في نهاية ثمانينيات القرن الماضي، كان السوريون يتجمعون أمام التليفزيون لمشاهدة الوثائقيات والرسوم المتحركة، وتحديداً عبر القناة الثانية الأرضية التي كانت تبث برامج عن الرياضة والصحة والأسرة، وكانت تشكّل، إلى جانب القناة الأولى، الوسيلة الوحيدة لتسلية الناس.
وكانت برامج التليفزيون في تلك الفترة قيمة مضافة كبيرة من خلال محتواها، سواء بالنسبة للوثائقيات أو الرسوم المتحركة، والتي كانت بمعظمهما "تدبلج" من لغات أجنبية عديدة إلى اللغة العربية، وبأصوات عدد من الممثلين السوريين.
من هنا كانت بداية حرفة الدوبلاج في سوريا، من خلال عدد من المراكز المتخصصة التي امتلكت استديوهات مجهزة بأحدث التقنيات، وأيضاً في مبنى الإذاعة والتلفزيون السوري، حيث دبجلت العديد من الأعمال للمرة الأولى.
واحترف عدد من الممثلين السوريين مهنة الدوبلاج التي تحولت إلى مصدر دخل أساسي لهم، كما شكّلت أصواتهم جزءاً من ذاكرة الجمهور العربي على مدار عقود متواصلة، حيث اشتهر ممثلون وممثلات، منهم أمل حويجة، يحيى الكفري، فاطمة سعد، محمد خرماشو، محمد خاوندي وآمال سعد الدين، بأداء أدوار ماوكلي، الكابتن ماجد، القناع، روبن هود، لحن الحياة، باباي، النمر المقنع، كونان وغيرها من الأعمال المدبلجة.
قلة الإنتاج الدرامي ساهم بنهضة الدوبلاج
الفنان يحيى الكفري والذي حُفِر صوته في ذاكرة جيل التسعينيات من خلال مسلسلات كرتونية، منها "صقور الأرض" و"مغامرات سوسان"، يروي لرصيف22 بداية تجربة الدوبلاج في سوريا، وكيف أن الظروف الاقتصادية وقلة الإنتاج الدرامي التلفزيوني إلى حد منتصف التسعينيات، ساعدا على انتشار الدوبلاج، والأمر مماثل في السنوات التالية للعام 2007، حيث شهدت الدراما التلفزيونية السورية تراجعاً وانحداراً بعد نهضتها بشكل ملحوظ.
شكل كل ذلك أسباباً أساسية للتوجه نحو الدوبلاج، ويرى الكفري أن هذا الفن أتى "رزقة للناس" على عدة أصعدة، فهو مكسب مادي للعاملين به، من ممثلين ومشرفين ومترجمين ومعدين وغيرهم.
ويشير الكفري إلى أن إحدى مزايا الدوبلاج حول العالم أنه عمل على النهوض بالمجتمع، حيث كان المستهدف الأول من عمليات الدوبلاج منذ بداية هذه الحرفة في العالم، الجمهور غير القادر على القراءة، ونتيجة لنسب الأمية الكبيرة انتشر الدوبلاج الصوتي في العالم، حيث كانت الأعمال العالمية في البدايات تعرض مع ترجمتها للغات محلية، ما يصعّب على الجمهور متابعتها.
احترف عدد من الممثلين السوريين مهنة الدوبلاج التي تحولت إلى مصدر دخل أساسي لهم، كما شكّلت أصواتهم جزءاً من ذاكرة الجمهور العربي على مدار عقود متواصلة
من المسرح والدراما إلى الدوبلاج
تروي الفنانة رغدة الخطيب، لرصيف22 تجربتها الفعلية التي بدأت في عام 2000 في مركز الزهرة للدوبلاج، وهو ثاني مركز متخصص أنشئ في سوريا: "دخلت صدفة من المسرح إلى عالم دوبلاج الكرتون، حيث بدأت كمتدربة، ثم حللت محل زميلتي سمر كوكش في شخصية بيكاتشو في عمل 'بوكيمون' لعدة حلقات".
