من دون قصد، يحرجني أحفاد إخوتي. أنا عمّ آبائهم أو أمهاتهم، لكنهم لا يعترفون بمقام كأنه مقام الجدّ، ويحسنون بي الظن، فيسألونني عن معلومات لا أعرفها، ويستغربون جهلي، ولا يقتنعون بأنني لا أرغب في حشو رأسي، وإرهاق ذاكرتي، بأعباء يمكنني التوصل إليها بالبحث الإلكتروني، ثم أتأكد من مراجع ورقية وغير ورقية. لعل هذا من ميراث ثقافة الاستظهار، والتنافس في القدرة على الحفظ، وتنظيم مسابقات لاستدعاء أبيات من الشعر، أو حفظ أجزاء من القرآن. فرحة القبيلة العربية قديماً بنبوغ شاعر، يوازيها الآن حفظ أحدهم للقرآن؛ مناسبة عظمى يطمئن فيها الأهل إلى أداء الأمانة، ويكافأ الحافظ بعدة طرق منتهاها ذهابه إلى الحج.
فرح القبيلة بمشروع شاعر كان مسوّغاً، أصبحوا يمتلكون سلاحاً نوعياً. الأمر نفسه بالنسبة إلى حفظ القرآن قبل جمعه، وبعد الجمع وقبل انتشار الطباعة وتعميم المصاحف. حافظ القرآن الآن نسخة بشرية من المصحف الورقي والإلكتروني. قوة الذاكرة ليست مصدراً للتباهي، توجد استثناءات نادرة في استدعاء المعلومات والحفظ المشهدي لصفحة من دليل التليفونات أو عدد الدبابيس في علبة. في أوروبا والدول المتقدمة لا أسمع بمؤسسات، دينية رسمية أو أهلية، تنظم مسابقات لحفظ العهد الجديد، ربما يرون الأمر مضحكاً، فالنسخ متاحة، ولا يلزمهم إضافة نسخ بشرية. قلّة من الصحابة حفظوا القرآن كاملاً. كان الاستظهار وسيلة وحيدة للحفظ، في سياق تندر فيه وسائل التوثيق.
أقول هذا ربما لأن ذاكرتي ضعيفة، تخونني كثيراً، ولا يزعجني هذا النوع من الخيانة. الحياة تُحتمل ولو لم تسعفنا الذاكرة ببيت شعري أو آية أو معلومة. سأتعب قليلاً في البحث، ثم أنسى. لي أصدقاء يتمتعون بذاكرة كمبيوترية غوغلية، يقولون لي مثلاً إن الممثل حسين رياض هو الشقيق الأكبر للممثل فؤاد شفيق. أنسى المعلومة ولا أتذكرها إلا في اجتماعهما النادر في أفلام قليلة: "سلامة في خير" (1937)، "الزلة الكبرى" (1945)، "أم رتيبة" (1959). ولا يُذكر الأخير إلا منسوباً إلى أخيه الأكبر الأشهر. أوّثق المعلومة لأتذكرها، فيفاجئني صديقي ذو الذاكرة: هل تعرف أن الممثل سراج منير أخو المخرجين حسن وفطين عبد الوهاب؟
الحفظ من أسباب الإخصاء الذهني، وربما من نتائجه. ثقافة تورث الاتباع، وتحصّن الطالب/ة من شرور الاجتهاد وإعادة النظر في الموروث الشعري، ويليه الموروث السياسي المؤبّد لأوضاع ليست على ما يرام
لا أرفع صوتي بالغناء، ليس لسوء الصوت وضعفه، بل لتغييري البريء للكلمات. ولا أنتبه إلى التحريف، مطمئناً إلى سلامة الوزن وعدم الإخلال بالإيقاع. فيروز أكبر ضحاياي، لا أعرف من كان زوجها، عاصي أمْ منصور؟ أبحث ثم أنسى. يعنيني إنجازهم، أعلى تمثيلات خصوصية لبنان. لفيروز النصيب الأكبر من تبديلي للألفاظ، أسمعها وأستغرب: لماذا بدّلتْ فيروز؟ في أغنية "عتاب" تقول: "إن كان غيرة هالجدال وهالشكوك/ أضنيتي يكفي بقى يرحم أبوك". فأختمها بصوتي: "يكفي بقى يلعن أبوك". وبخلاف غناء كل من عبد الوهاب ونور الهدى "يا جارة الوادي"، أسمع فيروز: "ودخلت في ليلين فرعك والدّجى"، فأبدل الحرف قبل الأخير في الكلمة قبل الأخيرة.
