شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
نمنح الذكريات جمالًا لا تستحقّه

نمنح الذكريات جمالًا لا تستحقّه

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 20 أبريل 201911:50 ص

ليست الصور وحدها ما يحرّض الذاكرة. فراغُ الحاضر وخوف الموت هما من يدفعانني إلى أن أعودَ إلى شريط طفوليّ أو ربّما شريط ذكرياتٍ لم يتخطّ حدوثها السنتين.

الحنينُ أملٌ بشيء كان أجملَ بحينه ولحينه، وهروبٌ من حزن اليوم إلى حزن الأمس أو فرحه. الحاضرُ أقسى من الماضي، فلا يهمّ الشعور المرافق للذكرى. وللذكريات، كما للحبّ والقلق، ألمٌ جسديّ يبدأُ في القلب أو الصدر ولا يتوقّف عند المعدة أو أعصاب القدمين. وربّما تترافق الذكرى مع الحبّ والقلق في رحلتها في جسدي.

أرى بعض الذكريات تربّتُ على كتفنا، تحاولُ أن تهدئّنا

"يا أرضي اللي ترابك زهّر، شقّي صدرك ضوّي أكتر" لا تنفكّ تزورُ ذاكرتي دائمًا. هي الوحيدة من أغنيّات "كاسيت" مرسيل خليفة التي علقت في ذهني ولا أتذكّرها إلا في مشهدٍ واحدٍ: كنتُ صغيرًا جدّا، وكنتُ عائدًا وأهلي إلى المنزل في سيارة المرسيدس الحمراء القديمة، حيث علقَ ذاك الكاسيت لسنوات، مارّين بجانب "جبّانة" القرية، "جايي ابنك واسع جرحو، حامل جسمه ت يرتاح"، سألت والدتي سؤالًا واحدًا عن المعنى وأنا أتخبّط بين كتفي أخي وأختي. لم أكن أعلم حينها أنّ هذه الأغنيّة عن "كمال جنبلاط". اختفى الكاسيت ليحميَ العنب من جوع العصافير، واختفت السيّارة كي تحمينا من احتمال انفجار الموتور أو عدم راحة في استقبال أربعة أولاد في المقعد الخلفيّ. واختفى المشهد ليعود منذ أشهر قليلة، ولا أدري السبب.

نمنحُ الذكريات جمالًا لا تستحقّه فعلًا، ولكنّنا نستطيعُ التحكّم بها أكثر من التحكّم ببشاعة الحاضر. فيها جهوزيّة لنُسقط عليها ما نحمله من شعور النقص أو الحاجة إلى شيء كان ثابتًا وواضحًا، أو أضحى كذلك. أجمل ما في الذكرى أنّها الآن مبرّرة جدّا وعاديّة رغم جنونها أو ضعفها أو خطيئتها، وهذا بعيدٌ كلّ البعد عن حياةٍ أعيشها الآن متردّد الخطوات وغير واثق بأقلّها خطورة. يليقُ الضعفُ بالماضي لأنّه ماضٍ، وتليق الذكرى بنا لأنّ ضعفها لا يضيق بنا. نحبّها كما هي، ثابتةً منتظرة إيّانا.

وقد نستخدمُ الذكرى لتفسير حالة نعيشها اليوم، أو لتفسير أثر المشاعر على الجسد، أو لنبرّر على الأرجح: ابن سنواتٍ خمسٍ يرقصُ على مسرح المدرسة مع رفاقه، وتخترقهُ من بين وجوه الأهل نظرةٌ من آخر طرف القاعة الغربيّ توقفُ الرقصة وتبدأ رحلة الخنقة و"فركة القلب" ويبكي الطفلُ الحنان الفائض، ثمّ يبرّر دموعه بوجعٍ كاذبٍ في المعدة، سيطول لعشرين سنة. بقيَ الوجع وطال انتظار نظرة شبيهة. هي الذكرى وحدها تعيدُ شعورًا ناقصًا وتضعنا داخله للحظة وخارجه للحظات.

ذكرياتٌ من هنا وهناك تصعدُ في أوقاتٍ غير متوقّعة إلى شاشة الحاضر، تحمينا من ذنبِ شخصيّتنا ومن ثِقل الأحداث الحاليّة. لا ألومُ نفسي على ذكرى بعيدة بقدر ما أحملُ لها مشاعر مسالمة وبقدر ما تُهديني وقتا لهدنة مع حياةٍ أعيشها الآن.

للذكريات، كما للحبّ والقلق، ألمٌ جسديّ يبدأُ في القلب أو الصدر ولا يتوقّف عند المعدة أو أعصاب القدمين. وربّما تترافق الذكرى مع الحبّ والقلق في رحلتها في جسدي.

نمنحُ الذكريات جمالًا لا تستحقّه فعلًا، ولكنّنا نستطيعُ التحكّم بها أكثر من التحكّم ببشاعة الحاضر. فيها جهوزيّة لنُسقط عليها ما نحمله من شعور النقص أو الحاجة إلى شيء كان ثابتًا وواضحًا، أو أضحى كذلك.

ذكرياتٌ من هنا وهناك تصعدُ في أوقاتٍ غير متوقّعة إلى شاشة الحاضر، تحمينا من ذنبِ شخصيّتنا ومن ثِقل الأحداث الحاليّة. لا ألومُ نفسي على ذكرى بعيدة بقدر ما أحملُ لها مشاعر مسالمة وبقدر ما تُهديني وقتا لهدنة مع حياةٍ أعيشها الآن.

أرى بعض الذكريات تربّتُ على كتفنا، تحاولُ أن تهدئّنا أنا وصديقي، وربّما لذلك نجمّلها. قد تقترحُ الذكرى علينا صورةً قديمة للانتظار: في جلسة أنا وصديقي، تذكّرتُ فجأة حين كنتُ وأسرتي في الحيّ القديم الضيّق في القرية نلتقطُ ما نسمّيها "قمحة"، وهي ذلك الشيء الأبيض الخفيف الذي يتطاير من نبتة تشبه الشوك (لا أعرفُ اسمًا للنبتة أو الشوكة غير القمحة حتّى الآن). كنا نحملُها ونقرّبها من شفاهنا ونقول لها: "يا قمحة روحي جيبيلي قمحة"، ونُطلق سراحها وننتظر. ننتظر أن تعودَ لنا بـ "قمحة" أخرى صغيرة إلى المكان ذاته من حيث أطلقنا سراحها. أحيانًا كانت تفعلها أو أظنُّ كذلك. وحين لا نكتفي بقمحة، نطلبُ منها أن تأتينا بشيء ذي قيمة مادّية أكبر، ويطول الانتظار البريء من قمحة خفيفة.

أيهربُ عقلنا من التخبّط الحاليّ فيسرع ويبحث في خزانته المخبأة عمدًا، ويخرج في وقتِ حزننا ذكرى غريبة تشعرنا أنّ الجمال غيرُ مستحيل؟ 

أيهربُ عقلنا من التخبّط الحاليّ فيسرع ويبحث في خزانته المخبأة عمدًا، ويخرج في وقتِ حزننا ذكرى غريبة تشعرنا أنّ الجمال غيرُ مستحيل؟ ولكن هذا الجمال قديم، والآن لا جميل هنا، فلمَ يعيدُ هذا التخبّط ذكريات تقسوَ علينا؟ أن تظهر ذكريات طفولتي من جديد –وذكريات ليست جميلة بوقتها- في منتصف حديث مع رفيقتي، أو عند وقوفي لاعنًا كل شيء في مساء مرير، أمرٌ موجعٌ وغيرُ مفهوم عضويًّا على الأقلّ. ورؤيتي الجمال في تلك الذكريات هو ما يوجع أكثر.

استحالةُ عودة اللحظات القديمة- بما فيها لحظات من سنة أو شهر أو حتّى يوم- هو ما يعطيها قيمة أكبر، وهو ما يجعلها ذكريات جميلة، تطرقُ بابنا حين نشتاقُ إلى كلّ ما قبل اللحظة الآنية. أصبح الوجعُ أو "الواقع" الصعب معتادًا، ورغم ذلك، تظلّ كلّ لحظة سابقة للوجع الحاليّ أجمل منه، وأخفّ إيلامًا. ربّما اذا استمرّ وجعٌ على وتيرة واحد، زاد. وتعوّدنا على صعوبة ما أو ألمٍ بات يوميّا لا يلغي احتياجنا إلى حضن دافىء، وإلى ساعات بكاء تفصلنا عن نظام التعوّد، وإلى ذكريات وجع سابق – ذكريات جميلة الآن. وكلُّ ما نراه اليوم أسوأ ممّا قبله، سيصير غدًا أجمل. بعد أشهر، سأبعتدُ أكثر عن ذكرى السنتين السابقتين، وسأحنُّ أكثر إلى اليوم- ولكن ما الذي ينفع!


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image