اعتدنا سماع عبارات ملأى بمعاني الحنين واللهفة للأوطان ممن هاجروا تاركينها خلفهم، أو ممن نفتهم الأوطان رغماً عنهم، كانت غالبية العبارات تعني أن الوطن هو المكان الأكثر رأفة بنا والحضن الدافئ والحنون الذي يعوّضنا عن قسوة العالم، في كل مرة يسمع أحدنا نوعاً من أنواع الإطراء والتفخيم لحالة الحنين إلى الوطن، يصغي بهدوء وأدب، وإذا نوى المشاركة يتحفظ على جمل التذمر والضيق التي تتملكه تجاه الوطن احتراماً لمشاعر الزوّار.
إننا كنساء نبحث دائماً عن منطقة نمشي في شوارعها مرتديات الفساتين أو التنانير من دون أن تلوّث أذن إحدانا بعبارات التحرّش المقرفة، وبلا خوف من أن تمس أجسادنا ممن يخولون لأنفسهم ذلك ويمارسونه من دون رادع.
من الصعب في الأردن وجود مناطق تخدم من يجد عقبات اجتماعية وقانونية في التعبير عن رأيه ومعتقده وأفكاره وحرياته الشخصية كلها في البلاد التي تحمل طابعاً محافظاً اجتماعياً ويبرر تحفظها بأقوال وضوابط دينية.
في حيّ اللويبدة أيضاً شارع لا يعيب امرأة محجبة تمسك بيد رجل في الشارع أو أخرى كبيرة في السن تجلس مع صديقها، كل ما في الأمر أنه مكان يستوعب الإنسانية وتناقضاتها ويحترمها فعلاً.
أعرف اللويبدة منذ ثماني سنوات، وانتقلت للعيش فيها منذ ثلاثة أشهر، أذكر جيداً أول مرة جئت إليها برفقة مجموعة من الأصدقاء، كنت أراقب كل ما يحدث حولي؛ ضحك الناس على طاولات المقاهي وتدخين النساء في الشارع بعفوية وارتياح، وكيف يرتدين فساتينهن ويمشين بسرعة، كانت تثير استغرابي كثرة الخمارات والحانات نسبة إلى صغر المنطقة، ثم أعود إلى بيتي أفكر بما حدث وأخطط للزيارة المقبلة، كانت تسألني أمي في كل مرة أعود عن سبب حديثي الدائم عن زياراتي إلى اللويبدة، وكان يخيفها حماسي للمنطقة ولمجموعة الناس الذين أجلس معهم فيها، في ذلك الوقت كنت أتحسس المكان شيئا فشيئاً، أتدرب على إيقاعي الخاص فيه وأنظمّه ليتناسب مع إيقاع الآخرين، كأنني كنت بحاجة لاعترافهم بأنني أهل للمكان وأستحق استمتاعي بتجربتي فيه.
وجدت الانتقال للعيش هنا وممارسة الحياة الطبيعية التقليدية مختلفاً قليلاً عما ظننت، بعض المتع اللحظية سهلة جداً، كأن تشرب فنجان شاي في مقهى، أو أن تتمشى بمساحة لا تنافسك بها السيارات، وبعض الأشياء الأخرى الطبيعية والمتوافرة في كل مكان غير موجودة. بعد فترة من معيشتي هنا بت أتقبل فكرة عدم وجود محل صرافة مثلاً أو صعوبة ايجاد محل يبيع اللحم الجيد. أهل المنطقة يحاولون حفظ الوجوه الجديدة والتعرّف إليها. بعد أقل من شهر سألني بائع في محل: "هل أنت متزوجة أم لا؟"، وكان سؤاله بالنسبة لي عادياً ولا يشكل تدخلاً حقيقياً لأنه يعرف الكل في هذا الحيّ.
لا أعلم إذا كان صحياً أن يدافع كل منا عن منطقة ينتمي إليها لأنها تخفف هواجس الاغتراب في رأسه، في هذه المنطقة يصعب مثلاً أن تأتي مجموعة من الشباب بهدف التحرش بالنساء أو إثارة الشغب، إذ إنك بسرعة البرق تجد رجال المحالّ والشرطة يتدخلون ويبعدونهم، إنها تلفظ أجساماً كثيرة خارجها وتتقوقع على مجموعة صغيرة، بالنسبة لي أجد تصرفات كهذه مبررة وربما سأمارسها بعد فترة ليظل لنا بقعة عيش مريحة. ولدنا في أوطان موحشة تخاف من الحرية وتقصي الأحرار دائماً، لذا ربما علي أن أكون ممتنة جداً لأن هديتي في الأردن هي بيتي في اللويبدة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
أحمد لمحضر -
منذ يوملم يخرج المقال عن سرديات الفقه الموروث رغم أنه يناقش قاعدة تمييزية عنصرية ظالمة هي من صلب و جوهر...
نُور السيبانِيّ -
منذ 3 أيامالله!
عبد الغني المتوكل -
منذ 4 أياموالله لم أعد أفهم شيء في هذه الحياة
مستخدم مجهول -
منذ 4 أيامرائع
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري