أحاط الجدل كتاباته ومسيرته، فكّك الصهيونية والعلمانية، انضمّ إلى حركة الإخوان المسلمين، ثمّ الشيوعية، وبعدها حركة كفاية، وأسس مبادئ ثورة يناير 2011، ولكن رحل قبل أن يرى ولادتها.
بالأمس، في الثالث من شهر يوليو الحالي، حلّت الذكرى التاسعة لوفاة المفكر والفيلسوف وعالم الاجتماع المصري عبد الوهاب المسيري (2008_1939).
المسيري الذي ولد في مدينة دمنهور، ودرس اللغة الإنجليزية في جامعة الإسكندرية، ثم حصل بعدها على درجة الدكتوراه، كان واحداً من أهم المفكرين الذين أسهمت كتاباتهم في تشكيل الوعي العربي.
المسيري مفكراً: تفكيك الصهيونية والعلمانية
في رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية الطويلة الممتدة على ما يزيد عن الثلاثين عاماً، تبقى مساهمته في حقلي تفكيك موضوعي الصهيونية والعلمانية خاصة، هي الأكثر بروزاً وأهمية. فقد كانت أبحاث المسيري وكتبه عن الصهيونية واليهودية، معلماً فارقاً ومميزاً في تاريخ الاهتمام البحثي بذلك الحقل المعرفي المهم، حيث ألف المسيري العشرات من الكتب حول الصهيونية، منها على سبيل المثال: نهاية التاريخ: مقدمة لدراسة بنية الفـكر الصهيوني في عام 1972م، والأقليات اليهودية بين التجارة والادعاء القومي في 1975م، وأرض الميعاد: دراسةٌ نقديةٌ للصهيونية السياسية في 1980م، والأيديولوجية الصهيونية: دراسةُ حالةٍ في علم اجتماع المعرفة في 1981م. بالإضافة إلى موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية الذائعة الصيت، والتي صدرت في ثمانية مجلدات ضخمة في عام 1999م. ورغم أن كل تلك المؤلفات جعلت المسيري واحداً من أبرز المؤرخين العالميين المتخصصين في الحركة الصهيونية، إلا أنها قد لاقت ردود أفعال متباينة من شتى الاتجاهات الفكرية. حيث نظر البعض لأفكار المسيري على كونها تصب أساساً في اتجاه الدفاع عن اليهود والصهاينة، وأنها تبرر لهم الكثير من أفعالهم الوحشية تجاه الفلسطينيين. طرح المسيري في موسوعته رؤيته الجديدة، والتي تعلن أنّ اليهود هم جماعات لا تنطبق عليهم الصورة الأخلاقية النمطية السيئة المعروفة عنهم. وفسّر ذلك بأنه لا توجد برأيه علاقة مباشرة ما بين سلوك أفراد الطائفة اليهودية من جهة وبين عقيدتهم أو التلمود والنصوص الدينية التي يؤمنون بها من جهة أخرى. ويُرجع المسيري ما تواتر عن سوء أخلاق اليهود وتآمرهم، لأسباب حضارية ودينية وتاريخية متباينة وقعت في فترة ما بعد منتصف القرن التاسع عشر بين يهود روسيا وبولندا، بالإضافة إلى بعض الظواهر الاجتماعية المرتبطة بكونهم قد اعتادوا على العيش كأقليات في المجتمعات التي احتضنتهم. ويرى المسيري أيضاً أنّ طبيعة اليهود وهويتهم الدينية قد تغيرت جذرياً بعد عصر الاستنارة أو في العصر الحديث، حيث لم يعد بإمكانهم بحسب رأيه الحفاظ على عقيدتهم والبقاء في عزلتهم داخل الأحياء