كان الدكتور عبد الوهاب المسيري، الكاتب والمفكر المصري، لا يحبّ أم كلثوم، ويفضّل فيروز. ذكرتُ خيانة الذاكرة وتبديلي للألفاظ، فطمأنني أنها من ثمار العقل التوليدي. في رأيه أن طلبة الفلسفة الآن يحفظون معلومات أكثر مما عرفه أرسطو، لكن الإدراك أهم من مراكمة المعلومات. القدرة التفسيرية وعمق التحليل والربط الذكي بين علاقات الأشياء يعجز عنها الكمبيوتر، خازن ما لا نهاية له من المعلومات. ما يمتع القارئ ويحثّه على التفكير في معارف ومواقف وخبرات إنسانية وفكرية موجود في سيرة المسيري التي اعتَبرَها "غير ذاتية غير موضوعية"، وهي ذاتية موضوعية. وأقترح على باحثي الماجستير قراءتها، ليزدادوا ثقة بأنفسهم في مواجهة قهر أكاديمي يبلغ درجة الاستعباد أحياناً.
نجح المسيري في الشهادة الابتدائية بمجموع منخفص للغاية. وفي المرحلة الثانوية المؤهلة للجامعة أعاد السنة الأولى، ورسب في الثانية ونجح في الدور الثاني. كره الرياضيات واللغة الإنكليزية، وأعلن مدرس التاريخ للطلبة أن المسيري "عبقري وأنهم يجب ألا يقارنوا أنفسهم بي". وأحَبّ الفلسفة وكان يشرح لزملائه ما غمض فيها، إلا أنه حصل على الحد الأدنى للنجاح، 18 من 40، "ويبدو أنه ليس المطلوب من طلبة التوجيهية أن يقولوا رأيهم في فرانسيس بيكون، على سبيل المثال". وبعد عودته من الولايات المتحدة لم يكن ابنه يعرف إلا الإنكليزية، وأراد إلحاقه بمدرسة للغات، فرسب في الإنكليزية، فتعجب المسيري: "هل اللغة الإنكليزية هي الـEnlish?"!
في رأيه أن التعليم المصري، فضلاً عن سراب المجانية، "لا علاقة له بالتعليم، إذ أصبح التعليم الآن هو اكتساب مقدرة اجتياز الامتحانات". حصلت ابنته، عام 1980، على تقدير امتياز في كل المواد إلا مادة الشعر التي درّسها لها. كانت رسالة الدكتوراه للمسيري في جامعة رتجرز بعنوان "الأعمال النقدية لوليام وردزورث ووالت ويتمان: دراسة في الوجدان التاريخي والوجدان المعادي للتاريخ". ما جدوى أن نزرع في المرحاض خميلة؟ هكذا تساءل نجيب سرور، وهكذا أتى المسيري لابنته بمدرس "لا يجيد الإنكليزية أو الشعر، ولكنه أتقن مهارة تدريب الطلبة على اجتياز الامتحانات، وطلبت إلى ابنتي أن تنسى كل ما درسته معي... وحصلت على الامتياز".
لا أنسى شرح مدرس اللغة العربية للقصائد المقررة، في الابتدائية في نهاية السبعينيات. الشعر في المناهج وطنيّ حماسي هدفه الشحن المعنوي، ولا يراعي حاجة التلميذ إلى الخيال والتوعية الجمالية، ولا يملك المدرس سلطة شرح قصيدة من خارج المقرر. ويفتح الكتاب المدرسي على سؤال عن لفظ بديل للفظ أورده الشاعر، ولم يحدث إطلاقاً تفضيل للفظ المقترح على ما استخدمه الشاعر. الاجتهاد ممنوع، لا يسمح المقرر الرسمي، ولا يستوعب المدرس، أن يكون الشاعر قد أتى بكلمة يغني عنها سواها. وكانت الإجابة عن سؤال: "علّل؟"، في استحسان الخيارات اللفظية للشاعر، جملة لا أزال أحفظها: "اللفظ الذي كتبه الشاعر فيه دقة ووضوح وزيادة معنى".
في تلك السن المبكرة، شكّلت السلفية المنهجية والشعرية ذائقتنا، ولازمَتنا حتى الصف الثالث الثانوي، على مرمى أشهر من دخول الجامعة. وكان واضعو المناهج قد اعترفوا ـ ربما مضطرين ـ بشعر التفعلية وقد بلغ الأربعين، وأنجب شعراؤه "بنين وحفَدة" تمردوا، وأغواهم الشيطان بكتابة قصيدة النثر. قرأت قصيدتيْ سلمى الخضراء الجيوسي وصلاح عبد الصبور، وسألت مدرس اللغة العربية باستنكار: "هل هذا شعر؟". وفي الجامعة طالعت بالمصادفة كتاباً مدرسياً وفيه نموذج لفن المقال، واختاروا مقالاً عن التدخين للصحفي القريب من السلطات صلاح منتصر. سألت الدكتور سيد حامد النساج، عميد كلية التربية الفنية، واسمه بين واضعي المنهج: "معقول؟". واكتفى الناقد الملتزم بنفي مسؤوليته، وصدّقته.
في رأي الدكتور المسيري أن طلبة الفلسفة الآن يحفظون معلومات أكثر مما عرفه أرسطو، لكن الإدراك أهم من مراكمة المعلومات
الحفظ من أسباب الإخصاء الذهني، وربما من نتائجه. ثقافة تورث الاتباع، وتحصّن الطالب/ة من شرور الاجتهاد وإعادة النظر في الموروث الشعري، ويليه الموروث السياسي المؤبّد لأوضاع ليست على ما يرام. النموذج اللغوي المستجلَب يشبه تقليد رجال مصريين للثياب الباكستانية القصيرة، ومصريات يجرجرن شبراً من جلباب لا وظيفة له إلا مصافحة التراب والمياه، فيبتلّ ويتّسخ وتتلف أطرافه. ولا تسول لكم أنفسكم سؤال صاحبته، لفظاظة ردّ يتهمكم بالجهل بشيء اسمه "السنة"، وربما يرتبط الردّ ببشاشة استعلائية تشهر في وجوهكم شكوى صحابيات أن جلبابهن يتسخ، فقال لهن النبي صلى الله عليه وسلم: "يطهره ما بعده". لا تسألوا: وماذا لو كان المابعد غير نظيف؟
الحفظة مطْمَئّنون، معصومون من فضيلة القلق. قلتُ قبل قليل إن داء الاستظهار قرين الإخصاء. لو قرأوا عبد الرحمن الجبرتي لتعلموا منه جسارة الاشتقاق. وجد الجبرتي صعوبة في نطق كلمة "كتخُدا"، وكانت تعني المحافظ أو نائب الوالي. لم يرفض اللفظ لأنه فارسي أو تركي، وإنما لثقل دمه، فعدّله إلى "الكخْيا؟". ولخّص يحيى حقي ثمار الصحبة الحلوة للغة العربية بقوله: "أكره الأبواب الموصدة والنوافذ المغلقة والأدراج المعصْلجة والشفاه المطبقة... أحب الأصابع السّرحة في راحة اليد المنبسطة مخلوقة للبذل للعزف للتربيت بحنان... وأستمخّ من نجم الحفلة من أجله ذهبت إليها وعدت مرتوياً من فيضه ولكن قلبي مع الكومبارس الواقف إلى الوراء في الظل".
أقفز من الجبرتي ومن يحيى حقي وسعدي (يوسف) إدريس وغيرهم من محاوري اللغة، إلى تجسد حيّ لاستعارة دولاب لغوي يؤكد الاستلاب والاجتهاد في القسوة على النفس. كنا في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، في مرحلة ما قبل استنكار أن تكون قصائد سلمى الخضراء وعبد الصبور شعراً، وكان شاب سلفي تخرّج في الجامعة وينتظر دخول الجيش، وزميله "فتحي"، أخ أكبر لزميلي الذي وجّه إليه السلفي سؤالاً من كلمتين: "أَفتحي جُنّد؟". مع الحرص على تعطيش حرف الجيم، كما ينطقه أهل الجزيرة العربية لا الجيم المصرية غير المخالفة لقواعد الفصحى. احتار زميلي، وكنا فتياناً لا نتحسب لمثل هذه المفاجأت، ثم أجاب: "آه"، يعني نعم.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...