وبحسب الخطيب، كان أسلوب التسجيل في البدايات جماعياً، ما يدفع بالممثلين إلى الالتزام والجدية، لأن خطأ واحداً صغيراً قد يُجبر على إعادة الدبلجة من البداية ولجميع الممثلين، لكن مع تطور تقنيات التسجيل وظهور برامج صوت متخصصة، أصبح كل ممثل يسجل مشاهده على حدة، ما سهّل وسرّع وتيرة العمل المنجز.
وعلى صعيد المسلسلات المدبلجة، تقول الفنانة: "كنت من الممثلات اللواتي شاركن في أوائل الأعمال التركية التي دبلجت في سوريا، مثل مسلسل 'سنوات الضياع'، وهو ثاني مسلسل درامي تركي دُبلج في دمشق".
وتتابع في حديثها: "أفضّل دبلجة أعمال الكرتون على دبلجة المسلسلات الدرامية، ففي الأعمال الكرتونية تقع على عاتق الممثل وباقي فريق العمل مسؤولية أخلاقية وتربوية أكثر من الأعمال الدرامية، رغم أن الأخيرة تعزز هامشاً رقابياً لا بأس به على المشاهد الدخيلة على المجتمع العربي، وهذا ما لا تفعله شركات الدبلجة العربية التي تعمل خارج سوريا".
وبالحديث عن تجربة ممثلي الدراما في الدوبلاج، تؤكد رغدة أن ممثل الدوبلاج يستطيع إتقان التمثيل أمام الكاميرا، لكن ممثلي الدراما ليس بالضرورة أن يتقنوا فن الدوبلاج، فالدوبلاج يعتمد على الإحساس بالمرتبة الأولى.
دوبلاج الكرتون أكثر مسؤولية
يؤكد الفنان يحيى الكفري أن على الممثل الحذر عندما يتعلق الموضوع بدبلجة مسلسلات الأطفال، مع ضرورة قولبة الشخصيات بحيث تترك قيماً سامية عند الأطفال.
ويقول الكفري: "بالكرتون نخلق من خطوط وألوان لحماً ودماً، لنقنع الأطفال بالقيم المقدمة، ومن الضروري أن يأخذ الممثل أدوار الشر باتجاه كوميدي، للتخفيف من حدة الشر وليستسيغها الأطفال".
ويؤكد الكفري على أن هناك معايير بدوبلاج الدراما لا يمكن للممثل تجاوزها، على عكس الكرتون، حيث يقدر الممثل على الإبداع إلى أبعد الحدود، وأن ميكرفون الدوبلاج قادر على كشف الممثل الحقيقي من الممثل غير الحقيقي، فالدوبلاج يعتمد على الحسّ الذي يصنع الصورة بالدرجة الأولى.
الحرب والدوبلاج
في لقاء مع رصيف22، يقول غارب حمود، وهو صاحب شركة محاكاة مختصة بأعمال الترجمة والإعداد، إن المسلسلات المدبلجة بأصوات سورية لطالما اعتبرت رديفاً للدراما السورية، خاصة خلال سنوات الحرب، عندما كان تسويق الأعمال الدرامية صعباً إلى حد ما، ويضيف: "سوريا هي الدولة العربية الأولى والسباقة من حيث جودة تنفيذ الأعمال المدبلجة، وهناك عوامل ساهمت في ذلك، فاللهجة السورية محببة لدى الشارع العربي عامة، حيث ساهم البث عبر الأقمار الصناعية بانتشار هذه اللهجة كثيراً".
ويشدد حمود على أن استخدام التقنية المتطورة في عمليات الدبلجة واعتماد الأصوات السورية المميزة والموهوبة في الدوبلاج ساهما في الانتشار. وعلى صعيد النصوص التي تجهز للدبلجة، ابتُدعت عدة شركات محاكاة تختص بموضوع تحضير النصوص المترجمة قبل أن يعتمدها الممثل، والشرط الأساسي في هذا العمل هو السرعة في التنفيذ.
ووفق حمود، تعتبر المنصات الخليجية هي الأكبر لعرض الأعمال المدبلجة، معتبراً أن فن الدوبلاج يتقدم بالتوازي مع تقدم الدراما، رغم أن المسلسلات المدبلجة حلّت في سنوات الحرب محل المسلسلات الدرامية، لكن سرعان ما أخذ كل منهما موقعه الأصلي.
وشجعت نسب المشاهدة في الشارع العربي عامة، والسوري خاصة، على استمرار تنفيذ الأعمال المدبلجة والتي تجاوزت الرسوم المتحركة والأعمال التركية، فالدراما الأميركية والهندية والكورية لاقت حصتها في استديوهات دمشق.
"سوريا هي الدولة العربية السباقة من حيث جودة تنفيذ الأعمال المدبلجة، وهناك عوامل ساهمت في ذلك، فاللهجة السورية محببة لدى الشارع العربي عامة، حيث ساهم البث عبر الأقمار الصناعية بانتشار هذه اللهجة كثيراً"
الكتب الصوتية التجارة الأربح للمستمع
وبالتزامن مع الحديث عن الفنون الصوتية وما يمكن إنتاجه من إرث سمعي من خلال تطور التكنولوجيا المستخدمة في عمليات التسجيل والدوبلاج، أصبح بالإمكان التمتع بميزة الكتب السمعية على شكل صيغ صوتية، حيث يتحدث الفنان يحيى الكفري لرصيف22 عن مشروع الكتب الصوتية الذي بدأ عام 2017 في سوريا، من خلال تسجيل الروايات العالمية والعربية، مثل سجين المريخ لأندي ويير، الجريمة والعقاب لديستوفيسكي، مزرعة الحيوان لجورج أورويل وعداء الطائرة الورقية لخالد الحسيني.
ويقول الكفري:" على الاستديوهات المستخدمة في عملية تسجيل الكتب أن تكون معزولة بشكل جيد، وأن تكون مجهزة بالمعدات اللازمة، من ميكسرات صوت وميكرفونات وشاشة عرض كما في عمليات الدوبلاج".
وعن سبب الاهتمام بهذا النوع من التسجيلات يرى الكفري أن عجلة الزمن أصبحت سريعةً جداً في الوطن العربي، إضافةً إلى أن أوقات الفراغ لا تستثمر بالقراءة: "من هنا بدأت الفكرة، يأتي مشروع الكتب الصوتية كخطوة تشجيعية لإدخال ثقافة القراءة السمعية لمواكبة الإرث الثقافي".
إضافة لذلك، يهتم المشروع بشكل كبير بالمكفوفين، وهم أكثر من يحتاج إلى الإحساس بالقارئ، لأن المكفوف محصور بعالمه الداخلي: "لذلك تمّت الاستعانة بممثلين وإعلاميين على قدر كبير من الكفاءة التمثيلية لإيصال الفكرة كما يجب"، وفق حديث الكفري.
وتصف الفنانة رغدة الخطيب مشروع الكتب الصوتية، مع كونها من أوائل الممثلات اللواتي عملن به في دمشق، بأنه "تجربة ممتعة ومليئة بالأحاسيس"، وتشير إلى الدور الكبير للقارئ في هذا المشروع، حيث يتوجب عليه أداء أصوات الشخصيات بكل براعة، ما يعني ضرورة قراءته للقصة أو الرواية جيداً قبل المباشرة بالتسجيل.
وتوصي الخطيب بالاستماع إلى الكتب الصوتية، فهي تجربة تشبه حضور المسرح، وأصرت على أن الانفعالات التي يقوم الممثل بأدائها أثناء القراءة تضاهي في أهميتها الانطباعات التي تجسد على خشبة المسرح، وفق تعبيرها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...