لا أصدق أن رائحة عطر استنشقته في ألمانيا أعادتني عشرين عاماً إلى الوراء، اليوم أقف بجانب النافذة وأنا أشم معصمي، وأعود إلى الوراء، إلى الوراء.
بعد وصولي إلى ألمانيا بسنتين، كنت أنا وصديقتي في إحدى المحلات الرخيصة بما يتناسب مع وضعنا دون عمل، وبما نتقاضاه من الرعاية الاجتماعية، توقفنا عند رفّ العطور، وكالعادة لم تكن تثيرني هذه العطور بقدر اهتمام صديقتي بها، ليس لرخص سعرها بل لأن رائحتها قوية كالكحول أو تذهب بسرعة.
عندما رشت صديقتي من زجاجة عطر زهرية، سارعت وأخذتها من يدها لأبحث في عجل عن اسمها، وهنا تذكرت سلمى.
سلمى هي الفتاة الجامعية السورية التي كنا نراها قدوة لنا في صغرنا. كنت في العاشرة من عمري عندما جاءت زيارة من فرنسا التي كانت تدرس علم نفس في جامعاتها، نسيت أن أقول إن سلمى هي عمة ابنة خالتي، إذ إن ابنة خالتي كانت في مثل عمري وتربطني صداقة قوية بها.
كانت سلمى تأتي دائماً في الصيف والجميع يتحمس لهداياها، ولقصصها عن عالم لم نسمع به حتى في التلفاز، الذي لم يكن ينقل لنا سوى القناتين السوريتين، كنا نعرف عن هذه البلد من أحاديث الناس عن العطر الفرنسي المشهور، برج إيفل والقبعة الفرنسية، كنت أتخيل أجواء فرنسا في الليل صفراء من أضواء الشارع، وشاحبة بسبب الضباب، كانوا يقولون الحب وُلد في باريس، هكذا كنت أسمع، وسلمى كانت أيقونة فرنسا لنا نحن الأطفال الصغار، أحببنا قصة شعر سلمى القصيرة لأنها فرنسية وتنورتها القصيرة لأنها تشبه الفرنسيات، وعطر سلمى الفرنسي، كان أبي الذي درس الفرنسية المتواضعة في مرحلة الابتدائي يسأل سلمى دائماً "كيف الحال" باللغة الفرنسية وتجاوبه في كل مرة دون ملل احتراماً له، ليظهر أبي أمامنا بمنظر البطل الذي تكلم معها ببضعة جمل بلغة لا نفهمها، وأنا أفتخر به أمام كل أقربائي.
من لا يعرف سوريا في هذه الحقبة 1998، كانت بلداً يصله أخبار العالم من شاشة صغيرة نتسمر أمامها لا يأتينا منها سوى ما تريده الحكومة تحت الرقابة المتشددة، لكن في كأس العالم كانت تنقل المباريات وكنا نشجع كل الفرق إلا فريقنا الذي لم يشارك ولا مرة في هذه الكأس، لكننا كنا نتحمس من أجل الفريق الفرنسي، وهذه المرة ليس لأن سلمى تدرس في فرنسا بل لأن زين الدين زيدان جزائري عربي، ولحسن حظنا أنه لم يخذلنا هذا العام وفازت فرنسا بكأس العالم.
ينحدر والداي من الساحل السوري، منبع أشجار الليمون والبرتقال في بلادي، وليس بعيداً عن البحر إلا قليلاً، في الصيف وعطلة الشتاء، كنت أسافر مع أهلي من دمشق، مكان ولادتي ومكان عمل أبي إلى قريتنا لكي نزور الأقارب، وفي ليالي الصيف الملتهبة كانت تهب نسمات لطيفة تبرد العرق الذي ينصب من أجسامنا الصغيرة السمراء، أنا وأبناء جلدتي.
بالنسبة لي كانت القرية أكثر بدائية بكثير من العاصمة التي كنت أضطر فيها للاهتمام دائماً بملابسي وتسريحة شعري وعودتي إلى المنزل بأوقات محددة، وفق نظام صارم وضعه والداي، أما في القرية فقد كانت الحرية بالنسبة لي كون جميع سكانها أقارب، لذا كانت المحرمات التي يفرضها والدي أقل بكثير.
أحببنا تنورتها القصيرة لأنها تشبه الفرنسيات، وعطر سلمى الفرنسي، كان أبي الذي درس الفرنسية المتواضعة في مرحلة الابتدائي يسأل سلمى دائماً "كيف الحال" باللغة الفرنسية وتجاوبه في كل مرة دون ملل احتراماً له، ليظهر أبي أمامنا بمنظر البطل الذي تكلم معها ببضعة جمل بلغة لا نفهمها، وأنا أفتخر به أمام كل أقربائي
كانت ابنة خالتي هي صديقتي في كل مشاكساتي، في تسلق الأشجار وسرقة الفواكه والخضار، كنا نضرب الصبية بالحجارة من بعيد ونركض خوفاً من اللحاق بنا، وفي المساء كانت خرائط الجراح على أجسادنا هي دليل على مشاغباتنا على الرغم من تكتمنا الشديد عليها، وعندما كان يكشف أمرنا، كانت جدتي وجدي الشافعين الوحيدين لنا من ضربات أهلنا القاسية، التي لم تكن تعني لنا الكثير لأننا في اليوم التالي نكرر ما فعلناه بالأمس.
شتاء قريتنا ماطر جداً، تتساقط الأمطار كالخيوط دون توقف مع أصوات الرعد التي كانت تهز أساسات المنازل الفقيرة غير المتينة، كانت هذه الأمطار تنعش رائحة الليمون والبرتقال التي تصل مع شعاع الصباح إلى أنوفنا الصغيرة، نستيقظ على صوت مشاجرات جدتي وجدي المتزوجين منذ 50 عاماً، أنجبا خلالها قبيلة، كانت مشاجراتهما روتيناً يومياً ليس له أية آثار أو معنى. تقول له ليتني لم أتزوجك فقد تقدم لي العديد من الشبان لخطبتي، وهو يرد عليها لو لم أتزوجك لم ينظر أحد إلى وجهك، ويغمزنا ونحن نضحك.
علاقة جديّ مع الأرض كانت متينة جداً، ولهذا السبب في أكثر ليالي الشتاء برودة، كانا يتركان الباب مفتوحاً ليطل منظر أرضهما الصغيرة المفعمة بالخضار وهذا طبيعي كونهما كانا فلاحين. عندما كنا نستيقظ الساعة الرابعة فجراً كنت أرى جدتي تستعد للعمل في الأرض، ولم أذكر أنها أنبتني يوماً على شيء سوى مرة واحدة عندما كنت معها في الأرض ومددت يدي لأقطف برتقالة، عندها نهرتني بقوة كي لا أؤذي الغصن، نظراً لقصر قامتي، وبعدما كبرت أدركت أن هذه الأشجار كانت كأطفالها تهتم بها كل يوم، وكالأطفال كان لديها من بينهم شجرة ليمون مدللة تمنت أن تدفن تحتها وتحقق حلمها.
لم أشعر يوماً أن سرقة الفواكه حرام، على العكس من كل السرقات الأخرى، كنت أشعر أن الأرض مشاع تتلاشى فيها حدود الملكية، لذا كنت أسرق دون أي تأنيب ضمير على الرغم من أن أبي في المدينة حرق يدي مرة بالولاعة لأنني سرقت علكة ولكيلا أكررها، ومن ذلك الوقت لم أسرق شيئاً بحياتي، إلا الفواكه لأنني لم أكن أراها شيئاً محرماً فهي نتاج أرض للعوام.
كانت أرض جدي فيها جميع أنواع الفواكه، ومع ذلك كنت أستلذ بفاكهة جيران بيت جدي، أقلب نهاية كنزتي أنا وابنة خالتي لتصبح كالوعاء ونملأها بالفواكه، وعندما يكشف أمرنا ونحن فوق الشجرة نقفز فارين بما ملأت أيدينا ونحن نضحك وبعدها نأكلها بشراهة، كما كل الخطايا ممتعة وتصرفنا عندها بغريزتنا، وهذا الموضوع حيّر جدي الذي كانت تصله الشكاوى دائماً، دون أن يصل إلى جواب.
وفي الصيف، كانت الفاكهة مختلفة تماماً، تتنوع بين التوت والتين والعنب والإجاص والصبار، وكان مجال تنقّلنا نحن الأطفال أوسع نظراً لطول النهار وحرارة الصيف، لكن أضرارنا الجسدية كانت أكبر فبعد صعودنا على أشجار التين، كانت أجسادنا تتحسس ونحتاج لمراهم للشفاء، والصبار يملأ أيدينا بالشوك، والتوت يصبغ ثيابنا باللون البنفسجي الذي لا يذهب مع الغسيل، ما يجعلنا نتلقى صفعات أمي، نظراً لفقر الأحوال وعدم القدرة على شراء ملابس جديدة، لكننا كنا في كل مرة نقطف التوت، الذي كان لدينا أغلى من الثياب، ماعدا لفحات الشمس التي كانت تجعل بشرتنا سوداء، الأمر الذي يجعل أصدقائي في المدينة يستغربون منظري بعد عودتي، ويلقبونني بالأفريقية.
عندما كبرت بحثت عنه في محلات العطارين في سوريا، وكل ما أتذكره أن اسمه "تيند ريسه" هكذا حفظناه، وبعد عشرين سنة هنا في ألمانيا وجدته، كان عطراً رخيصاً موجوداً على ركن منسي، واسمه "تيزا"، فرحت كطفلة واشتريت زجاجتين منه كما لو أنني وجدت كنزاً، على الرغم من أن سعره لا يتجاوز بضعة يوروهات
كان أحلى ما في الصيف هو المساء، عندما نجتمع حول جدتي على الحصيرة، لتقص علينا قصص تنعش خيالنا وتسافر بنا إلى عوالم أخرى، لكن أحلى ليالي الصيف كانت عندما تأتي سلمى من بلاد أبعد من قصص جدتي، كان أبي معجباً بها ويريدنا أن نصبح أنا وأخواتي مثلها، قويات ومتعلمات، كان الجميع ينتظر ما تحمله سلمى معها من قصص وعطور، لا أنسى العطر الذي أعطته سلمى لابنة خالتي، ما أثار غيرتي، علقت رائحته بأنفي، حتى عندما كبرت بحثت عنه في محلات العطارين في سوريا، وكل ما أتذكره أن اسمه "تيند ريسه" هكذا حفظناه، وبعد عشرين سنة هنا في ألمانيا وجدته، كان عطراً رخيصاً موجوداً على ركن منسي، واسمه "تيزا"، فرحت كطفلة واشتريت زجاجتين منه كما لو أنني وجدت كنزاً، على الرغم من أن سعره لا يتجاوز بضعة يوروهات.
أعادني هذا العطر إلى طفولتي كاملة.
لم تبعد عني باريس سوى ثلاث ساعات ولم أزرها، لكن سلمى الفرنسية أقرب إلى قلبي، ومازلت أحمل عطرها في ذاكرتي، لقد كان حينها أشهى وأقوى كحبات التوت التي كانت تلوثنا.
"الأشياء في الذاكرة والمخيلة أجمل من الحقيقة".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Mohammed Liswi -
منذ يومأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ يومحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ 4 أيامtester.whitebeard@gmail.com