أن نرحل إلى مدينة، ليس معناه فقط أن نتنقل من موضع إلى موضع، مسافرين في المكان، فثمة مدن يمكن تسميتها قصائد، وهناك رحلات شفيفة هي بمثابة مغامرات شعرية، وسياحات روحانية، وإبحار في الكلمات والخيالات والصور الجمالية، وغوص وراء الجوهري من المقاصد والمعاني والدلالات والإشارات.
للأمكنة شعريتها الخاصة، التي تتفجر من احتضانها للقصائد حدّ التماهي معها، فيصير المكان قصيدة، والقصيدة مكاناً. هذه الأمكنة، هي خرائط الشعراء المحببة بطبيعة الحال، وجغرافيا قلوبهم، وتاريخ خلاياهم الحيوية النابضة، ومرايا وجودهم.
في المدن العاشقة للقصائد، تتلاشى الحدود، وتذوب الفواصل، بين الأنفاس الشعرية ونسمات الهواء الطلق، وبين الشعراء والجمهور، فحفلات الشعر النهارية والمسائية تنعقد في ساحات وشوارع وميادين وحدائق وشواطئ مفتوحة عادة، وليست في قاعات ضيقة مغلقة، والحضور كثيف، يصل أحياناً إلى آلاف المهتمين بالشعر.
النصوص التي يجري تقديمها هي بدورها تفاعلية، تجمع الشاعر/ة والمتلقي/ة تحت مظلة تشاركية، فالقصيدة كشكل مكتوب مقروء هي عنصر واحد في النص المركّب، الذي يشتمل كذلك في أحوال كثيرة على الحركة الجسدية، والتعبير الأدائي، والإيماءات والرموز والصرخات، وغيرها من وسائل توصيل "الحالة الفنية" إلى الجمهور، مع قدر من الارتجال وفق طبيعة المسرح ومدى استجابة الحضور، ما يسمح بالمزيد من التفاعلية واشتغال الشاعر على ردود فعل الجمهور في لحظة الاندماج التي يخوضها الطرفان في آنٍ واحد.
الكثير من المدن والأمكنة في قارات العالم المختلفة انحازت، وتنحاز، إلى هذه الأفكار والتوجهات، فصارت مدناً وأمكنة شاعرة، بما ينعقد فيها من مهرجانات وكرنفالات وفعاليات تُتَوّج فيها القصيدة عروساً مكللة بقبلات عشّاقها، وزهورهم اليانعة.
في المدن العاشقة للقصائد، تتلاشى الحدود، وتذوب الفواصل بين الشعراء والجمهور، فحفلات الشعر النهارية والمسائية تنعقد في ساحات وشوارع وميادين وحدائق وشواطئ مفتوحة عادة، وليست في قاعات ضيقة مغلقة
وقد أفرزت هذه المناسبات الدولية الخصيبة، بحضور شعراء من سائر بقاع الأرض، تطورات لافتة في منجز الإبداع الشعري، العربي والعالمي، من أبرز شواهده ذلك التزاوج بين الشعر المكتوب والفنون الأدائية والحركية، بكل ما فيها من موسيقية ومسرحة وسينمائية وتمثلات تشكيلية وبصرية، كما تبلورت القصائد المشهدية، وقصائد الصورة، والقصائد الصوتية، وغيرها.
في مثل هذه التجارب الشعرية الأدائية، في باحات المدن الشاعرة، تنسجم جماليات القصيدة الطازجة مع طبيعة المكان، البكر أو الشعبي أو الأثري بحسب ملامح خصوصيته، لاسيما حين يتزامن عقد هذه الملتقيات الإنسانية الرفيعة مع احتفاليات يوم الشعر العالمي في بداية الربيع، فصل التفتح، فتقود تشكلات القصيدة المبتكرة والطليعية إلى اختبار قدرتها على أن تتمكن من تغيير العالم، أو بناء آخر أكثر براءة، وأقلّ قسوة.
وهنا، يصير للقصيدة الحركية بطقوسها وأبجدياتها التثويرية المغايرة إسهام بارز في تغذية هذه النزعات التجريبية الهادفة إلى خلخلة الثوابت، مجتمعيّاً وإبداعيّاً، والتمرد على الأنساق السائدة، وكسر الرتابة، وإهدار المقاييس والمعايير الثابتة والمواصفات والقوالب الجاهزة، وهذا هو المنوط بالآداب والفنون الحديثة في عمومها، أن تتحرر من نخوبيتها وأحاديتها المستقاة من مركزية اللغة البيانية الموروثة، لتكون بوابة عريضة للدهشة والعفوية والمباغتة والإتيان بغير المتوقع، وتتسع لصياغة حياة جديدة، عصرية، منفلتة، خارج الإطار.
والشعر، وفق هذه التوليفة، مزيج مما يمكن تسميته تجهيزات أولية للنص بسياقاته ونثاراته اللغوية الكتابية، وما يجري إضفاؤه عليه عند العرض من الأدوات والمفردات المصاحبة، وهي مجموعة الفنون الأدائية من رقص وتعبير جسدي وإشارات ورموز وموسيقى وأغنيات وإيقاعات وغيرها. ولربما تحتمل الحالة الحركية أيضاً مونودراما مسرحية متكاملة، وثيمات كاريكاتيرية، وصيغاً ساخرة، تحتفي بالتندر والهزل والكوميديا والمفارقات والمبالغات الفاضحة لسوءات الواقع الكابوسي الراهن.
ولقد جسّدت المدن الشاعرة، ولا تزال تجسّد، هذه الانزياحات الشعرية الفارقة خلال السنوات الأخيرة، سواء على مستوى طبيعة النصوص الشعرية، وخصائصها، وأساليب تقديمها، والأمكنة التي يجري عرضها فيها، وكذلك نوعية الجمهور، وآليات التلقّي.
في مدن أوروبية، مثل "لوديف" و"سيت" في فرنسا، و"طليطلة" في إسبانيا، تبدو الطبيعة مسرحاً تلقائيّاً مفتوحاً للقصائد الجديدة المنثالة بطلاقة في شتى الأرجاء. ويبدو كل شيء غير تقليدي، ومن ثم فإن الحضور العريض بإمكانهم أن يستمعوا للقصائد ويشاهدوا العروض المصاحبة لها وهم جالسون على ضفاف الأنهار والجداول المائية، وعند الجسور والشواطئ، متحللين من ملابسهم الكلاسيكية، أقدامهم منغمسة تماماً في الماء، ومن خلفهم الأشجار والأعشاب والمراعي والجبال والتلال الخضراء، تشاركهم الاستمتاع بالشعر غير النمطي، في أجواء خلابة.
تستقبل المدن الشاعرة صنّاع القصيدة ومتلقيّها الممسوسين بالسحر والجمال، كما في مدينة جرش بالأردن، التي يشهد مهرجانها السنوي تجليات شعرية تزيد المكان أسطورية، ومدينتي "آسفي" الساحلية و"كلميم" الصحراوية بالمغرب
لا تحتاج الرسائل التي يتوخّاها الفن الشعري في عنايته بتعزيز التواصل الحضاري بين الشعوب والأمم إلى البذخ والصعوبة والتقعر، فبالفطرية والبساطة والروح الإنسانية والمشاركة والتفاعلية الخلاقة يمكن الوصول إلى المتلقي والتأثير الإيجابي فيه، وهذا ما تتبناه هذه المدن والأمكنة الشاعرة، التي يفترش فيها آلاف البشر العشب والصخور، وربما القوارب وشباك الصيد، ويمكثون في الدروب والشواطئ والحدائق والمحلات والمقاهي، لينهلوا من معين القصيدة، في أي وقت، وفي كل وقت، حتى وهم منخرطون في أشغالهم أحياناً، مثل الباعة والحرفيين وصيادي السمك وغيرهم.
وفي حين تأثرت بعض هذه المهرجانات الشعرية بالأزمات الاقتصادية وغياب الحدّ الأدنى من الدعم المادي المطلوب، ما شكّل عائقاً أمام نموّها واستمرارها، فإن كرنفالات أخرى لا تزال تحتضن الفكرة، وتدافع عن وجودها. وتعد ملتقيات الشعر الدولية في أمريكا الجنوبية، مثل مهرجان مديين في كولومبيا وغيره، من أبرز هذه الفعاليات التي تستقطب شعراء العالم وجمهور القصيدة على أوسع نطاق. وحتى تحت وطأة جائحة كورونا الراهنة، فقد انعقد المهرجان في ثوب إلكتروني على مدار أكثر من شهرين خلال العام الماضي. وتحظى مهرجانات الشعر في نيكاراغوا وكوستاريكا وغواتيمالا والإكوادور وكولومبيا والسلفادور والأرجنتين وغيرها بإقبال جماهيري استثنائي، وتفاعل كبير من عشّاق القصيدة بكل اللغات، ممن لا تمنعهم عقبة عن الالتفاف حول الشعر، حتى الأمطار الغزيرة المنهمرة فوق الرؤوس.
مهرجان طنطا للشعر يرفع لافتة "الشعر في الهواء الطلق"، في رحاب مسجد السيد البدوي والأمكنة العامة
كذلك، فإن الجليد لا يحول دون انصهار الناس والقصائد في بوتقة واحدة في بريدج ووتر بولاية فيرجينيا بالولايات المتحدة، حيث ذلك المهرجان الشعري السنوي الذي يحتفي بثيمات شعرية جديدة وتجارب متنوعة في القصائد الأدائية والحركية والغنائية والتمثيلية، كما أنه يفسح مجالاً واسعاً لطلاب الجامعة للإفصاح عن مواهبهم، والالتقاء بالشعراء المعروفين، ومشاركتهم حفلات الشعر الصباحية والمسائية. وهذا ما يسلكه أيضاً مهرجان طنطا الدولي للشعر في مصر، الذي يحافظ على دورية انعقاده سنويّاً لسبع دورات متتالية، آخرها منذ أيام قليلة في تشرين الثاني/نوفمبر الجاري، وهو مهرجان يرفع لافتة "الشعر في الهواء الطلق"، في رحاب مسجد السيد البدوي والأمكنة العامة، وجمهوره الحقيقي من العاديين والبسطاء وطلاب المدارس والجامعات ورواد الأندية ومراكز الشباب.
وفي أحضان الطبيعة البكر كذلك، والمزارات الأثرية والتاريخية والسياحية، تستقبل المدن الشاعرة صنّاع القصيدة ومتلقيّها الممسوسين بالسحر والجمال، كما في مدينة جرش بالأردن، التي يشهد مهرجانها السنوي تجليات شعرية تزيد المكان أسطورية، وكما في مدينتي "آسفي" الساحلية و"كلميم" الصحراوية بالمغرب، وفيهما تغادر القصائد الصالات الضيقة والصالونات المغلقة، لتحلّق عالياً مع النسمات البحرية والبرية، في المسارح المفتوحة والمناطق الشعبية والبدائية، معلنة أن الشعر هو الحياة، والحياة هي الشعر.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...