شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
عن الذكريات التي نصنعها فتصنعنا

عن الذكريات التي نصنعها فتصنعنا

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الخميس 2 أغسطس 201806:15 م
أظنّ أننا، بطريقة ما نتاج آخرين، كلمات آخرين، عواطف آخرين، مواقف آخرين، مزاج آخرين، هذه الخلطة تشكّل بمجموعها (مع إضافة شيء من الحماقة الشخصية كبصمة خاصّة إلى كل ما ذكر) الإطار العام لنا. وليس من الضروري أن يكون أولئك الآخرين أشخاصاً مهمّين في حياتنا أو تلك الذكريات مشاهد أسطورية، قد تكون بسيطة وربما سخيفة أيضاً، وأنا للدقة أقول أني صنيعة حبيباتي، صنيعة النساء اللواتي تعرّفت عليهن وأحببتهن وأحببنني، صنيعة كل الحمقاوات اللواتي ظنن أني صادق ووفي وبريء وشاعر جيد وعاشق متوسط الموهبة أو العكس. وكما يتدخّل آخرون في ترتيب أمزجتنا نتدخل بدورنا في تشكيل آخرين، وربّما هذا يفسّر التناقض الذي نشعر به أحياناً أو الغرابة إزاء بعض المواقف الملتبسة، إذ أننا غالباً ما نولي أهمية كبرى لذكريات وقراءات وأقوال مأثورة قد تكون سخيفة أصلاً وباهتة لكنها صنعت منا السخفاء الرائعين الذين نبدو عليهم.

بائع الخضار الذي يقف على زاوية سوق التجار قرب المركز الثقافي

كان يداعب البندورة ويصف قشرتها الحمراء بالقطيفة أو المخمل، يحنو على الفليفلة ويمسح عنها الغبار، يطمئن الباذنجان ويبدد مخاوف الكوسا. كان عاشقاً لخضاره، يحادثها ويغني لها أحياناً بصوت خفيض، ويغضب عندما يطلب منه أحد كمية من الخضار باستهتار: لا تقل كيلو أو اثنين، اختر حاجتك فحسب، الخضار لا تُرمى، الخضار فاكهة النهار. بائع الخضار الذي أطلق على وحيده اسم بطاطا، كان يبكي بطريقة كوميدية قليلاً عندما يرثيه بعد أن استشهد في الحرب، إذ كيف سترثي ولداً اسمه بطاطا، مات مشويا بقذيفة متفجّرة.
تكتشف أنك أنت نفسك، لست أكثر من "ذكريات قليلة فحسب ومفردات مؤلمة في ذاكرة مجهولين"
عندما مات (المطهر القانوني) انتصبت أعضاء نصف الذكور في حي علي الجمّال ومشروع ب وتنفسنا الصعداء

رمضان الإسكافي الذي افتتح دكاناً مقابل الباب الرابع للمرفأ باسم (مشفى الأحذية)

كان رمضان يغضب عندما يرى حذاء تمّ التعامل معه بطريقة سيئة، يثور ويشتم البشر القساة الذين يستطيعون ركل حجر في الطريق، أو ينثنون على الأرض بحيث يؤذون الجلد الرقيق. كان شيوعياً بطريقته الخاصة، يتأمّل صورة الرفيق خالد المعلّقة على الجدار ويحلم أن يصلح له أحذيته بالمجّان، غير عالم أن الرفيق خالد لا يصلح أحذيته الايطالية بل يرميها للفقراء أمثاله، يسكر ويشتم الدولة ثم يمنح عناصر المخابرات تصليحات مجانية ليغضّوا النظر عن شتائمه، بقي طويلاً أفضل دكتور للأحذية في حي الرمل الشمالي ثم اهترأ قلبه وتشققت بطانته الداخلية ومات وحيداً.

جورجيت، مالكة الأدوات الطبية الزجاجية

كانت تملك أنعم يدين رأيتهما في حياتي، وأرقّ ابتسامة لممرضة واللسان الأكثر بذاءة في الجوار. مهارتها في إعطاء الإبر العلاجية لا يساويها إلا دقتها في اختيار كلماتها: ليس من الضروري إنزال البنطلون كلّه، لست هنا لأضاجعك بل لإعطائك إبرة.. أو: أدر لي هذه المؤخرة الملعونة ولنثقبها كما ينبغي. كانت تملك أدوات زجاجية، حقناً وإبراً متعددة القياسات وصحناً معدنياً تستخدمه لتطهير الأدوات عن طريق غليها بالماء... لم تستطع رغم حنانها الزائد ومعارفها المتعددين أن تمنع ابنتها من الزواج خطيفة من مسلم وسيم يعمل بالتمديدات الصحية، لكنها اكتفت بالصلاة للسيدة العذراء حين عادت الابنة الضالّة مع ولدين (محمد وعمر) وحجاب يغطي رأسها كاملاً، فقامت بتعميدهما بأسماء أخرى (سليمان وعبد الله) لم أفهم المغزى من هذا لكني أظن أن السيدة العذراء كانت راضية وماتت جورجيت مبتسمة.

