أنحاز إلى ما أهوى، ويفوتني الكثير من المعارف، وتغيب عني إنجازات. المجال التربوي مثلاً، ومن متخصصيه سبعة دكاترة مصريين أعدّوا حوالي 50 صفحة هي محتوى كتاب "بناء الشخصية الوطنية" للصف الأول الثانوي (2020ـ2021).
التربية الجمالية والارتقاء بالذوق العام مفاهيم تربوية لا يوليها البعض اهتماماً لائقاً. تفاصيل صغيرة إهمالها ينتهي باستئناس القبح والتلوث، واعتياد الشجار والصياح الهستيري في البيت والشارع. سلوك لا يتدنى إليه موسيقيّ أو رسام. وليس التربويون السبعة مسؤولين عن رداءة طباعة الكتاب، ووزارة التربية والتعليم لا تسأل "أهل الذكر" المتخصصين في تصميم الكتب، لتجنيب الطالب سذاجات غير جمالية، أبرزها احتفاظ صفحات الكتاب بجملة "مطابع دار التيسير".
لا شأن لي بمطابع دار التيسير. لم أسمع بها، ولا أعرف عنها ما يدعوني إلى السؤال عن صاحبها، ولكن شيطاني قرأها "دار التساهيل". ولو كان في وزارة التربية والتعليم "رجل رشيد" لرفض هذا المستوى الرديء من الطباعة، وما تسلّم النسخ، واستبدل بدار التيسير داراً تقدم مستوى جمالياً مقبولاً، بدلاً من كتاب يبدو مصوّراً ـ بماكينة تصوير بدائية ـ من كتاب مطبوع. وكان معتاداً أن تتولى المؤسسات الصحفية الرسمية طباعة كتب وزارة التعليم، فيكون زيت الحكومة في دقيق (طحين لدى أهل الشام) مؤسسات فقدت استقلالها بعد الردّة عن طموح ثورة 25 يناير. لننسَ دار التيسير، وما ومن وراءها، ولننظر في المحتوى.
تربية الجمالية والارتقاء بالذوق العام مفاهيم تربوية لا يوليها البعض اهتماماً لائقاً. تفاصيل صغيرة إهمالها ينتهي باستئناس القبح والتلوث، واعتياد الشجار والصياح الهستيري في البيت والشارع
أفتح غلاف الكتاب فأجد المقدمة في الصفحة الأولى، لا فراغ ولا بيانات تمهد الطالب نفسياً لقراءة الكتاب. تبدأ المقدمة هكذا: "يسعدنا بالتعاون مع وزارة الأوقاف أن نقدم لكم أبناءنا وبناتنا طلبة وطالبات الصف الأول الثانوي كتاب بناء الشخصية الوطنية... وجدير بالذكر أن هذا الكتاب هو معالجة تربوية للكتاب الصادر عن وزارة الأوقاف بعنوان بناء الشخصية الوطنية، الذي يضم مجموعة من الأبحاث قدمت في المؤتمر الدولي التاسع والعشرين الذي نظمه المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة في 13ـ14 جمادى الأولى 1440هـ الموافقين 19ـ20 يناير 2019 م... وقد قدم لهذه الأبحاث الأستاذ الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف... ".
فريق الإعداد التربوي المكوّن من ستة خبراء، بإشراف الأستاذة الدكتورة نوال شلبي، قام بمهمة المعالجة لكتاب أصدرته وزارة الأوقاف، فماذا فعل أربعة آخرون ذُكرت أسماؤهم تحت عنوان "التحرير والإخراج الفني"؟ الإخراج مدرسي بدائي منفّر، فما دور "التحرير" لأعمال فريق الخبراء مُعدّي الكتاب؟ لنترك التفاصيل الشكلية، ونصل إلى محتوى يُفترض أن يخاطب الطالب المصري، أيّاً كان دينه. شخصياً لا أصدّق وزير الأوقاف، ولست محايداً، وأرفض خرافة الحياد، فالحياد موت، وآمل أن أتحلى بموضوعية انتهجتها في مقالي "مختار جمعة وزير الأوقاف المصري... هل يُعيد الرصيف فيعصم المشاة من الموت؟"، وقد نشر في موقع رصيف22 في 28 أيلول/سبتمبر 2021، لمن أرادوا مراجعته.
يبدأ الكتاب بعنوان مبشّر "حبّ الأوطان فطرة إنسانية". أبحثُ عن الدلائل الإنسانية، في تجارب الأمم وكتبها المقدسة وجهود مفكّريها، فلا أجد شيئاً، باستثناء ما يوحي بأن الكتاب موجّه إلى الطالب/ة المسلم/ة. لولا العنوان لظننته "كتاب التربية الدينية الإسلامية".
يبدأ الفصل الأول هكذا: "حبّ الوطن والحفاظ عليه فطرة إنسانية أكدها الشرع الحنيف". الحنيفية هي دين أبي الأنبياء إبراهيم، ولكن الكتاب اختار منها الشرع الإسلامي وحده، للتدليل على قضية وطنية، واستشهد بآيات قرآنية وأحاديث نبوية ومأثورات لا مكان فيها لأقوال أحد القديسين، وتخلو من آية من العهد الجديد. وفي هذا السياق نجد من موجبات الانتماء إلى الوطن، الإحسان إلى جميع المواطنين والمعاهدين".
يُعيدني الاقتباس الأخير "الإحسان إلى جميع المواطنين والمعاهدين" إلى أزمنة غزوات سُمّيت "فتوحات" تتسق مع تجارب سابقة ولاحقة، حتى جرّم التطور الأخلاقي البشري هذا العدوان، وأبطل المصطلح.
خارج هذا الكتاب، وخارج كتب الفقه، لا وجود لهذا الخطاب المنتمي إلى ما قبل دولة القانون التي تتساوى فيها حقوق المواطنة. وهذا كتاب عن الشخصية الوطنية يتسلّح بخطاب سلفي يعيد مضغ نصائح تناسب مجتمع قريش في المرحلة المكيّة، ويسعى إلى إقناع الكفار بأن "العبودية للّه شرف لا يدانيه شرف"، "فالثقة باللّه والثقة بالنفس ضرورة لازمة لزوماً لا ينفصل عن الشخصية المؤمنة"، "الإيمان خصيصة مميزة للشخصية الإسلامية". ما علاقة الشخصية الوطنية بهذا الخطاب الدعوي؟
يبدأ الكتاب بعنوان مبشّر "حبّ الأوطان فطرة إنسانية". أبحثُ عن الدلائل الإنسانية في تجارب الأمم وكتبها المقدسة وجهود مفكّريها، فلا أجد شيئاً... لولا العنوان لظننته "كتاب التربية الدينية الإسلامية"
لعل ما سبق كان تمهيداً لخلط الدين بالسياسة، الثابت بالمتغير، النسبي بالمطلق، وإطلاق مصطلح جديد هو المواطنة الشرعية. كما يرد تحت عنوان "حفظ الوطن": "مشروعية الدولة الوطنية أمر غير قابل للجدل... فالمتدين الحقيقي مواطن صالح... وقد قرر الفقهاء أن العدو إذا دخل بلداً من بلاد المسلمين صار الجهادُ ودفعُ العدو فرضَ عين على أهل البلد، رجالهم ونسائهم، كبيرهم وصغيرهم، قويّهم وضعيفهم، مسلحهم وأعزلهم"... إلخ؛ آخر ثرثرة تزجّ بالأعزل وقوداً لمعركة لا يقوى فيها إلا على حمل العصا. إذا كان الدفاع عن الوطن ينتظر فتوى من الفقهاء، فكيف انتصرت دول لا تؤمن باللّه في علاه، وربما يجهل أهلها أن للكون إلهاً؟
التسويغ السياسي شغل السلفيين عن فضيلة الاجتهاد. يتجاهلون اجتهاد عمر بن الخطاب بإلغائه سهم "المؤلفة قلوبهم" من نصيب مستحقي الزكاة، اجتهاد شجاع مع وجود نص قرآني صريح. تبدأ الثورة الدينية بحق حين يعلن رجل دين، يتحلّى بشجاعة عمر، أن الاجتهاد فريضة ولو وجد نص، وأن فقه الواقع مقدم على فقه نقليّ بعضه ينتمي إلى ظروف مختلفة، وأنه لا يمكن الاحتجاج بوجود نص ديني على مكتسبات البشرية بعد إقرار مواثيق حقوق الإنسان. شرائع بشرية يستحيل معها فرض الجزية، والاستعباد، واقتسام أسرى الحرب. ولا يزال هذا الخطاب سارياً، ويعتبره بعض من رجال الدين بضاعة رائجة لها زبائن يشتهونها، ويتمنون أن يحصدوا غنائمها.
إقحام الدين في مسلّمات حسمتها البشرية يجعله وجهات نظر، كلٌ يحتجّ بشيخ يوجهه من القبر، وتنشغل فيها مواطنة مصرية بملك اليمين، ثم تفتي الدكتورة سعاد صالح أستاذة الفقه المقارن بجامعة الأزهر، في التلفزيون، بأن النساء أسيرات الحرب هنّ ملك اليمين "المشروع"، للجيش أو قائده، "لكي يذلّهم. يستمتع بهم كما يستمع بزوجاته... الآيات القرآنية ما زالت موجودة ليس للتفعيل ولكن للتنفيذ إذا حصلت شروط الإسلام في هؤلاء"، في حالة النصر على إسرائيل مثلاً. ولم تقل الفقيهة: ماذا نفعل لو انتصرت إسرائيل، ووقعت نساء المسلمين "سبايا"؟ ذهبتُ بعيداً عن كتاب الشخصية الوطنية. ولعل الأجدر، والأكثر دقة، أن يكون عنوانه "بناء الشخصية المسلمة".
تتجاور هذه المنمنمات فتنهض جدارية تجسّد ملامح "الشخصية الإسلامية"، كما جاء في الكتاب. الشخصية الإسلامية موضع اهتمام الخطاب السلفي الأهلي، في المساجد والمدارس، ويستهدف التمييز الشكلي في الملبس والهيئة والمفردات للمسلم عن غيره.
ربما يوجد فرق نوعي بين الشخصية المسلمة والشخصية الإسلامية، الأولى دالة على إيمان محلّه القلب، والثانية تنحو إلى الأيديولوجيا، وكلتاهما قد يستغربها الطلاب المسيحيون في منهج عام معنيّ بالوطن. مصر وطن صهر ديانات وأعراقاً وثقافات من حصاد الغزوات العسكرية والتفاعلات البشرية، وبقايا تلك الآثار وسمتها مصر بشخصيتها. ولو أتيح لواضعي المناهج الدراسية قدر من الخيال، لما اطمأنوا إلى كتاب وزارة الأوقاف، حتى يتأكد لهم وفاء العنوان بالمضمون.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
نُور السيبانِيّ -
منذ 21 ساعةالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ يوموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ يومرائع
مستخدم مجهول -
منذ 6 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت