أن تعتقد بوجود الله يختلف تماماً عن أن تتمنى وجوده، ألا تعتقد بما تخيّل بوذا من حياة قادمة، يتجسّد فيها كل إنسان على هيئة مخلوق آخر، لا يعني أنك لا تتمنى أن تُصبح طائراً يجوب السماء لأعوام، وينظر إلى عالمنا من زاوية مختلفة، وأن تؤمن بأن رحمة إلهك لن تسع فتاة مثلية ما، ليس له علاقة بأن تتمنى لها تلك الرحمة، وإن كانت مستحيلة من وجهة نظرك.
رحلت سارة حجازي، فتاة مصرية أرادت العيش بحرية دون أن يُفرض عليها رجل لا ترغب بمشاركته علاقة ما، وادّعى مهاجموها أنها لم تكن مؤمنة بالله أيضاً، وإن افترضنا صدق هذا الادعاء، فهي لم تفعل أكثر من ذلك، لكن وكالعادة، كلما توفي إنسان يعتقد البعض بأنه غير مُسلم سارع الكثيرون إلى توبيخ أصدقائه إن ترحموا عليه، وربما استكثروا حتى أن يملأ قلوبهم بعض الحزن وحسرة الفقدان، وكأنهم لن يتمنوا نفس الشيء إن هم فقدوا عزيزاً لهم، عاش حياته معتقداً بما ينكرونه.
التوبيخ دائماً له صيغة مكررة ولا تختلف، تحكي عن حرمانية الترحّم على غير المسلمين، حجة شرعية في قول الله: "ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين" كما يعتقدون، وحجة أخرى تسخر من دعاء الأحباب لأمواتهم برحمة مرجوة من خالق لم يؤمن به هؤلاء الأموات أصلاً، متناسين فيما نزلت هذه الآية، ومُنكرين لحق البعض في رجاء مصير أفضل لمفقوديهم، طالما هم أنفسهم يؤمنون بأن هناك حياة أخرى سنحاسب فيها.
بعض ردود الأفعال المتطرفة أعقاب وفاة سارة حجازي، فحملت من الكراهية والعداء والشرور ربما أضعاف ما يحمله الرب ذاته تجاهها، "التي كفرت به" كما يقول عنها خصومها، حتى أنني ظننت للحظات بأنه لو أراد الله أن يرحم كافر/ة به فسوف ينبري عدد من المسلمين رافضين لهذا السلوك الضعيف المتخاذل
سارة حجازي وعم النبي
الآية المذكورة لم يتلها النبي دون سبب، بل ذكر أنها قد نزلت عليه عندما قال لعمه أبي طالب، الكافر بالدين الجديد، على فراش الموت: "لأستغفرن لك ما لم أنْهَ عنك!"، أي أن النبي أراد الرحمة والمغفرة لعمه بالفعل، أرادها وتمناها، ولكن ما منع تلك المغفرة إلا وعد الله بحرمان المشركين من المغفرة هذه"، وهذا الفرق بين الشعور والاعتقاد، أما بعض ردود الأفعال المتطرفة أعقاب وفاة سارة حجازي، فحملت من الكراهية والعداء والشرور ربما أضعاف ما يحمله الرب ذاته تجاه سارة، "التي كفرت به" كما يقول عنها خصومها، حتى أنني ظننت للحظات بأنه لو أراد الله أن يرحم كافر/ة به فسوف ينبري عدد من المسلمين رافضين لهذا السلوك الضعيف المتخاذل، وكأنهم يقولون لإلههم: "إن سكت عن حقك فلن نسكت نحن".
في الحقيقة، لست هنا بصدد البدء بحملة للدعاء بالرحمة والمغفرة والمصير الحسن لسارة أو لعم النبي حتى، فشخصياً لا أعتقد بأن الأدعية لها مفعول سحري، سواء للمؤمنين بالله أو غيرهم، أو كما قال الساخر جوروج كارلين، في أداء له من قبل: "ما فائدة كونك إلهاً إذا كان باستطاعة أي أحمق يمتلك كتاباً للأدعية تغيير خطتك؟ ولنفترض أنك قمت بالدعاء من أجل شيء ولم يتحقق ماذا ستقول؟ ستقول إنها مشيئة الله أليس كذلك؟ حسناً، لم لا تتخطى مرحلة الدعاء وتتقبل مشيئته مباشرة؟"، وهكذا أظن أنا أيضاً.
لكن ما يعنيني هنا في المقام الأول، هو ما يشعر به هؤلاء الرافضون لتضرع غيرهم طلباً للرحمة من أجل إنسان غير مسلم، تلك المشاعر المؤذية والتي تجعلك تفكر ملياً حول مقدار الإنسانية التي تملأ قلوبهم، إن وجدت، لا أستطيع أن أراهم مجموعة تدافع فقط عن شرع الله، وإنما جمع من الجشعين، آثروا الحصول على غنائم الجنة لهم فقط، حتى وإن كانت غير محدودة، جماعتهم فقط هي التي من حقها الحصول على الراحة والرحمة والمغفرة والنعيم.
وكما قلت في البداية، أن تعتقد ذلك فهذا أمر عادي لا نجادلك فيه، لكن أن تتمنى ذلك فهذا يجعلنا نأخذ حذرنا منك، فهذه المشاعر تحديداً هي من تقود الكثيرين إلى حمل السلاح، وعدم الاكتفاء بتوبيخ المترحمين لموتاهم غير المسلمين، وإنما تقديم الأموات لهم أيضاً.
أتمنى أن يجد هؤلاء الكارهون لرحمة غيرهم، منبع التغيير الذي ربما يقودهم إلى حيث سبقتهم سارة، فوجدت، بقوة لا مثيل لها، القدرة على التسامح مع عالم قام بأذيتها بشتى الطرق، قرأت ورقة نُسبت إليها كرسالة وداع كتبت فيها: "إلى العالم، كنت قاسياً إلى حدٍّ عظيم ولكني أسامح"
في مصر الآن، الحديث عن يوم غير معلوم توقيته ولكن متوقع ما سيحدث فيه، عندما سيتركنا المحبوب مجدي يعقوب، طبيب القلوب ومالكها، فكما سنرحل جميعاً عن هذه الدنيا فسوف يرحل الطبيب أيضاً، وحينها ستنطلق مباراة أخرى بين الدعاء له بالرحمة أو السخرية من هذا الدعاء، وتمني أن يلقى هذا الطبيب المسيحي الذي قضى عمره في خدمة أبناء بلده بكل طبقاتهم وأديانهم وأعمارهم، يحافظ على حياتهم قدر ما استطاع، العذاب في نار جهنم، ولكن سأقول بأن في هذا اليوم أو بعده، سيجد يعقوب وأمثاله ملايين الدعوات تخرج وتعلو رغم كل شيء، رغم كل ابتزاز أو هجوم، وهذا ليس مجرد تمنٍّ فقط بل اعتقاد منطقي، إن أردتَ التأكد من منطقيته، فقط قارن أعداد المعزين الكثيرة برحيل سارة حجازي، وأعداد من خالف منذ 28 عاماً الجماعة المصرية سراً، وتمنى الرحمة والمغفرة للمفكر المصري فرج فودة، الذي اتهم بالكفر فتم اغتياله، مثلاً.
أخيراً، أتمنى أن يجد هؤلاء الكارهون لرحمة غيرهم، منبع التغيير الذي ربما يقودهم إلى حيث سبقتهم سارة، فوجدت، بقوة لا مثيل لها، القدرة على التسامح مع عالم قام بأذيتها بشتى الطرق، قرأت ورقة نُسبت إليها كرسالة وداع كتبت فيها: "إلى العالم، كنت قاسياً إلى حدٍّ عظيم ولكني أسامح".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ 19 ساعةلم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري