شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!

"الخُمرة" روائح نوبية مسكرة... وطقوس نسائية في "يوم الريحة"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

حياة

الخميس 4 فبراير 202104:13 م

زجاجة شفافة أنيقة تحتوي على عطر زيتي ذهبي اللون، كانت تلك "الخُمرة" التي أرسلتها إلي صديقتي النوبية الجميلة كهدية، فتحتُ الغطاء، ووقع العشق، فكتبت إليها "ما هذا الجمال. رائحة من الجنة".

تتهادى آية، العروس النوبية في قفطانها المزين بالخيوط اللامعة، وقطع الذهب التراثية "الصعفة" و"البيه"، حاملةً زجاجة متلألئة هي باكورة إنتاج خمرة زفافها، تطوف بها على المدعوات في "يوم الريحة"، فسرعان ما تتعالى أصواتهن بالنوبية "ريحة بخيت"، و"هناجدي إن شاء الله" و"أشيرما"، وهي تعبيرات عن جمال الخمرة، ودعوات للعروس لتتمتع بها وتدخل عليها السعادة.

استعدادات "يوم الريحة" كما معظم النوبيات بدأت منذ طفولة آية، فاشترت والدتها المكونات، "الظفر"، وهو مادة تستخرج من أحد أنواع القواقع البحرية، ويجري تنظيفها، ثم غليها مع الحناء للحصول على الظفر، الذي يستخدم في صنع الخمرة، وخشب الصندل، والمسك، ومجموعة عطور فرنسية، وحبوب المحلب، وخشب الطلح.

يتم شراء معظم مكونات الخُمرة من الهند والسعودية والسودان، لذا فهي تستغرق وقتاً لجمعها بالإضافة لارتفاع سعرها، فالكيلوغرام من خشب الصندل وحده يبلغ سعره أكثر من 400 دولار، وقيمة العطور مئة دولار، أما كيلو الظفر فسعره حوالي 50 دولاراً.

"الخُمرة" روائح نوبية مسكرة... وطقوس نسائية في "يوم الريحة"

لأكثر من أسبوع، تجتمع آية وقريباتها وجاراتها وصديقاتها، ويكسرن خشب الصندل والطلح، ويقمن بعملية معقدة لاستخراج الظفر من القواقع، وتُطحن حبوب المحلب على حجر قديم يشبه الرحاية.

دعت والدة آية، السيدة الخبيرة بإعداد الخُمرة في قريتها لتفقد ما جمعته، وجهزته من مواد لتتأكد من وجود كل مستلزماتها ثم حددتا موعد اليوم المنتظر، وذلك قبل عدة أشهر من موعد الزفاف ليتخمر العطر ويزداد جمالاً، وتراوح أجور السيدات ممن يحترفن إعداد الخمرة بين المجاملة المجانية و 125 دولاراً.

سيدة الخُمرة

انطلقت نغمات الأغنية التراثية السودانية "كبوا البخور" مع حضور سيدة الخُمرة (محترفة صناعتها)، وبدء تحضيراتها على أحد ملابس العروس، المخصصة للاستخدام بعد الزفاف، جلباً للحظ الجيد، وتجمعت المدعوات من القريبات، والجارات، والصديقات، وتزينت العروس، واستخدمت الحناء ليديها فقط، فالآنسة النوبية المولعة عادة بالحناء، لا تستخدمها للرسم أو للجسد أو القدمين كواحدة من العادات القديمة.

يشتهر نوبة السودان أيضاً بصنع "الخُمرة"، فمع ترسيم الحدود بين مصر والسودان عام ١٨٩٩، تم تقسيم القرى النوبية بين البلدين، ولكن الثقافة والتراث ظلا يجمعان من فرقتهم الحدود.

بعد صباح حافل بالرقص، والغناء، والروائح البهية، تقدم أسرة العروس الغداء لضيوفها، أما العصر فهو موعد البسكويت أو "القراقوش"، وهو نوع من المخبوزات المقرمشة، والمشروب النوبي الأشهر "اتشي كول"، وهو الشاي بلبن، ولكن مع "سر" يمنحه طعماً مميزاً لا ينساه من يتذوقه.

"الخُمرة" روائح نوبية مسكرة... وطقوس نسائية في "يوم الريحة"

تقول آية لرصيف22: "زمان كانت الحاجة اللي بتعمل الخُمرة بتجهزها يوم الزفاف في غرفة نوم العروس، وتعطر ملابسها، وتبخرها بعد أن تنتهي مهمتها، ولكن حالياً تصنع في بيت العروس، وعلى نفقة أسرتها، وهو يوم تلتزم به كل البنات في البلد حتى الآن، مهما كان مستواهم المادي، وكل واحد قدر استطاعته يزود أو يقلل الكمية، ويغير في بعض الخامات الغالية، وممكن يتم من غير دعوة ضيوف".

انتهت السيدة من تعبئة زجاجات الخُمرة في العبوات الشفافة والفاتحة فقط، فالزجاجات الداكنة قد تجلب "الفأل السيئ"، بحسب معتقدات نوبية موروثة.

تتهادى آية، العروس النوبية في قفطانها المزين بالخيوط اللامعة، وقطع الذهب التراثية، حاملةً زجاجة متلألئة، تطوف بها على المدعوات في "يوم الريحة"، فتتعالى أصواتهن بالنوبية "ريحة بخيت"، و"هناجدي إن شاء الله" و"أشيرما"

صنعت أنواعاً متعددة من الخُمرة، منها الظفر، والمسك، والبرتقال، والمسني، وخُمرة المحلب، والأخيرة هي عطر زيتي أكثر ثقلاً من الأنواع الأخرى، ويتميز بالثبات، ويُستخدم عادة في الشتاء، أما الدلكة فهي كرات بحجم الزيتون، يتم تذويبها بالماء، ثم يدهن بها الجسم ليحظى بتعطير يدوم يومين، بالإضافة إلى بخور الخشب الذي ينقع في العطور فترة من الزمن، ويتم تقليبه يومياً حتى يكتسب رائحته المميزة.

حصلت آية على مجموعة من النصائح وطريقة الاستخدام، منها: "يجب ألا تلامس يدها العطر الموجود بالزجاجات حتى لا تتغير رائحته، ولا تسرف في استخدامه، فهي لن تحصل على خمرة بروعة خمرة زفافها مجدداً، وألا تتخلص من العلب الفارغة، وبقايا صنع الخمرة إلا بعد الزفاف لتجنب الفأل السيئ"، كما قالت الخبيرة بصنعها.

تحصل والدة العريس أو جدته على زجاجة مميزة من الخُمرة هدية من العروس، أما شقيقته فلا تحصل عليها إلا إذا كانت متزوجة، وتهدى إلى عماته وخالاته أيضاً، ولكن لا تماثل زجاجاتهم قيمة هدية الأم.

"الخُمرة" روائح نوبية مسكرة... وطقوس نسائية في "يوم الريحة"

ارتفاع تكلفة "يوم الريحة"

رانيا، شابة نوبية مقيمة بمحافظة الجيزة، بعيداً عن النوبة أو "أرض الذهب"، وخُمرتها السحرية، ورغم ذلك توجد تجمعات كبيرة للنوبيين في القاهرة والسويس والجيزة، ويتمسك بعضهم بإقامة "يوم الريحة".

ولكن عوائق أخرى مادية حرمت رانيا من اليوم الذي تحلم به، فتكلفة مكونات الخمرة، وشراء قفطان أو فستان للاحتفال والتزين ووليمة للحاضرات، تفوق قدرتها المادية حالياً، بعد أن بددت تجهيزات شقتها الجديدة معظم مدخراتها، ومدخرات أسرتها.