الضيقة التي كانوا يسكنون بها في المدن الأوروبية الكبرى، وإنما فرض عليهم الواقع الجديد الاندماج والانصهار في مجتمعاتهم والإصطباغ بصبغتها. ومن ثم فقد تمّت علمنتهم بصورة كبيرة، وبحسب ما يرى المسيري، فإن اليهود قد فقدوا جوهر عقيدتهم الدينية ولم يعودوا كعادة أسلافهم يتصرفون كأقليّة، خاصة أنهم في النهاية تبنوا صيغ جديدة لليهودية وهي اليهودية الإصلاحية واليهودية المحافظة، التي يعتبرها المسيري صيغ مخففة للغاية من اليهودية التقليدية، كما أصبح كثير منهم ملحدين، ولذا لم يعد لهم علاقة بأي طائفة يهودية قديمة. ومن هنا فإن المسيري قد حرص على التأكيد بأن ظاهرة الصهيونية ظاهرة غربية بشكل رئيس، وناتجة عن عوامل غربية أكثر من العقيدة اليهودية الداعية لعودة اليهود إلى فلسطين، وأن اليهودية برأيه بريئة بشكل كامل من الصهيونية، وأن الأخيرة إنما تستمد جذورها ومبادئها من الفكر الغربي الأوروبي والأميركي.أعاد المسيري قراءة تاريخ العلمانية والصهيونية وفكّك النظرة السائدة عنها
انتقد المسيري بشدة الأوضاع السياسية في مصر، وساهم في ولادة ثورة يناير 2011أفكار المسيري عن اليهودية والصهيونية، نالت الكثير من الإشادات من جانب المثقفين العرب والغربيين على السواء، ولكنها تعرضت في الوقت نفسه، للكثير من المعارضة من جانب البعض الأخر. فعلى سبيل المثال، كان اتجاه المسيري لرفض نسبة كتاب بروتوكولات حكماء صهيون لليهود، قد أثار زوبعة من النقد ضده، حيث اهتم الإعلام العربي بتلك القضية، وتم عقد عدد من الجلسات الفكرية والمناظرات بين المسيري ومنتقديه للبت في تلك المسألة تحديداً. المحطة الثانية الأكثر أهمية في مسيرة المسيري الفكرية، كانت أبحاثه التفكيكية لمصطلح العلمانية، ودراساته النقدية لمفاهيم عصر ما بعد الحداثة. فالمسيري يوضح أنّ هناك فرق بين مصطلحي العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، فالعلمانية الجزئية بحسب المسيري هي فصل الدين عن الدولة في المجال السياسي، وفي جانبها العلمي هي الاحتكام إلى قواعد العلم الحديث ووفق ما هو مرئي لنا في هذا العالم الذي نعيشه. أما العلمانية الشاملة فيفسرها بكونها إنكار المعاني والقيم الإنسانية بشكل كامل، بحيث يتم تحويل الإنسان إلى مجرد شيء ليس أكثر. وقد عمل المسيري على عرض وجهة نظره فيما يخص العلمانية في عدد من الكتب والمؤلفات، لعل أشهرها كان كتاب العلمانية تحت المجهر الذي ألفه مع بالاشتراك مع المفكر السوري عزيز العظمة في 2000، وكتاب العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة في 2002. وكذلك دخل في بعض المناظرات والمناقشات مع بعض المثقفين العرب لتبيان وجهة نظره، ولعل من أشهر هذه المناظرات، تلك التي عقدها مع المفكر المصري سيد القمني حول مفهوم العلمانية وهل هي صالحة للتطبيق في الوطن العربي أم لا.
