بطريقةٍ سينمائية مرتبكة، عاود سيف الإسلام، النجل الثاني للعقيد الليبي الراحل معمر القذافي، الظهور على المسرح السياسي في بلاده المنكوبة عسكرياً وأمنياً، وهذه المرة من بوابة الانتخابات الرئاسية، بعدما قدّم أوراق ترشحه رسمياً قبل ساعات، في مقر مفوضية الانتخابات في مدينة سبها في جنوب البلاد.
ومع إحجام المرشحين المحتملين ذوي الثقل السياسي على الأرض عن تقديم أوراق ترشحهم حتى الآن، أصبح نجل القذافي ثاني مرشح رسمي للانتخابات الرئاسية التي سيُغلق باب التقدم إليها بحلول 22 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.
جلباب الأب
مرتدياً زياً يماثل ما اعتاد القذافي الأب ارتداءه، وبنظّارةٍ، وذقنٍ رمادية طويلة، وعمامةٍ بنّية اللون، نطق نجل القذافي بعد صمت إجباري التزمه على مدى السنوات العشر التي تلت الإطاحة بنظام أبيه في 2011، وقال "بارك الله بكم"، مردداً آيات قرآنية غير متصلة، ومن سورتين مختلفتين.
واكتفى نجل القذافي الذي يقترب عمره من الخمسين، بلحيةٍ رمادية، وارتدى ملابس تشبه ملابس والده في آخر خطاباته، بما في ذلك العباءة التقليدية، بترديد آيات قرآنية غير مترابطة: "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين، والله غالب على أمره، ولو كره الكافرون"، من دون أن يلقي أي كلمة، كما كان متوقعاً في ظهوره الأحدث في نوعه.
من داخل جلباب أبيه، قفز سيف الإسلام القذافي إلى المشهد الإعلامي المتحفّز لظهوره الذي طال انتظاره، لكنه كان يقوم هنا بدور معاكس لمسلسل تلفزيوني أبدع فيه الممثل الراحل الكبير نور الشريف، بعنوان "لن أعيش في جلباب أبي".
المراسم المقتضبة، مثّلت أول فرصة إعلامية حقيقية لنجل القذافي، للعودة أخيراً إلى الساحة السياسية، لكنه لم يحسن استغلالها، فلم يدلي بأي كلمة، ولم يبرّر ترشحه، ولم يشِر إلى أي تفاصيل على الإطلاق.
اكتفى القذافي بابتسامة باهتة، وعيون تحاول الإيحاء بالثقة، على الرغم من تردده الواضح، ليثير جدلاً لا حدود له، حول مستقبله السياسي، ناهيك عن مستقبل العملية الانتخابية برمّتها
لحظة توقيعه على أوراق ترشحه، بصحبة محاميه خالد الزائدي، الذي لطالما روّج لظهوره، وبعض مسؤولي مفوضية الانتخابات، بدا واضحاً تأثّره بقطع إصبع يده اليمنى إثر اعتقاله قبل سنوات، إذ ظهر وهو يمسك القلم بطريقة غير اعتيادية.
سياسة الغموض
مجدداً، اكتفى القذافي بابتسامة باهتة، وعيون تحاول الإيحاء بالثقة، على الرغم من تردده الواضح، ليثير جدلاً لا حدود له، حول مستقبله السياسي، ناهيك عن مستقبل العملية الانتخابية برمّتها، في ظل المخاوف الأمنية وهواجس تأجيل عملية الاقتراع.
القذافي الابن، لم يخاطب ناخبيه المحتملين، ولم يكلّف نفسه عناء تحضير كلمة تليق بالمناسبة، لكنه، وهذا الأهم، لم ينضج سياسياً بعد، إذ لا زالت التصرفات الصبيانية هي الغالبة عليه، كما روت تفاصيل المشهد.
اعتمد سيف الإسلام القذافي سياسة الغموض، كأنه يروّج لسلعةٍ أو بضاعة، ويريد تشويق زبائنها المأمولين، كما روى بنفسه لصحافي أمريكي التقاه مؤخراً.
سياسة الغموض تلك حجبت مقر إقامة القذافي الابن عن العيون، طوال السنوات الماضية، مع سرّية في التحرك، خشية الواشين والمتربّصين.
المشهد الفاشل يقول إن السنوات العشر الماضية لم تصقل سيف الإسلام، ولم تجعل منه رجل دولة، وإن محنة فقدان الأب، وتشرّد الأسرة، ورحيل الجاه والنفوذ والسطوة، لم تعركه على الإطلاق، ولم تدفعه إلى حسن اختيار معاونيه.
مغزى الجنوب
من مدينة سبها في الجنوب الليبي، ظهر سيف الإسلام القذافي في مقر مفوضية الانتخابات، أحد المقرات الثلاثة التي خُصّصت لتلقي قبول أوراق المرشحين الراغبين في خوض أول انتخابات رئاسية في تاريخ البلاد.
ولأنه لا يستطيع التوجه إلى العاصمة طرابلس في الغرب، أو إلى مدينة بنغازي في الشرق، حيث يقع المقرّان الآخران للمفوضية، فقد لجأ سيف إلى سبها حيث معقل النفوذ التقليدي لقبيلة القذاذفة.
دعوات التأجيل التي تطارد الانتخابات، ضاعفت من خطورتها قعقعة السلاح التي سُمعت في أكثر من مدينة ليبية في الساعات الماضية، رفضاً للانتخابات، ولوجود سيف الإسلام القذافي وحفتر فيها
اللافت هنا، أن سيف الاسلام مارس أول نشاط سياسي له من أرض تسيطر عليها قوات الجيش الوطني الموالية لخليفة حفتر، الغريم التاريخي للقذافي الأب، الذي سمح للقذافي الابن بالوجود في سبها، ومنحه إذن استجابة لطلب قدّمه قبل بضعة أسابيع.
تلك المفارقة دفعت الكثيرين إلى إطلاق تكهنات بوجود صفقة سرية ما بين الطرفين، دفعت أيضاً أنصار الثورة على القذافي إلى تبنّي شعار "لا لحفتر وللقذافي الابن في الانتخابات المقبلة".
الحديث هنا يستبق العملية الانتخابية، وينسفها من الأساس، فإذا كان هؤلاء لا يمكنهم قبول حفتر والقذافي الابن كمرشحَين للانتخابات، فكيف يفترض أن يتعاملوا معهما في حال فوزهما بها، أو متى أصبح أحدهما رئيساً للدولة.
لكن حفتر ليس المنافس الوحيد لسيف الإسلام القذافي، فهناك فتحي باش آغا، رجل إحداثيات حلف الناتو لإسقاط نظام القذافي الأب، ووزير الداخلية السابق، وأحد أبرز قادة الميلشيات المسلحة في مدينة مصراتة.
وهناك أيضاً رئيس حكومة الوحدة، عبد الحميد الدبيبة، الذي يخوض فعلياً حملةً انتخابيةً ممتدة زمنياً ومكانياً، منذ توليه مهام منصبه في شهر آذار/ مارس الماضي، على الرغم من تعهّده أمام ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف، بعدم الترشح لأي منصب أو موقع في الدولة.
المجلس الرئاسي برئاسة محمد المنفى، وحكومة الوحدة برئاسة عبد الحميد الدبيبة، عززا غداة مؤتمر باريس الدولي حول ليبيا، التكهنات باحتمال تأجيل الانتخابات الرئاسية، بعدما اشترطا تزامنها مع الانتخابات البرلمانية، وبشكل توافقي يحسم الخلافات بين مجلسي النواب والدولة حول قوانين الانتخابات، على الرغم من أن مفوضية الانتخابات وضعت جدولاً زمنياً حددت فيه مواعيد الاقتراع وفقاً لقانون مجلس النواب المثير للجدل.
ماراتون المفاوضات الذي أطلقته بعثة الأمم المتحدة في جنيف العام الماضي، وأفضى إلى سلطة انتقالية برأسين، الدبيبة والمنفى، لن يصل على الأرجح إلى محطته الأخيرة، بإجراء الانتخابات الرئاسية في موعدها المقرر قبل نهاية الشهر المقبل.
دعوات التأجيل التي تطارد الانتخابات، ضاعفت من خطورتها قعقعة السلاح التي سُمعت في أكثر من مدينة ليبية في الساعات الماضية، رفضاً للانتخابات، ولوجود سيف الإسلام القذافي وحفتر فيها.
تهديد ووعيد
صدر تهديد ووعيد من قادة الميليشيات المسلحة المحسوبة على السلطة الانتقالية، وتركيا، وجماعة الإخوان المسلمين، وجرى إغلاق مقرات انتخابية عدة، وسط صمت رسمي.
بعض أعضاء مجلس النواب لوّحوا بوجود تزوير في مستندات ترشّح سيف الإسلام، معلنين أنهم بصدد تقديم طعون فيها أمام المحكمة الدستورية العليا، والمجلس الأعلى للقضاء.
وكان واضحاً أن التخبّط والارتجال طالا المفوضية الوطنية العليا للانتخابات التي نشرت، ثم حذفت، ثم أعادت نشر بيان صحافي تزفّ فيه إلى الليبيين خبر أن القذافي الابن قدّم "أوراق الترشح لرئاسة الدولة، ومستندات ترشحّه إلى مكتب الإدارة الانتخابية في سبها، مستكملاً المسوّغات القانونية"، مشيرةً إلى تسلّمه بطاقته الانتخابية من المركز الانتخابي في المدينة.
إشكالية قانونية
يشكل الوضع القانوني لنجل القذافي المحكوم في ليبيا بالإعدام، والمطلوب من القضاء الدولي، إشكاليةً كبيرةً في الداخل والخارج، فالحكم الذي أصدرته إحدى محاكم العاصمة طرابلس ضده بالإعدام رمياً بالرصاص، عام 2015، لم يُنفّذ، وإعلان خروجه بعفو صحي يستند إلى قانون من مجلس النواب أصدرته الكتيبة التي كانت تتولى حراسته في محبسه في مدينة الزنتان الجبلية عام 2017.
المحكمة الجنائية الدولية أكّدت على لسان الناطق باسمها، فادي عبد الله، أن مذكرة التوقيف الصادرة بحق سيف الإسلام القذافي منذ عشر سنوات، لا تزال سارية المفعول حتى الآن، وأن وضعيته أمام المحكمة تظل من دون أدنى تغيير
آنذاك، لم يكن للسلطات القضائية، بما فيها وزارة العدل، أو المحكمة العليا، أي مسؤولية عما جرى، حتى أن العفو عنه لم يخضع للإجراءات المعتادة.
المحكمة الجنائية الدولية أكّدت على لسان الناطق باسمها، فادي عبد الله، أن مذكرة التوقيف الصادرة بحق سيف الإسلام القذافي منذ عشر سنوات، لا تزال سارية المفعول حتى الآن، وأن وضعيته أمام المحكمة تظل من دون أدنى تغيير.
ويضاعف من صعوبة الوضع الانتخابي لسيف الإسلام القذافي، إعلان مسؤولين أمريكيين أنهم لا يتصوّرونه في أي منصب رسمي في الدولة الليبية، في المرحلة المقبلة.
ومع استمرار الشد والجذب حول قوانين الانتخابات، وأمنها، فإن إجراءها قد يبدو ضرباً من ضروب الخيال العلمي، خاصةً وأن المحكمة الدستورية العليا تتهيأ على ما يبدو لقبول الطعون المقدمة إليها في هذا الخصوص.
في ظل الانقسام الراهن، تبقى الانتخابات حلماً، في بلد تطارده كوابيس الفوضى العارمة، على مختلف الأصعدة، على مدى عقد كامل.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
Apple User -
منذ 4 ساعاتHi
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أيامرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ 4 أياممقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمقال جيد جدا