تحكي رانيا لرصيف22 عن "يوم ريحة" حضرته، أثناء زيارة لقريتها النوبية قبل أكثر من عشر سنوات، ولكن تفاصيله المدهشة، رسخت في ذهنها، وأبقتها منتظرة أوان يوم خُمرتها: "العروسة كانت زي القمر، لابسة قفطان لونه ذهبي وأحمر، ولابسة ذهب جميل وكتير، والكل بيغنوا لها، وهي بترقص مع قرايبها، وجيرانها البنات، وماسكة مبخرة لونها ذهبي، وريحة المكان كله لا مثيل لها".

رانيا حزينة لفقد هكذا بهجة، خاصة بعد أن ظلت تعدّ تفاصيلها، وتتخيل نفسها في ليلتها الذهبية العطرة، ولكنها (وإن فاتها يوم الخُمرة) لا تنوي أن تتفلت منها الخُمرة ذاتها، فحاولت شراء بعض الزجاجات من الجيزة والقاهرة، ولكن معظمها تجاري، وعلى عجل، لذا توصي العروس كل من يزور البلدة القديمة بأن يحضر لها زجاجة من الخمرة، لتحتفظ بها لليلتها الموعودة.

لحاسة الشم اهتمام، وإرث عند النوبة، وتحتل روائح "الخُمرة" مكانة مميزة، في الأعراس، وانتقال المرأة من العزوبية للزواج، بتقاليد اجتماعية، وطقوس إعداد واحتفال خاصة

حصلت رانيا على ثلاث زجاجات من الخُمرة، واحدة منها تباع معبأة ومغلفة لدى محلات العطور والعطارة بأسوان، اشترتها صديقتها غير النوبية في رحلتها لأسوان، ظناً أنها الخمرة المطلوبة، ورغم أن رائحتها جميلة فهي أقرب للعطور التجارية، ولا علاقة لها بتلك الرائحة، التي أسرتها قبل عشر سنوات. زجاجة ثانية أتتها من إحدى قريباتها، كانت جميلة حقاً، ولكنها ليست تلك التي بمخيلتها، كنزها الحقيقي كان هدية خالتها، زجاجة جميلة معبأة بخمرة حقيقية مثالية وآسرة، كانت جزءاً مما أعدته الخالة المقيمة بالنوبة لزفاف ابنتها.

"البحث عن الخمرة في القاهرة"

لا تسكر "الخُمرة" أهل النوبة فقط، فقد وجدت طريقها لقلب ريم، عروس من الإسكندرية، بعد أن أهدت إليها صديقتها النوبية زجاجة جميلة من العطر الفواح.

تقول ريم لرصيف22: "مكنتش أعرف يعني إيه خمرة، ولما صاحبتي النوبية قالت لي هاجيب لك خمرة هدية الفرح، افتكرتها تقصد الخمر، واستغربت جداً لأنها متدينة، هي ضحكت وشرحت لي هي عبارة عن إيه".

بعد أيام استلمت ريم صندوقاً صغيراً عامراً بالروائح البهية، هدية من صديقتها، تقول: "كانت أول مرة أشم عطر بالروعة دي، جميل، ومميز، وثابت جداً، والبخور كمان كان جميل جداً مش زي أي بخور شميته قبل كدة، وكان في كمان مبخرة لونها ذهبي، ومحلبية، وحنة.. كانت أحلى هدية جات لي".

بعد عامين من زواجها، واقتراب عطرها السحري من النفاد، بدأت ريم البحث عن الخُمرة، اشترت أنواعاً تجارية، وأخرى مغشوشة، وكان الأفضل حالاً ما اشترته من سيدة سودانية تعمل في رسم الحناء "حنانة" للعرائس والسيدات، وكان الخبر السعيد لها هو أن "التفل" المترسب في الزجاجة الأولى يمكن إضافة بعض المواد والزيوت إليه لتحصل على زجاجة جديدة ممتلئة من عطرها الأفضل.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image