شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
التواصل الإلكتروني عطّل مشاعري في الغربة

التواصل الإلكتروني عطّل مشاعري في الغربة

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 23 نوفمبر 202102:13 م

منذ انتقالي للعيش في ألمانيا، قبل نحو خمسة أعوام، تتردد هذه العبارة على مسامعي بشكل متكرر، وبثقةٍ من قائليها لا مجال للتشكيك فيها: "من زمان كانت الغربة أصعب، قولي الحمد لله في إنترنت، وفيديو كول".

هل لا زلنا متّصلين بالواقع؟ إذا أجبنا بـ"كلا"، فهل نملك الخيار للخروج من العالم الوهمي؟ 

لم أكن أهتم سابقاً لإثبات عدم صحة أقوالهم، أو اختبار تجربة الغربة من دون التواصل المستمر عبر المواقع الإلكترونية. أما عن سبب رغبتي بدحض هذه العبارة، بعد مضي هذه الأعوام في الغربة، وظهور سيناريوهات جديدة محتملة لتطوير طرق التواصل الإلكتروني، فهو كالتالي: مع مرور الوقت، بدأ شعور بالارتباك يتملّكني في أثناء حديثي مع الأصدقاء البعيدين جغرافياً، وفقدت القدرة على التعبير عن شوقي وحاجتي إليهم، وكأن سراب وجودهم يضايقني أكثر من غيابهم، وقدرتي على الاتصال بهم هاتفياً، والتعاطف معهم كتابياً، بدت وهماً لا يُشبع حاجاتي الاجتماعية، لا بل يعيق ويقيّد توصيف مشاعري تجاههم، على الرغم من رغبتي الصادقة في الحفاظ على صداقاتي القديمة، ونشأت فجوة عاطفية عميقة بيننا في السنوات الأولى، أضاف إليها اختلاف الظروف والأولويات بين الداخل والخارج السوري، عمقاً لم يعد من السهل تجاهله.

كيف أثّر التواصل الإلكتروني على علاقاتي؟

تختلف إجابتي على هذا السؤال باختلاف المعيار المستخدم لقياس الصداقة، إذ لا يمثل بالنسبة إلي عدد الرسائل المتبادلة معياراً حقيقياً يمكن اتخاذه لتقييم المشاعر، فصديقي الذي أتواصل معه بشكل شبه يومي عبر رسائل الواتساب، والذي على دراية بخطواتي اليومية الروتينية، لن يكون خياري الأول حين أُصاب بالخيبات، أو أحقق النجاحات، إذ سأحدثه عنها لاحقاً بقليلٍ من العاطفة، وكثيرٍ من الرتابة، لأني فقدت إحساسي بحقيقة العواطف بيننا، وشوّه التواصل الإلكتروني صورة هذا الصديق القديم المقرّب بشكل غير ملموس، بأسلوب يعجز عقلي البشري اللا إلكتروني عن تحديده.

مع مرور الوقت، بدأ شعور بالارتباك يتملّكني في أثناء حديثي مع الأصدقاء البعيدين جغرافياً، وفقدت القدرة على التعبير عن شوقي وحاجتي إليهم، وكأن سراب وجودهم يضايقني أكثر من غيابهم، وقدرتي على الاتصال بهم هاتفياً، والتعاطف معهم كتابياً، بدت وهماً لا يُشبع حاجاتي الاجتماعية

في حديث سابق مع إحدى صديقاتي، أخبرتني بأنها تعجز عن الحكم على تصرفات الأصدقاء في مواقع التواصل، مثل استمرارهم في نشر تفاصيلهم اليومية على الستوري، وفتح حساباتهم للعامة، وإخفاء ظهورهم الأخير على الواتساب... إلخ. فمع تسارع التحديثات على البرامج كافة، وظهور تطبيقات جديدة تتشابه بالشكل والمضمون، لم يعد من الممكن أن تشملها المفاهيم الأخلاقية والاجتماعية البطيئة التغيير، على عكس الأفعال الواقعية السهلة التصنيف بين خير وشرّ، وصح وخطأ، فالأفعال الواقعية التي توضح نوعاً ما الجوانب الخفية من شخصية الإنسان، أو المعاني المبهمة في كلماته، من خلال نبرة صوته، وردود أفعاله، أو حتى لغة جسده، غير موجودة.

تدعنا الرسائل النصية المرسَلة باستخدام الكلمات، دوناً عن جميع عناصر التواصل الأخرى، نطلق العنان لخيالنا بتوقع حقيقة مشاعر الطرف الآخر، ونواياه، ولن يكون من السهل تقدير حقيقة الوجوه القابعة خلف الشاشات، إذا استمرت العلاقات على هذه الشاكلة فحسب. ومع دوام هذا الحال لأشهر أو سنوات، تصيب الذاكرة حالة من الضلال، بين ذكريات علاقاتنا مع الأفراد بتفاعلهم المباشر والعفوي، وبرود محادثتنا الحالية، فتصطبغ العلاقات إلى الأبد بالضبابية، وتُعلّق في منطقة وسطى بين الراحة والنفور.

أعتذر لأصدقائي وصديقاتي

بعد أن باءت بعض محاولاتي بالفشل، إذ اعتزلت العلاقات عن بُعد، وكففت عن الانتظار، ربما لكوني فتاةً انطوائيةً غير معتادةٍ على التعبير عن المشاعر بالكلمات، مما زاد الطين بلَّةً، فأصبحت أفضل متابعة أخبار الأصدقاء وتطوراتهم بصمت، لكن بعاطفة متّقدة وصادقة، وأصبحت أفضّل التواصل المتقطع، في المناسبات أو في اللحظات المثيرة لإحدى الذكريات المشتركة، ويمنحني هذا النوع من التواصل الجرأة على إبقاء الأشخاص في مكانتهم السابقة، على الرغم من الانقطاع. احتجت إلى أربعة أعوام لتقبّل هذه الحقيقة، حين بدأت أتمهل في الرد على بعض الرسائل، إذ انتابني شعور بالذنب والخيانة لم يزُل سوى بإعراب أصدقائي بطرق غير مباشرة عن تفهّمهم.

تدعنا الرسائل النصية المرسَلة باستخدام الكلمات، دوناً عن جميع عناصر التواصل الأخرى، نطلق العنان لخيالنا بتوقع حقيقة مشاعر الطرف الآخر، ونواياه، ولن يكون من السهل تقدير حقيقة الوجوه القابعة خلف الشاشات، إذا استمرت العلاقات على هذه الشاكلة فحسب

يخيّل إليّ أن علاقتي بهم تشبه ما كان يحدث في زمن الرسائل البريدية؛ تنقصنا تلك الأوراق الصفراء المعتّقة، والقدرة على وصف التغييرات من منظورنا الشخصي، مستغنين عن آلات التصوير الحديثة. وللإجابة على التساؤل السالف، أميل إلى القول إن مواقع التواصل أثّرت سلباً على علاقاتي ونفسيتي في الغربة، بما في ذلك زيادة شعوري بالوحدة، على الرغم من اعترافي بما قدّمته لي من دعمٍ فور وصولي غريبةً إلى أوروبا، إلّا أنّ أثرها السلبي ظهر جليّاً في المدى البعيد، وربما مدّت الشبكات الإلكترونية من عمر العلاقات، لكنها جعلتها أقل جودةً، وأكثر تعقيداً على العقل البشري.
على ما يبدو، لن تتوقف مواقع التواصل الاجتماعي عند هذا الحد من التهام العلاقات الإنسانية والتفاصيل اليومية، ونكاد نجزم بأن المستقبل الإلكتروني سيجلب المزيد من حالات الاكتئاب إلى كوكبنا، فقد يُوحى لنا أن هذا التطور يعمل لخدمتنا، لكنه بشكل أو بآخر، هو مجرد منتَج تجاري يستهدف الأرقام الحسابية، لا تحقيق الخدمات الإنسانية. وإذا أردنا استغلال منتجات التطوّر بصورةٍ مثلى، لا بدّ لنا من تطوير مفاهيمنا الاجتماعية، والتدخل في جيناتنا الوراثية بما يناسب واقعنا الحالي، لأن أدمغة أجدادنا الصيادين والمزارعين التي لا تزال تعمل على الآليات القديمة، لا تتناسب مع هذا الكم الهائل من تدفّق التكنولوجيا، ولا بد من التساؤل مجدداً كلما قبضت أيدينا على الهواتف، وانغمست حواسنا بما تظهره الشاشات: هل لا زلنا متّصلين بالواقع؟ إذا أجبنا بـ"كلا"، فهل نملك الخيار للخروج من العالم الوهمي؟ أم أنه أصبح شرطاً أساسياً لكوننا جزءاً من المجتمع المتمدّن؟ هذا ما يثير مخاوفي تجاه المستقبل، إذ لم تعد هناك حدود لما تتمكن الرقميات من إنجازه، أو لنقل تدميره أيضاً.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image