المطهّر القانوني في مشروع ب مقابل الحديقة العامة

كانت هذه الصفة الغريبة - قانوني- تجعله أشبه بموظفي الحكومة أو بالمحامين الماهرين، ثم انتبهنا أن حقيبته السوداء تضمّ مشارط جراحية نصف صدئة وعلب كحول ملونة ومقصّات وكمية محترمة من الشاش والقطن، كان المطهّر القانوني الوحيد في النصف الشمالي من مدينة اللاذقية، والد لعدة فتيات جميلات، انتقمنا منه في مخيّلاتنا بالوقوع بغرامهن جميعاً، ثم خجلنا لاحقاً من أنفسنا وسامحناه على جرائمه بحق أعضائنا الجنسية. عندما مات انتصبت أعضاء نصف الذكور في حي علي الجمّال ومشروع ب وتنفسنا الصعداء. 

مطعم أبو أسد، قبل الفرع الثاني للبنك التجاري وبعد سوق الخضار

الطعام لا يفهم بالسياسة: يقول أبو أسد، السَلَطة ليست موالية ولا معارضة، والسودة تحب الجائعين فقط

أبو أسد مختص بسودة العجل، التي هي كبدة في مناطق أخرى, يضع بين القطع البنية المحمرّة نتفا من لية خروف والكثير من البهارات المجهولة، فتكون النتيجة وجبة ساحرة للجائع وللشحوم الثلاثية والكولسترول، رغم وقوع محله بالقرب من الجامع الذي تخرج منه المظاهرات لكنه لم يخفي امتعاضه منها، إذ أن أغلب زبائنه من القسم الشمالي للمدينة، القسم الموالي، الطعام لا يفهم بالسياسة: يقول أبو أسد، السَلَطة ليست موالية ولا معارضة، والسودة تحب الجائعين فقط. جملته الوحيد (الله على الظالم) لم تسعفه عموميتها فاختفى أبو أسد لمدة ثلاثة أشهر وعندما عاد كان قد فقد خمسة عشر كيلو غرام من وزنه وابتسامته العريضة، مع عودته ازداد عدد زبائنه لكنه طلب من الجميع الالتزام بمناداته باسم أبو معلاق بدل اسمه القديم واستمر بتقديم السودة المشوية والمخلوطة هذه المرة بالمرارة والصمت.

جاري نور الدين، جامع النفايات البلاستيكية الذي يلقي بيانات عند الفجر

لا أعلم كيف يعمل رأس المجنون، وكيف يقوم بتركيب مفرداته الأثيرة، دعك من هرطقات علم النفس، أظن أن الأمر له علاقة بنشرات الأخبار فحسب، نور الدين رجل خمسيني يضع على إذنه راديو صيني صغير منذ قرابة الأربعين عاماً، استمع فيها لنشرات الأخبار من مختلف الإذاعات، الوطنية والمعادية، السورية واللبنانية، مونتي كارلو والبي بي سي، حتى ظننت أن الراديو خاصته لا يبث غير نشرات الأخبار. قرر نور الدين فجأة أن يتخلى عن الراديو ويبدأ بتأليف نشراته الخاصّة، يستيقظ فجراً أو قبل الفجر بقليل ثم يبدأ بشتم امرأة ما واصفاً إياها وأعضائها بأقذع النعوت (لم أفهم حتى كيف يمكن أن يكون الفَرْج إرهابياً) ثم يشتم الفيسبوك الذي يقع تماماً تحت بلاط غرفته، ثم حلف الناتو والفصائل الفلسطينية، ثم الأقمار الصناعية التي تراقبه ويرتدي لمنع هذا قبعة مبطنة بالقصدير، ثم يعلن أن كل الدول إرهابية: روسيا، إيران، أميركا، بريطانيا، بلجيكا وجنوب إفريقيا ومصر، ثم يقول أن الرب نفسه كذلك... يستمرّ بيانه الاتهامي إلى أن يتطوع أحد السكّان في الطوابق المرتفعة ويقوم برمي كرسي بلاستيكي عليه أو زجاجة مياه بلاستيكية، ينشغل حينها بتقدير جودة المقذوف والسعر الذي سيحصل عليه في الصباح. على هذا النحو أو ذاك تفعل الذكريات فعلها في تركيب طبيعتنا، الأشخاص والأماكن والمواقف، فتكتشف مثلاً أنّ أخاك الحقيقي ليس هذا الشخص الذي دأبت طوال أربعين سنة على مناداته كذلك، إنما ذاك السجين اللبناني الذي التقيته في أول ليلة لك في سجن عدرا بعد مدفع الإفطار بدقائق ولمح في عينيك الجوع والخجل والخوف فأصرّ على مشاركتك إياه الطعام القليل الذي أعدّه، رغم ادّعائك الشبع. وأن حبيبتك ليست تلك التي صرفت ليال ساهراً في شارع بيتها بانتظار أن ينام أخوها المغفّل، لتضع زهوراً على نافذة غرفة نومها، إنما تلك الفتاة التي التقيتها في فرع الأمن والموقوفة بقضية أخلاقية والتي قامت بالتخلّي عن نصف سيجارتها ورمتها لك، مشتعلة ومبتلة باللعاب، من نافذة الزنزانة. وأن أيامك ليست هذه التي تمرّ الآن بعجلة وبدون أثر وأن حياتك ليست هذه التي تسحقك في كل لحظة وأنك أنت نفسك، لست أكثر من مفردات غزل بائع الخضار وحزنه على وحيده، حنان الممرضة جورجيت وصبرها، مهارة المطهّر القانوني وغفرانه، صمت أبو أسد ومرارته، طرافة نور الدين وبذاءته، وأنك ذكريات قليلة فحسب ومفردات مؤلمة في ذاكرة مجهولين.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image