سوف تعرف صوته على الأغلب حتى وإن جهلت شكله، فقد ترك في أذنيك بصمة لن تُمحى بسهولة، كيف لا وقد صاحبتك نبراته المميزة في أحلى أوقات فترة المدرسة، تلك اللحظات المرحة الدافئة أمام شاشة MBC3 أو كارتون نيتورك أو نيكلوديون، وغيرهم من قنوات الأطفال الفضائية رفيقة الصغر.
أتحدث عن أحد أشهر العاملين بمجال الدوبلاج، الفنان المصري معوض إسماعيل، والذي ظفرتُ بمقابلة طويلة معه، فشعرتُ أنني أتحدث مع مارتن ميستري، بطل طفولتي الكارتوني، وجهاً لوجه، وقد خرج من عالم الرسوم المتحركة بشخصه، ليكشف لي أسرار الميكروفون وتقمص الشخصية والتجسيد الصوتي العسير، كما صدمني بالجانب المُظلم الأبدي، خلف كواليس الفن والثقافة.
الدوبلاج... لنعرف عنه أكثر
رسم للفنان معوض إسماعيل مع بعض أشهر أدواره في الدوبلاج
مع انتشار البث الفضائي والإنترنت خلال السنوات الأخيرة، لم يعد الدوبلاج والتعليق الصوتي قاصرين على أهل المهنة فقط، وكأن مهارات الحنجرة المُبهرة هذه قادمة من كوكب آخر يحيا فيه الممثلون ومهندسو الصوت وحدهم، في استوديوهاتهم الصامتة المُبطّنة بالإسفنج العازل للصوت.
اليوم مع وجود السيد Google وإخوته، راحت الأجيال الجديدة تفتش عن خبايا هذا العالم الكامن خلف الشاشة، الذي عاشت معه سنوات وما زالت، في أعمال الكارتون والمسلسلات التركية المدبلجة، وكذلك الأفلام الوثائقية بتعليق الأصوات الرخيمة، حتى أن نجوم الدبلجة أنفسهم بدأوا يظهرون على مواقع التواصل الاجتماعي، ومؤخراً صارت المسلسلات تكتب أسماء المدبلجين على تتر النهاية، لتترك خيطاً لمن يريد السعي أبعد.
سوف تعرف صوت معوض اسماعيل على الأغلب حتى وإن جهلت شكله، فقد ترك في أذنيك بصمة لن تُمحى بسهولة، كيف لا وقد صاحبتك نبراته المميزة في أحلى أوقات فترة المدرسة، تلك اللحظات المرحة الدافئة أمام قنوات الأطفال الفضائية رفيقة الصغر
وبصفتي أحد الأطفال الشغوفين (فيما مضى وربما إلى الآن) الذين تتسع أعينهم وتتيقظ آذانهم أمام إتقان الرسوم المتحركة، رسماً وتأليفاً وصوتاً، كُنت أعرف نبرات معوض إسماعيل وأميّزها بسهولة، فهو الممثل الرئيس في عدد كبير من الأدوار البديعة عميقة التأثير، ربما أبرزهاfairly odd parents أو "تيمي تيرنر"، "كيرمت الضفدع"، "ظاظا وجرجير"، chicken little، "داندي والسيد ورطة"، وطبعاً "مارتن ميستري" وغيرهم الكثير والكثير، لكني كُنت أعرف كذلك عن بطل طفولتي هذا، أن انطلاقته الأولى بدأت من "الحقيقة" وليس الخيال.
البداية من قبل "وكالة البلح"
ربما دفع الفضول كثيراً من المشاهدين مثلي، لمعرفة شيء أو شيئين عن معوض إسماعيل، المتصدر أغلب تترات المسلسلات الكارتونية التي شارك بها، وغالباً كل من يبحث عن اسمه على الإنترنت سيُفاجأ بدوره المؤثر طفلاً في المسلسل فائق النجاح والشهرة: "لن أعيش في جلباب أبي".
معوض إسماعيل متقمصًا دور عبد الوهاب صغيرًا، في مسلسل "لن أعيش في جلباب أبي"
فعلاً، عبد الوهاب عبد الغفور البرعي، الطفل الوسيم المقهور من سلطة أبيه الأمي، إمبراطور الخردة، تزوره وكالة البلح بقذارتها وسوقيتها في كوابيسه، حيث يتخيل مستقبله المرعب في مهنة رب الأسرة القاسي. الحقُّ أن دوره كان مُتقناً وعالقاً بالذهن رغم الحلقات القلائل التي ظهر بها في طفولة عبد الوهاب، الذي سيصبح لاحقاً الفنان محمد رياض.
لم يكن هذا دوره الأول في الطفولة، فقد سبقته أعمال عديدة، بدأها في السابعة من عمره، أبرزها مسلسل العرائس الرمضاني الشهير "بوجي وطمطم"، بل وظهر فيه باسمه الحقيقي، قبل أن يتجه بقوة إلى "الدوبلاج" بصفته ممثلاً في الأساس، هذا المجال الصوتي الذي كنت أحسبه الأهم في مشواره، لكنه أثبت لي العكس تماماً.
يُطلق البعض على معوض اسماعيل لقب "رئيس جمهورية الدوبلاج"، لكن اللافت أنّ عدد أعماله الفنية الأخرى، ما بين مسلسلات درامية وأفلام حية طويلة وقصيرة، فاقت الـ250 عملاً
تنوع فني
فعلاً كنتُ أظنه سيحدثني طوال المقابلة عن أدواره الصوتية فقط، وأعماله صعبة الحصر في المسلسلات والأفلام الشهيرة القادمة من ديزني وdreamworks. صحيح... يعترف معوض بأن البعض يطلقون عليه "رئيس جمهورية الدوبلاج"، لكنه أيضاً فاجئني بعدد أعماله الفنية الأخرى التي فاقت 250 عملاً، ما بين مسلسلات درامية وأفلام حية طويلة وقصيرة، كما خاض تجارب إنتاجية وإخراجية أيضاً في الرسوم المتحركة، وحالياً له فيلم تمثيل حي طويل بعنوان "الشرابية"، من إخراجه، على وشك العرض في السينما.
مُلصق فيلم "الشرابية" من إخراج معوض إسماعيل
لا يستقر معوض في مهنة محددة، فهو يجمع بين الكتابة والإخراج والتمثيل، هو الفنان الشامل إذن، يُخرج طاقته في أكثر من مجال، ويرفض العمل الروتيني اليومي، فيعمل "حرّاً" دون قيود الوظيفة والمكتب والدوام
احتراف معوض للدوبلاج لم يأت من فراغ إذن، فهو ممثل بارع في المُطلق، والتجسيد أمام الكاميرا سيجعله كذلك مع الميكروفون، الشغف الذي صقله الفنان الصغير بالمزيد من الأعمال التمثيلية والصوتية، في فترة التسعينيات والألفينيات بالخصوص، وقتما كانت الوسط الفني مختلفاً تماماً عن حاله اليوم وفق تعبيره، فقد وجد الفرصة حينها لاكتشاف موهبته أمام القمم الفنية.
كانت دهشتي الأكبر مع الحقيقة الصريحة التي ألقاها معوض، لا يمكن الاعتماد على الدوبلاج وحده لكسب الرزق، فحتى مع غزارة أعماله وشهرتها وصناعة اسم كبير في مجاله، لا بد من طريق آخر أكثر عملية واستقراراً، جوار الشغف الفني أياً كان، لهذا درس معوض في كلية الحقوق، كما نصحه الممثلون الكبار أنفسهم في أكاديمية الفنون، ورفضوا أن يسجلّوه بنقابة المهن التمثيلية، دفعاً له وتشجيعاً نحو تأسيس وتأمين نفسه بالدراسة وعدم الارتكان لموهبته فقط، رغم اللوائح التي تسمح له بالتسجيل النقابي بصفته ممثلاً منذ الصغر، لكن هذا ليس كل شيء عن صدمات الرجل!
كابوس الفن!
لا يستقر معوض في مهنة محددة، فهو يجمع بين الكتابة والإخراج والتمثيل بنوعيه، هو الفنان الشامل إذن، يُخرج طاقته في أكثر من مجال، ويرفض العمل الروتيني اليومي، فيعمل "حرّاً" دون قيود الوظيفة والمكتب والدوام، لكنه يعيش في خطورة دائمة من اختفاء الفُرص وكابوس "السوق النائم"، ليضطر دائماً لممارسة ما يحبه في رعب!
هكذا أخبرني مارتن ميستري بطل جنة الطفولة بالحقيقة المظلمة عن جحيم النُضج والشيطان الكامن في التفاصيل! إذن هل يمكن لمعوض أو لأي فنان آخر أن يعمل بشهادته إذا ساءت الأمور؟ أجابني مباشرة بصعوبة العودة بعد التقدم، لأنه الآن متنوع الخبرات، ولن يعجزه البحث عن باب للرزق إذا انغلق باب آخر، ولكن هذا له ثمنه أيضاً.
معوض إسماعيل صغيرًا مع الفنان القدير الراحل فؤاد المهندس
هذا الفنان المحترف يؤكد أن الـSeason لا يرحم، ويضطره أحياناً إلى العمل لـ 4 شهور متواصلة دون نوم، وبالتالي فهو يضغط عمل السنة كلها في ربعها! ثم إنه يفكر ويتصرف بطريقة الفنانين الكبار الكلاسيكية، عن ضرورة كون الممثل Image لا يجب أن يبخل على تحسين صورته بكل شكل، فملابسه كلها على حسابه مثلاً، وقبوله بالعمل في مسلسل ما يتم بناءً على الشخصية الملائمة لقدراته، فبعض الأدوار تركها من أساسها، لأنها لا تليق به في نظره، ببساطة يؤكد لنا أن الفن والثقافة سيبقيان كما هما، مجالين خطرين مادياً رغم ما يمنحانه من لذة العمل.
خبرات دوبلاجية
كان لا بد لي أن أعرف من معوض بعض التفاصيل اللطيفة لعمله بعيداً عن سوداوية المهنة، فالرجل مثلاً أخبرني عن اضطراره للنوم أثناء التسجيل في وطأة الإرهاق، فلا يستيقظ إلا عندما يأتي دوره، وهكذا يضمن إغفاءة قصيرة بين الجملة والأخرى!
معوض إسماعيل - جالسًا - في الإستوديو، استعدادًا للتسجيل وضبط الإعدادات
سألته أيضاً عن التقمص قبل التجسيد وضرورته، هل يجب على الفنان الصوتي بشكل عام أن يستحضر الشخصية قبل الدخول للاستوديو؟ هل فعل هو ذلك مع تيمي تيرنر مثلاً؟ الإجابة كانت عكس توقعاتي تماماً، فهو لم يحضّر لأي دور من أعماله الشهيرة العديدة! فغالباً لا وقت لذلك، ثم أن الممثل الصوتي يستخرج من أعماقه وخبراته كل ما يصلح للشخصية التي يؤديها، وبالتالي يأتي تجسيده سليماً.
هنا، وبصفته مُدرّباً في المجال كذلك، طلبتُ من معوض توجيه النصائح لمن يحب خوض غمار الدوبلاج بشكل عام، خاصة مع رغبة الكثيرين في تجربة أصواتهم وعدم الاكتفاء بمشاهدة الكارتون فقط، بل محاولة تجسيد الشخصيات المحببة لهم، فمن لم يحاول تقليد صوت "سكار" في فيلم الأسد الملك مثلاً؟
لا تقلق... صوتك مطلوب!
مفاجأة أخيرة سارّة أكّدها لي معوض إسماعيل، كل الأصوات صالحة للدوبلاج والأهم ليس عذوبة أو تميّز الصوت، بل التقمّص و"التكنيك" اللازمين أمام الميكروفون، فمن الطبيعي أن تتطلب شخصية معينة صوتاً بعينه، وقد لا يناسبك دور "تيمي" مثلاً وهو الطفل المَرِح الشقي إن كان صوتك رخيماً وقوراً! لذا فلا تعبأ بنوعية موهبتك، لأن صوتك حتماً مطلوب في دور ما، السؤال التالي الأهم: هل الأداء والتقمص نفسه عملية صعبة؟
معوض إسماعيل رفقة بوجي وطمطم، ضمن مسلسل العرائس المصري الشهير
يقولها معوض صريحة: "الأداء ليس المشكلة"، لأن المدبلج يسمع الصوت بلغته الأصلية أياً كانت، ثم يكرر نفس الإحساس بها، طبعاً لأن الدبلجة في الأساس هي عملية تغيير لغة العمل الفني - مسلسل حقيقي أو رسومي - إلى لغة أو لهجة أخرى، والطريقة المُستخدمة غالباً تشمل تنكيك الاستماع والتكرار هذا، الشيء الذي يصفه معوض بـ"الصعب السهل جداً"! لأن ضبط سرعة وإيقاع الكلام مطلوبان، حتى ينطبق الصوت على الصورة أو يُسمى بالـ lip sync، لذا قد يضطر المدبلج لإعادة الجملة أكثر من مرة، ومع الخبرة تكفيه مرة واحدة فقط.
نقطة أخيرة يشدد عليها الرجل، ألّا ينخدع محبو الدوبلاج في الاستوديوهات غير المضمونة في التدريب، التي انتشرت مؤخراً مع الاهتمام بالمجال، لأنها قد تكتفي بالقشور ولا تعطي المادة العلمية الكافية، وحذّر معوض أشدّ التحذير من الاستوديوهات التي تطلب عينات صوتية مقابل المال مهما كان قليلاً، فهنا يبدو النصب واضحاً جداً، لأن الاستوديو الجاد حين يحتاج لأصوات معينة من أجل عمل حقيقي، لن يطلب مالاً من المتقدمين، وإنما سيعطيه لمن يستحق ولمن يناسبه الدور.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع