تتبارى الفنانات خلال المهرجانات السينمائية في ارتداء أحدث تصميمات بيوت الأزياء، فوق السجادة الحمراء، مبرزات خياراتهن الأنيقة وسماتهن الجمالية، غير أن ممثلة تونسية شابة تمردت مساء السبت، 6 تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري، على النمط المألوف، وخطت فوق السجادة الحمراء لحفل ختام مهرجان قرطاج السينمائي لتخطف الأضواء وانتباه العدسات برداء حمل رسالة سياسية ونسوية، في وقت يحرص الفنانون العرب على التنصل من خلفياتهم السياسية أو مهاجمة الرسائل الفنية التي قد لا تأتي - وفق تصوراتهم- على هوى الأنظمة.
كتبت الفنانة الشابة أسمى بالعيد على معطفها أسماء نساء كن ضحايا "النزعة الذكورية" للسلطات والأنظمة العربية، وحاصرتهن مجتمعاتهن حتى الموت، أبرزهن: رحمة لحمر، رفقة الشارني، شيماء الصباغ، سارة حجازي، لبنى أحمد، وضحايا حادثة الكميونة.
البداية ثورة
مع اندلاع ثورة الياسمين في تونس، في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 شاركت أسمى بالعيد مثل الآلاف غيرها في الاحتجاجات التي أسفرت عن هروب الرئيس التونسي الراحل زين العابدين بن علي، وسقوط نظامه في 14 كانون الثاني/ يناير عام 2011، ولا تزال أسمى متمسكة إيمانها المستمر بأفكار الثورة التي كانت فاتحة الربيع العربي المهدور، كما تواصل إعلان انحيازها للحركة النسوية التونسية والتيارات السياسية اليسارية، وتضامنها المطلق مع القضية الفلسطينية.
إلا أن الثورة التونسية لم تكن مدخل أسمى للاحتجاج. تذكر الفنانة التونسية أن أول تظاهرة شاركت فيها حين كانت في الخامسة عشرة من عمرها، عندما تأثرت ككل الشباب العرب بمشهد مقتل الطفل محمد الدرة على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية في 30 أيلول/ سبتمبر عام 2000، وخرجت في تظاهرتها الأولى. تتذكر أسمى: "كنت غاضبة، وكان الجو ماطراً جداً والأجواء حماسية".
من بعدها لم تعد حياة بالعيد إلى الهدوء، فخرجت في تظاهرات متعددة لمساندة القضية الفلسطينية، ونشطت في حياتها الجامعية في الإضرابات التي نظمها الاتحاد العام لطلبة تونس، وكذلك في المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي في بئر الباي، وحصلت على الأستاذية هناك. ثم جاءت الثورة لتضعها على طريق جديد، تقول: "الثورة التونسية كانت حلمنا الذي لم نكف عن التفكير فيه، شاركت في جميع الإضرابات والمسيرات، ثم في [اعتصامي] القصبة 1 والقصبة 2".
تتبارى الفنانات خلال المهرجانات السينمائية في ارتداء أحدث تصميمات بيوت الأزياء فوق السجادة الحمراء، غير أن ممثلة تونسية تمردت على النمط المألوف، وخطفت الأضواء برداء حمل رسالة سياسية ونسوية
النشاط السياسي الذي حمل الهمّ العام لتونس لم يجعلها تغفل عن همّ عام آخر يحمل خصوصية وهو وضع المرأة التونسية والعربية، تقول بالعيد لرصيف22 إنها ترفض العنف ضد المرأة بكل صوره، وتصف نفسها بالناشطة النسوية التي تحمل قضايا كل النساء.
كذلك أبدت مراراً تضامنها مع الحملات الحقوقية المنددة بالتعذيب والقمع البوليسي بحجة الحفاظ على الأمن في تونس، وشاركت في حملات "هنا سجن أبو غريب.. موش تونس"، التي دشنها حزب العمال على خلفية حادثة الاعتداء التي تعرض لها شاب جهة سيدي حسين بالعاصمة، وأعلنت تأييدها لحملة "البوليس إرهاب طبقي"، التي أطلقها ناشطون اعتبروا أن البوليس في تونس يوجه قمعه ضد الفقراء، كما شاركت في حملة "اسمها رفقة الشارني"، تضامناً مع ضحية رفقة الشارني التي قتلها زوجها بالرصاص وللمطالبة بتطبيق القانون رقم 58، وهو قانون خاص صدر في العام 2017 بغرض مواجهة العنف ضد النساء.
في وقت يحرص الفنانون العرب على التنصل من خلفياتهم السياسية أو مهاجمة الرسائل الفنية التي قد لا تأتي - وفق تصوراتهم- على هوى الأنظمة، تأتي أسمى بالعيد لترسم خطاً متفرداً
الفن والاحتجاج
تعلقها بالمسرح وفنونه وجد طريقه إلى مشاركاتها السياسية والاحتجاجية، فالتحقت بمبادرة "المهرجون الملتزمون"، وهو شكل احتجاجي منتشر في أوروبا، ظهر في تونس على يد أسمى ورفاقها بغرض تصدر التظاهرات ولفت أنظار قوات القمع البوليسي بعيداً عن المتظاهرين السلميين. تشرح أسمى: "الفكرة هي أن تربك البوليس الذي لا يستطيع ضرب المهرج وتعنيفه، لأن في مخياله يحيله لفترة طفولته ويدفعه للضحك".
تلفت إلى أن اهتمامها بالسياسة أفادها على المستوى الشخصي والفني إذ زاد وعيها بأهمية القضايا التي تختارها في أعمالها. درست أسمى بالعيد المسرح في المعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي كمادة أساسية، ثم درست في مدرسة الفنان توفيق الجبالي، المعروفة بـ"التياترو"، وخلال دراستها في الجامعة شاركت في بعض المسرحيات في إطار الدراسة أو وقت الإضراب عن التشغيل، مع أستاذها توفيق الجبالي. وشاركت أيضاً في بطولة جماعية لمسرحيات عدة، منها: "عشق آباد" للمخرجة خولة الهادف و"كورونا مون آمور" للمخرج نوفل عزارة ومسرحية "راقصة" للمخرجة آمال عويني، كما مثّلت في أفلام للهواة، منها الفيلم القصير "مانموتش"، الذي لعبت فيه دور مسجونة أثناء الثورة، وأسلحة السلام les armes de paix، للمخرج حسيب الجريدي.
كل إنسان له الحق في الحياة
وفي 21 أيلول/ سبتمبر عام 2020، صدم الشارع التونسي بمقتل الشابة "رحمة لحمر"، التي تم العثور على جثتها بمجرى مياه موازية للطريق السريعة رقم 09 في إتجاه العاصمة، إثر محاولة سرقة بالإكراه تحوّلت إلى عملية اغتصاب، ومع محاولتها التصدّي له والدفاع عن نفسها والصراخ، قام بخنقها حتى توفيّت، ثم ألقاها في الماء، لتبقى فيه طيلة 4 أيام حتى تعفّنت جثتها.
تلك الحادثة البشعة أثارت غضباً كبيراً وتعاطفاً واسعاً مع الضحية. هزت الجريمة أسمى بالعيد لدرجة دفعتها لاحقاً لتوثيقها خلال فيلم سينمائي من بطولتها، غير أن الفنانة الشابة ترفض تطبيق عقوبة الإعدام بحق الجاني، ولا تعتقد أن تغليظ عقوبة جرائم الاغتصاب والعنف ضد المرأة سيحد منها "أنا ضد عقوبة الإعدام، كل إنسان له الحق في الحياة، يوجد عقوبات أخرى يمكن استعمالها. الاغتصاب جريمة، إذا أردنا الحد منها يجب تفكيك المشكلة من جذورها".
وترى "بالعيد" أن الحل الأمثل للحد من جرائم العنف ضد المرأة في تونس والوطن العربي هو الوعي، أو تطوير الوعي، بدءاً من التربية مثل: تفعيل برنامج التربية الجنسانية منذ سن مبكرة، وغرس أفكار المساواة عن طريق المواد التعليمية والتربوية والفن من سينما ومسرح ومسلسلات تلفزيونية، معتقدة أنه عند تحقيق ذلك "لا يمكن أن ينظر الرجل بدونية لضحيته، وعليه لن تكون هناك امرأة ضحية".
على السجادة الحمراء
شاركت بالعيد في فيلم جديد عنوانه "سقالة" للمخرج التونسي بلال بالي، وخطت على السجادة الحمراء لمهرجان قرطاج مرتدية رداءها الاحتجاجي لحضور العرض الخاص للفيلم. وتلعب فيه دور شابة تعمل فى حانة، وتواجه التنكيل على يد صاحب العمل، وتحرش الزملاء وتداعيات أيامها الصعبة.
تؤكد أسمي أن "سقالة" جاء تكريماً للضحية رحمة لحمر، وكل ضحايا التحرش والاغتصاب حول العالم، مقدمة شخصية فتاة ضحية للتحرش من زميلتها، والعنف اللفظي من مديرها، في يوم عمل عادي تصبح ضحية للاغتصاب الجنسي.
SKALA_TRAILER from Bilel BALI on Vimeo.
شارك فيلم "سقالة" ضمن مسابقة الأفلام القصيرة لمهرجان الجونة السينمائي بمصر في دورته الخامسة التي عُقدت من 14 إلى 22 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. غير أن بالعيد لم تتمكن من حضور المهرجان، لكنها شاركت في أيام قرطاج السينمائي بدعوة من مخرج الفيلم.
ولا تخفي الممثلة الشابة في حديثها لرصيف22 ترددها في المشاركة في حفل الختام، بسبب قناعاتها الرافضة لـ"البهرجة الزائفة والتسطيح"، موضحة أنها لا تتحدث عن مهرجان قرطاج بل عن فكرة السجاد الأحمر نفسها، إذ لا تحبذ التقاط الصور لها رغم كونها ممثلة مسرحية وسينمائية. تقول إنها بعد إصرار المخرج بلال بالي وإلحاح أصدقائها، قررت الحضور شريطة أن تحمل رسالة، فهي ترى أن كل من يمارس الفن يجب أن يحمل قضية، وأن يكون متصلاً بواقعه "بعيدًا عن الرداءة". مضيفة: "لن تكون هناك مناسبة أفضل من مهرجان قرطاج لتذكير الناس بأسماء ضحايا العنف المسلط على النساء"، ورسالتها للعالم هي: "أننا كنساء، متضامنات في كل مكان وزمان".
وتوضح بالعيد أنها طورت فكرة الرداء بمساعدة أصدقائها غيث نفاتي ورغدة فحولة وفيصل خماسي لتكون الضحايا المنتميات إلى تونس وإيران ومصر والسودان وشيلي "حاضرات معنا في وعينا وفننا".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 4 ساعاتلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ يومينالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 3 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري