من صحن خدّي/وأعطي قُبلتي مَن يشتهيها".
لم يدّخر العرب طريقة لإظهار شغفهم بالعطور، إلّا وطرقوا بابها. وما الكتابة بمداد مصنوع من العطر إلا إحدى هذه الوسائل، وخاصة في أشعار الغزل والحكم والأقوال البليغة، فقد نقشت جارية إسحاق الموصلي على جبينها بالمسك: "والعشق والكتمان ضدّان لا يجتمعان".
طيب الكلام وطيب الرائحة
تنوّعت العطور بشكل كبير في العصر العباسي، واستخدم جلّها في الكتابة، فقد كتبوا بالمسك والسّك والعنبر والغالية والحنّاء. وكأنّهم أرادوا بذلك أن يقرنوا طيب الكلام بطيب الرائحة والذوق. فقد كتبوا على التفاح وبالورد ما طاب لهم من غزل. وممّا ذكر الوشاء في باب الكتابة على الفواكه بأنّه شاهد تفاحة قد نقش عليها: أنا إلى العاشق منسوبة/ أهدى لمَحبوب ومحبوبة.
شاعت العطور منذ القديم، وكانت عبارة عن عجينة صمغية تحتوي المادة العطرية، كالزبّاد الذي اشتهرت به عدن، ومن ثمّ تطورت صناعة العطور عبر نقع الزهور في زيوت وشحوم، فتمتصّ خلاصتها العطرية، إلى أن كان التقطير بواسطة الإنبيق على يد الكندي، وتبعه في بذلك ابن سينا
كانت الكتابة بالعطر نقلة جمالية أخرى للخطّ العربي، استكمل بها إظهاره بالحواس الخمس، فمن صورته البديعة التي أنشأها الخطاطون، إلى تصويته بالغناء والشعر كأحسن ما يكون، إلى نقشه على الفواكه، فيلمس ويذاق.
ومع الكتابة بالعطر دخل الخطّ العربي حاسة الشم، واستكملوا بقية الحواس، ففي إضمار المقولة المشهورة: "في الأمر إنّ" أشرفنا على الحاسة السادسة، لكن ما يهمنا في هذا المضمار هو الآثار التي زودتنا بها كتب التراث عن الكتابة بالعطر. وقد أمدّنا الوشاء في كتابه "الموشى" بشذرات جميلة عن ما كان يُكتب بالعطور على الجبين والخد.
يورد الوشاء في كتابه بأنّ العباس بن الأحنف تعشّق جارية كتبت على جبينها بالمسك: "العين تفقد من تهوى وتبصره/ وناظر القلب لا يخلو من النظر". وفي هذه الجارية قال الأحنف: "لست أنساك يا ظلومُ وعهد الّله حتى أٌلف في أكفاني". يذكر فاروق شوشة في مقال له في مجلة العربي، نقلاً عن الشاعرة عاتكة الخزرجي، أن حبيبة الأحنف والمسماة فوز في شعره، هي هدية بنت المهدي أخت الخليفة هارون الرشيد؛ فهل هذه الظلوم هي أخت الرشيد الذي قال للسحابة: "امطري حيث شئت، فإن خراجك لي".
أخذ العرب العطر إلى أمداء أخرى عبر الكتابة به على القراطيس والكاغد وممن ترك لنا إضاءة مهمة في ذلك، الشاعر عمر بن أبي ربيعة
يتابع الوشاء أخبار من خطّوا بالطيب، فيذكر جارية كتبت بعطر الغالية على جبينها أشعاراً لابن قنبر المازني: "صـرمـتـنـي ثـم لا كـلمـتـني أبداً/إن كنت خنتك في حال من الحال/ ولا اجترمت الذي فيه خيانتُكم/ ولا جَرَتْ خَطرةٌ منه على بالي". وكتبت جارية أخرى: "إذا حجبت لم يكفك البدر فقدها/ وتكفيك فقد البدر إن حُجب البدر".
ويردنا خبر من الشاعر علي بن الجهم الذي مدح المتوكل: "أنت كالكلب في حفاظك للود/وكالتيس في قراع الخطوبِ". لقد كان الجهم بدويّا فظّاً، لكنّه تبغدد بعد أن رأى "عيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ"، وقرأ ما يكتبنه على خدودهن بالطيب، فقد شاهد على خدّ جارية شعراً مكتوباً بالمسك: "رضيت على رُغمي بحبك فاعدلي/ ولا تسرفي إذ صار في يدك الحكم/ متى يظفر المظلوم منك بحقّه/ إذا كنت قاضية وأنت له خصم".
وقال الجاحظ: كتبتْ مؤلف جارية الصخري على جبينها: "ومحسودة بالحسن كالبدر وجهها/ وألحاظ عينيها تجور وتظلم/ ملكت عليها طاعة الشوق والهوى/ وعلمتها ما لم تكن منه تعلم".
وخطّت إحدى جواري المتوكّل على خدها بالمسك اسم "جعفر"، وجاء في الأغاني قول الشاعر في ذلك: "وكاتبة بالمسك في الخدّ جعفرا/ بنفسي سواد المسك من حيث أثرا/ لئن أثرت بالمسك أسطر بخدها/ لقد أودعت قلبي من الحزن أسطرا/ فيا من مُناها في السريرة جعفرٌ/ سقى الله من سُقيا ثناياك جعفرا".
وقد أورد صاحب الموشّى أنّه قرأ على جبين جارية شعراً مكتوب بعطر الغالية: "أنا غريق في بحار الهوى/ شبه قتيل في سبيل الله". ويذكر الوشاء حادثة أخرى عن جارية كتبت بالغالية والعنبر: "ياقمراً لاح في الظلام/ عليك من مقلتي السلام".
لعب العطر دوراً اجتماعيّاً وثقافيّاً في التراث العربي، فإلى جانب رائحته الطيبة، كان شعراً وخطّاًس وعشقاً.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...