شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ادعم/ ي الصحافة الحرّة!
شذرات من يوميّات شابّة لبنانيّة في عمّان

شذرات من يوميّات شابّة لبنانيّة في عمّان

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الجمعة 19 أكتوبر 201805:02 م

"يا هلا والله بأهل لبنان!"، هي الكلمات الأولى التي تفوّه بها الموظّف في مطار الملكة علياء الدوليّ لدى تسلمه جواز سفري. يبتسّم له صديقه، ينظران معًا إلى الوشم بين صدري ورقبتي. يطيلان التمعّن فيه، ألهي نفسي عن عيونهم الثاقبة، فيتنبّهان إلى توتري ليكسر أحدهما الصمت بسؤال يتيم مع إشارة العينين إلى المبتغى: شو مكتوب؟“، ”الحبّ للشجعان“، أجيبه، ويتابع: ”إييييه والله للشجعان!“. ويضحك كمن حقّق انتصارًا ولو صغيرًا في يوم مملٍّ آخر من ختم الجوازات. 

وأنا هنا، الصيد الثمين، مهما حاولت أن أندمج مع محيطي. يتعقّبوني، ينشرون من حولي كلّ الإيحاءات التي تقودني إلى العزلة.

تحتل عمّان أشباح العيون المراقبة لأيّ حدث مهما كان سخيفًا، لصوت عارٍ عن العادة، للونٍ صارخ عن جمود المكان، لابتسامة بارزة الأنياب تكسر ضجيج السيارات في وسط المدينة. وأنا هنا، الصيد الثمين، مهما حاولت أن أندمج مع محيطي. يتعقّبوني، ينشرون من حولي كلّ الإيحاءات التي تقودني إلى العزلة. وعزلتي أصبحت في عمّان مرافقة لرحلة موسيقى صاخبة في أذنيّ لا تنتهي قبل دخولي الى أمان البيت أو مقهى أعرفه. 

”تيابي مناح؟“

أتذكر ذاك المساء، كنت أرتدي تنورة سوداء شانيل وقميصًا رماديًّا. تواعدت مع صديقتي ديما للجلوس في مقهى "بيت بلدنا"، وقرّرنا بعدها التوجّه إلى "البلد" لشراء بعض الأفلام والمسلسلات. خلال مشوارنا، استوقفتني فكرة لم أقدر على ردعها، كمن أصيب برهاب فجأة وأدركه. سألت ديما: "تيابي مناح؟ مناسبين يعني؟"، وتابعت: "يمكن كان لازم ألبس شي تاني إذا بدي أنزل عالبلد!".

تلك كانت الصفعة الأولى التي ضربتني يومذاك، حين توقفت قبالة مرآتي وأنا لا أشبه نفسي بتاتًا. تحوّلت إلى كائن ملوّث. كلّ تلك المعارك الصغيرة التي انتزعت حقي فيها منذ أن بلغت الثامنة عشرة من عمري، سقطت. وقتذاك دقّيت الطبول على مأساتي، على بكاء يجتاحني في الليل لما أنساق إليه أو لما تجرّني هذه المدينة على القيام به بحجة واحدة متكرّرة: "إنت مش من هون، يعني بالآخر الواحد بدو يحترم عادات البلد! وبعدين إذا حدا بيقلّك كلمة غلط، مش مضطرة تعملي إنت أو صاحبك طوشة عليها!“.

استبدال التاكسي الأصفر

منذ أن انتقلت من بيروت للعيش هنا إلى عمّان، روتيني اليوميّ لا يتغير. أستيقظ باكرًا قرابة السادسة والنصف صباحًا، أتأمّل هاتفي وكأنّني أطلب من الوقت ساعة سماح كي أعوّض ذاك التعب الذي لم يفارقني منذ أن وطأت قدماي أرض هذه المدينة. لا يطاوعني الوقت، كما كلّ شيء هنا.  يتقدّم بخطى ثابتة لينذرني باقتراب دوام العمل في وادي عبدون. 

في التاكسي الأصفر، رحلة يومية مع الأسئلة المتكررة من السائق الحشريّ. حوار يكاد يتشابه مع بعض التفاصيل المتغيرة؛ "لهجتك مش من البلد، شكلك لبنانيّة؟!". أومىء برأسي إيجابًا متفاديّة مواصلة الشكل التقليدي من الحديث: "من وين إنت؟ أنا عشت ببيروت 10 سنين، كنّا ننزل دايما ع جونيه والمعاملتين، والنعم منكم، اللبنانيّة أحسن ناس…"،  وتطول القائمة ولا تتوقف عند هذا الحدّ.

قد يقرأ كلامي البعض على أنّه جحود يُقابل لطف ولباقة هؤلاء تجاهي. ولكن لم تكن هذه العبارات يومًا مقتصرة على الملاطفة والتحبّب، بل في كثير من الأحيان على استدراج كلام ونظرات مريبة تلاحقني من خلال مرآة السيارة، تلك التي ما إن تُحدَّد جنسيّتك، تُعدّل بما تتناسب مع زوايا أحلام يقظة سائق واتساعها لأحداث مستقاة ممّا أرتديه أو من حركاتي التي أشعر فجأة وكأنّها قُيدت بسلاسل. سلاسل اشتدّت أكثر بخسارتي معركة جديدة باستبدال التاكسي الأصفر بـCareem أو Uber. 

يبتسّم له صديقه، ينظران معًا إلى الوشم بين صدري ورقبتي. يطيلان التمعّن فيه، ألهي نفسي عن عيونهم الثاقبة، فيتنبّهان إلى توتري ليكسر أحدهما الصمت بسؤال يتيم مع إشارة العينين إلى المبتغى: ”شو مكتوب؟“، ”الحبّ للشجعان“.
قد يقرأ كلامي البعض على أنّه جحود يُقابل لطف ولباقة هؤلاء تجاهي. ولكن لم تكن هذه العبارات يومًا مقتصرة على الملاطفة والتحبّب، بل في كثير من الأحيان على استدراج كلام ونظرات مريبة تلاحقني.
أقدمت على هذه المغامرة هنا قبل عام ونصف العام تقريبًا، كانت مشبّعة بوله الاستكشاف لمدينة جديدة، لقرب من جسر يبعد خطى عن فلسطين، لحبّ انتظرته سنوات في مهبّ رياح بيروت ولم يأت إلاّ هنا.

سبب المغامرة: الحبّ

أقدمت على هذه المغامرة هنا قبل عام ونصف العام تقريبًا، كانت مشبّعة بوله الاستكشاف لمدينة جديدة، لقرب من جسر يبعد خطى عن فلسطين، لحبّ انتظرته سنوات في مهبّ رياح بيروت ولم يأت إلاّ هنا، في "ركوة عرب"، مصادفة في مقهى داخل فقاعة الثقافيّة في حيّ اللويبدة العمّانيّ.

تيقّنت خلال هذه المدّة، أنّ المدن العربيّة لا تشبه بعضها بتاتًا، وأنّ حقدي على بيروت بكلّ المجاري التي تمرّ فيها، هو حقد ابن ضال كره ما صنعته يداه أو ما لم تستطع منع الآخرين من اجتراحه في جوفها. ولكن عمّان مختلفة، مختلفة جدًا كالوباء المعدي. أيقنت هذا الأمر منذ أسبوع حين قرّرت أن أموّج شعري البنيّ بخصلات شقراء واضحة، وكان التعليق الأوّل على هذا التغيير: "وأخيراً!! خيّ بيّنتي لبنانية، عشوي كنّا حسيناكي صرتي أردنيّة". هذه الجملة وغيرها لن تجعلني أتعامل مع عمّان ببلادة زائريها وأقاويلهم عن رداءة الاستقبال أو عبوس الوجوه. بل ما عايشته معها كان أصعب، ولربّما أقسى هو التعبير الأكثر واقعيّة.

تنميط الهُويّة

أنا هنا "لبنانيّة" بكلّ ما تحمل معاني الكلمة من تنميط؛ أنا هنا الفتاة الأكثر أنوثة من غيرها، أنا هنا اللهجة السمحة التي تصيب قلوب الناس وعقولهم بداء محاولة تقليدها. أنا هنا الانفتاح والتحرّر اللذان يتغلّف بهما الناس زيفًا في محاولة مجاراة العصر.

هنا لست يارا التي اعتدتها: تلقائيّة، عفويّة، مرحة... الشخصية التي عُجنت في تظاهرات وضرب من قوى أمنيّة، المخيفة التي كتبت مذكراتها لتجابه مخاوفها قبل أن تبتلعها. هنا أنا يارا اللبنانيّة، سليلة فينيقيا، وفي أبهى حلّة: نسخة عمّا أنتجته بيروت في الإعلام لصورنا كنساء، لمخيّلة عربيّة تستمني على "لهجة البنات اللي عَ الـ MTV".


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image