على الرغم من العزلة العربية والإقليمية التي عاشتها مصر عقب توقيع اتفاق كامب ديفيد للسلام، بينها وبين إسرائيل، إلا أن الرئيس المصري الراحل أنور السادات لم يتوانَ لحظةً واحدة عن تحقيق التزاماته تجاه صديقه الحميم، الشاه الإيراني محمد رضا بهلوي، عقب طرده من طهران إبان الثورة الإسلامية. خطوة وُصفت في وقتها بـ"الجريئة"، في ظل حالة الجدل التي خلّفها الشاه في ضوء سياساته تجاه إسرائيل والمنطقة العربية.
جمعت السادات والشاه الإيراني علاقة صداقة وثيقة امتدت إلى خارج أسوار الحكم والسياسة، وتجسّدت في علاقة قوية بين عائلتيهما.
بداية العلاقة
مغانم كثيرة حققها كل طرفٍ من الآخر، في ظل رغباتهما المشتركة في إحياء الأمجاد التاريخية والقومية للبلدين. فكيف بدأت هذه العلاقة؟ وما الذي حققه كل طرف من الآخر؟
يمكن الحديث عن مرحلتين في علاقة الشاه بالسادات: الأولى كانت عندما كان أنور السادات ضابطاً في الحرس الملكي للملك فاروق، وجاء ولي العهد الإيراني محمد رضا بهلوي إلى مصر لخطبة الأميرة فوزية، أخت الملك، وكان السادات أحد ضباط الشرف الذين استقبلوه في قصر عابدين الملكي في القاهرة، عام 1938.
أما المرحلة الثانية، فكانت عام 1969، مع انعقاد قمة المؤتمر الإسلامي في الرباط، عقب حرق المسجد الأقصى. كان السادات نائب رئيس الجمهورية في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، وكانت العلاقات المصرية الإيرانية مقطوعةً وقتها بسبب العداء الواضح والصريح بين الطرفين. وقتها، طلب عبد الناصر من السادات تقريب وجهات النظر بين مصر وإيران، لكن حدثت مشادة كلامية بين الشاه والسادات بعدما قال الأول للثاني: "إيران مستعدة لمساعدة مصر المهزومة في حربها، شرط أن تكون قد تعلّمت". لكن السادات كان مصراً على تلطيف الأجواء مع الشاه خلال هذه القمة، فشكره لدعمه القضايا الإسلامية.
ومنذ ذلك العام، نشأ إعجاب بين الزعيمين، وتعلّم السادات اللغة الفارسية خصيصاً، ليقرّب وجهات النظر بين البلدين، ويحاول جذب الشاه إلى المواقف المصرية والعربية ضد إسرائيل.
وفي العام ذاته، قامت الكويت بوساطة بين إيران ومصر، وضع فيها الشاه شرطين لإعادة العلاقات مع مصر: أولهما تقديم القاهرة اعتذاراً لإيران عن استفزازاتها السابقة، والثاني هو أن الخطوة الأولى نحو تطبيع العلاقات بين البلدين يجب أن تقوم بها مصر.
وافق عبد الناصر المهزوم عام 1967، على الشرطين القاسيين اللذين وضعهما الشاه، إذ كانت آماله بتولي مصر دوراً إقليمياً قد تراجعت، حسب ما يذكر رئيس المجلس الأمريكي الإيراني، تريتا بارزي، في كتابه "حلف المصالح المشتركة".
السادات رئيساً
ومع تولّي السادات الحكم، عام 1970، بدأ بتبنّي مقاربة أكثر وضوحاً تجاه الغرب، وإبعاد مصر عن المعسكر السوفياتي. تقاطعت هذه المقاربة مع سياسات الشاه، في ظل تنامي رغباته في إحياء أمجاد الإمبراطورية الفارسية، ومدّ نفوذه الإقليمي في المنطقة والخليج، بعد غياب عبد الناصر.
وعلى الفور، بدأ السادات باتخاذ خطواتٍ تساهم في تقريب وجهات النظر بين البلدين، كان أولها إرسال مستشاره الأمني والسياسي أشرف مروان، الذي نجح في دفع الشاه إلى توقيع اتفاقيات تجارية وثقافية بين البلدين، حسب ما يذكر رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية (أفايب)، محمد أبو النور.
يردّ بارزي هذا التقارب إلى أسباب أخرى، منها خطوات السادات في الاتجاه نحو المعسكر الغربي، وينقل بارزي عن الباحث الإيراني في مؤسسة الدراسات الإيرانية، غلام رضا أفخامي، أن "السادات بدأ بالتشاور مع الشاه الإيراني حول التواجد السوفياتي في مصر الذي انتهى بطرد أكثر من عشرة آلاف خبير عسكري في عام 1972، وعلى إثر هذه الخطوات بدأ الشاه بتقديم حوافز اقتصادية لمصر، لتعزيز العلاقات، إذ كانت إيران في وقتها قوةً اقتصادية عظمى في المنطقة، بعد تسديدها كافة ديونها، وأصبحت دولةً دائنة، ليصل حجم المساعدات المالية المقدمة لمصر في عام 1974، إلى 850 مليون دولار".
ويقول أبو النور، لرصيف22، إن "الإعجاب بين الشاه والسادات كان متبادلاً، فالنهج القومي للرئيسين لإعادة الأمجاد التاريخية لكل دولة، وكذلك طريقة فهمهما للإستراتيجيات الدولية، كانت شبه متطابقة".
ويشير إلى أن هذه العلاقة تكللت بزيارات مزدوجة على أعلى مستوى، إذ ذهب السادات إلى إيران، وكذلك زار الشاه مصر، وحضر أكثر من مرة عروضاً عسكرية لطلبة الكلية الحربية المصرية، وأعياد حرب تشرين الأول/ أكتوبر.
ويضيف أن "ابن الشاه، ولي العهد رضا بهلوي، حضر حفل إعادة افتتاح قناة السويس عام 1975، نيابةً عن والده، وكان من أبناء الزعماء القلائل الذين حضروا الحفل، وكانت مصر تريد شكر الشاه لأنه ساعدها بالمعدّات الثقيلة، لتطهير المجرى الملاحي، وتُعدّ تلك الحادثة من أهم محطات التقارب المصري الإيراني الرفيع المستوى".
تبادل مسؤولو البلدين نحو 90 زيارةً رسميةً معلنة، تضمنت 41 زيارةً إيرانية لمصر، و49 زيارةً مصرية باتجاه إيران، منها خمس زيارات رسمية قام بها الرئيس السادات.
"كان السادات أحد ضبّاط الشرف الذين استقبلوا الشاه الإيراني في قصر عابدين الملكي في القاهرة، عام 1938، حين أتى خاطباً شقيقة الملك، الأميرة فوزية"
ويشير محمد أبو النور، إلى أن هناك عاملاً لا يُذكر في العلاقات المصرية الإيرانية، وهو دور الإمبراطورة فرح ديبا، وجيهان السادات، اللتين كانتا صديقتين مقرّبتين، ولهما ثقافة أوروبية مشتركة، نظراً لإجادتهما اللغتين الإنكليزية والفرنسية، واهتماماتهما المشتركة في الأعمال الخيرية، وكانتا على تواصل هاتفي دائم بدأ منذ السبعينيات من القرن الماضي، واستمر حتى وفاة جيهان السادات، و"لعبتا دوراً قوياً في توطيد العلاقات بين مصر وإيران".
الشاه في حرب أكتوبر
عندما وقعت حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، بين مصر وإسرائيل، وجدت إيران نفسها بين بلدين تربطها بهما علاقات جيدة. يقول أبو النور: "ذكر السادات في مذكراته أن الشاه حوّل إلى مصر ناقلة نفط واحدة، لم يتفق عليها الطرفان، كانت متوجهةً نحو أوروبا، ثم اتصل الشاه وأخبرهم بأن مصر في حاجة إلى نفط، ووجه تعليماته إلى الناقلة وهي في عرض البحر، للرجوع إلى جنوب البحر المتوسط، والرسو أمام السواحل المصرية، وهي حاملة النفط الإيرانية الوحيدة التي رست في مصر حينها، وحصل على ثمنها في ما بعد".
ويضيف أن "السادات ذكر هذا الموقف في مذكراته ‘البحث عن الذات’ التي كتبها عام 1977، حين كان الشاه في ذروة مجده وقوّته، ويبدو أن السادات ذكر هذا الموقف ليقدّم مسوغات سياسية لجرّ الشاه أكثر فأكثر نحو المواقف المصرية، لا سيما أن مصر في تلك المرحلة كانت تتجهز لتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل".
ويتحدث أبو النور عن دور الشاه في التقارب بين مصر وأمريكا، إذ كانت العلاقات المصرية الأمريكية مقطوعةً، وكان وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسنجر، عندما يريد إرسال رسالة إلى مصر، يرسلها إلى السادات عن طريق السفير البريطاني في القاهرة. وبرأيه، "أراد السادات أن يذكر هذه المعلومة في هذا الظرف، وفي هذا السياق التاريخي، حتى يحصل على مزيدٍ من الدعم السياسي من الشاه، لتحسين الظروف التفاوضية المصرية في كامب ديفيد".
في حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، واصل الشاه إمداد إسرائيل بالنفط طوال فترة الحرب، كما قامت إيران بتزويد الجيش الإسرائيلي بالأسلحة، بما في ذلك مدافع المورتر التي كانت إسرائيل في أمسّ الحاجة إليها، وهو بذلك عمل على موازنة الأمور بما يحفظ عدم تحقيق النصر الحاسم لأي طرف، لأنه لو كان هناك نصر إسرائيلي حاسم، فسيؤدي إلى سقوط نظام السادات، وتالياً عودة مصر إلى المعسكر العربي الراديكالي الموالي للسوفيات، حسب ما يقول بارزي في كتابه.
علاقة براغماتية
كانت دوافع الشاه والسادات في هذه العلاقة براغماتيةً سياسية. كان الرئيس المصري يرغب في أن يكون له حليف إقليمي إستراتيجي قوي، خاصةً وأن إيران كانت أكبر دولة نفطية، ويريد أن يحصل على مكاسب اقتصادية منها.
وتكللت تلك الفترة بمشاريع اقتصادية كبيرة، مثل تطوير موانئ دمياط وبورسعيد، وتأسيس البنك المصري الإيراني الذي تأسس بأموال إيرانية ومصرية، وما زال موجوداً حتى هذه اللحظة.
"الصداقة التي جمعت فرح ديبا وجيهان السادات شكّلت عاملاً نادراً ما يُذكر في تحسين العلاقة بين إيران ومصر، إذ ‘لعبتا دوراً قوياً في توطيد العلاقات بين البلدين’"
وكان الشاه الذي يواجه معارضةً داخلية يتزعمها رجال الدين، وعلى رأسهم الخميني، يريد تجنّب ما فعله عبد الناصر من دعم للحركة الداخلية المناهضة له، ليحيّد أرض الأزهر عن دعم رجال دين يشكلون تحدّياً لنظامه.
وعند تولّي السادات السلطة، كان هناك وجود للمعارضة الإيرانية داخل مصر. على سبيل المثال كان في حي الزمالك في القاهرة، عدد من الإذاعات الموجّهة إلى الداخل الإيراني، تبث باللغة الفارسية، ويديرها عناصر من المعارضة الايرانية. وبعد تحسن العلاقات المصرية الإيرانية، أمر السادات بإغلاق هذه الإذاعات.
الثورة الإسلامية... مرحلة جديدة
قيام الثورة الإسلامية في إيران، عام 1979، أفضى إلى محطة جديدة ومختلفة كلياً في العلاقات المصرية الإيرانية، فقد خرج الشاه من بلده، وقدّم طلب لجوء إلى العديد من الدول، لكن غالبيتها رفضت استقباله، فعاش أيامه الأخيرة متنقلاً بين المغرب، وبنما، والمكسيك، وجزر باهاما، والولايات المتحدة الأمريكية، قبل أن يحصل على حق اللجوء في مصر في آذار/ مارس 1980، لتكون القاهرة ملاذه، ومثواه الأخير، بعد إصابته بمرض السرطان.
أثار استقبال مصر للشاه حفيظة مؤسس الجمهورية الإسلامية آية الله الخميني، الذي كان أيضاً من منتقدي اتفاق كامب ديفيد بشدة. وهذا ما دفع إيران لاحقاً إلى إطلاق اسم خالد الإسلامبولي الذي اغتال السادات، على أحد الشوارع في طهران، وإلى إنتاج فيلم "إعدام فرعون" الذي يتضمن مشاهد قتل السادات، ومحاكمة المتهمين.
هذه التوترات أدّت إلى قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وساهم في اتخاذ هذا القرار طلب مباشر من الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، عقاباً لمصر على توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل.
محاولات عدة جرت لإعادة إحياء العلاقات بين البلدين، وانخفض تدريجياً منسوب التوتر، والتقى الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك بالرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي، على هامش اجتماع قمة مجتمع المعلومات في جنيف 2003.
وبعد الثورة المصرية، ووصول محمد مرسي إلى الحكم، رحّبت طهران بالمتغيرات، وعلّقت صور مرسي في شوارع طهران، وزار الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد القاهرة، في أول زيارة لرئيس إيراني إلى مصر، بعد الشاه الإيراني، والقطيعة بين البلدين.
لاحقاً، مع وصول الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى الرئاسة، بدت إيران أكثر حذراً تجاه مصر المتقاربة مع السعودية. وحسب المدير العام للشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الإيرانية، مير مسعود حسينيان، حل المشكلات بين طهران والرياض قد يكون له تأثير على تحسين العلاقات بين مصر وإيران.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...