المسيري سياسياً: من الإخوان المسلمين لحركة كفاية
رحلة عبد الوهاب المسيري الفكرية والعلمية، تماشت جنباً بجنب مع رحلته السياسية، فالمفكر الذي انصب اهتمامه على دراسة الصهيونية ومفردات عصر ما بعد الحداثة، مر بالعديد من المحطات السياسية المهمة خلال سنوات حياته. المحطة الأولى في مشوار المسيري السياسي، تمثلت في انضمامه لجماعة الإخوان المسلمين. يحكي المسيري عن تلك المرحلة في كتابه رحلتي الفكرية، فيقول إنّه كان وقتها في الرابعة عشر من عمره، وإن نشاطه اقتصر على قراءة القرآن وبعض العبادات فحسب، ولم يصاحب ذلك أي ممارسات سياسية حقيقية. المحطة الثانية، بدأت بعد سنتين فحسب، وتجلت في اعتناق المسيري للفكر الشيوعي. يفسر المسيري ذلك التحول بقوله "في هذه الفترة اعتراني الشك، وهذا الشك خلق في نفسي فراغاً، فلم يعد من الممكن قبول الأطر القديمة، وكان لابد أنْ يُملأ هذا الفراغ العقدي أو الأيديولوجي، وبما إني كنت ثائراً ضد الظلم الاجتماعي، كان من الحتمي تقريباً أن أتوجه للماركسية". ومع انتقاله لمدينة الإسكندرية للدراسة في جامعتها، وجد المسيري الفرصة مُهيئة لممارسة العمل السياسي، فانضم للحركة الوطنية للتحرر الوطني (حدتو)، والتي كانت من أهم المنظمات الشيوعية في مصر في أربعينيات وخمسينيات القرن العشرين. مؤهلات وقدرات المسيري العلمية مكنته من ارتقاء المناصب داخل الحركة بشكل سريع، فنجده أضحى مسؤولاً عن خلية كما أنه ساهم في تنظيم عدداً من المظاهرات العمالية في بعض مصانع الإسكندرية. ورغم الترقي الذي حظي به المسيري في الحزب الشيوعي، إلا أنه لم يستمر طويلاً على النهج الماركسي، وقد فسر ذلك بغضبه من النزعة الداروينية النتشوية والنرجسية التي كانت تميز معظم رفاقه الشيوعيين في هذا الوقت. وعلى الرغم من اعتزاله للماركسية، فقد استمر المسيري طوال حياته ميّالاً للخط اليساري، وإن اصطبغ ذلك الخط، فيما بعد، بنزعة إسلامية عقائدية واضحة. وفي عام 2004، عاد عبد الوهاب المسيري إلى ساحة العمل السياسي مرة أخرى، عندما انضم لعدد من الناشطين السياسيين والمفكرين المعروفين، لتقديم طلب لتأسيس حزب الوسط الجديد، والذي كان من جملة الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية، فإن مؤسسيه قد أعلنوا مراراً من قبل عن رفعهم راية العدالة الاجتماعية والدولة المدنية. مشاركة المسيري السياسية لم تقتصر على حزب الوسط، بل إنه لعب دوراً كبيراً كذلك، في تدشين تجمع الحركة المصرية من أجل التغيير، والذي عُرف إعلامياً بحركة كفاية. بعد تغيير وزاري قامت به الحكومة المصرية في يوليو 2004، اجتمع ما يقرب من 300 مثقف ومفكر وسياسي مصري من مختلف الأطياف والمرجعيات، وصاغوا وثيقة تأسيسية تطالب بتغيير سياسي حقيقي في مصر، وبإنهاء الظلم الاقتصادي والسعي لتحقيق العدالة الاجتماعية. واختار الموقعون على تلك الوثيقة تحويل مشروعهم لمشروع حركي، وتوافقوا على أن يكون رفضهم للرئيس المصري آنذاك حسني مبارك ولتوريث السلطة لابنه هو أساس حركتهم، ومن هنا جاء اسم الحركة "كفاية". وتم اختيار عبد الوهاب المسيري ليكون المنسق العام لتلك الحركة، وقبل ذلك المنصب رغم الآلام التي تداهمه وقتها بحكم إصابته بمرض السرطان. وقد ظل المسيري على رأس تلك الحركة، وقام بتنظيم العديد من الفعاليات الاحتجاجية والمعارضة للنظام السياسي المصري حتى وفاته في الثالث من يوليو 2008. رحل المسيري قبل ما يقرب من عامين فحسب من اندلاع ثورة يناير 2011، تلك التي كان قد ساهم فعلياً في تهيئة المناخ لها والإعداد لظهورها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع