لا تكاد تُذكر فنون الشارع وعروض الأمكنة المفتوحة ومهرجانات الرصيف والساحات المكشوفة وغيرها من فعّاليات الهواء الطلق، حتى يتبادر إلى الذهن مفهوم الإبداع الحُرّ البريء، الجريء، المتحلل من القولبة والقيود، المتمرّد على تعقيدات الثقافة الرسمية وحساباتها المدرسية والسلطوية، والمحتمي بنبض العاديّين ودفء أشعّة الشمس الواصلة بين الأرض الطيّبة والسماء المستجيبة بالضرورة لإرادة البشر.
للوهلة الأولى، قد تبدو اللحظة الراهنة مثالية لانتعاش أدبيّات الشارع وتجلياته الثقافية والفنية في أخصب صورها، فالإجراءات الصحية الاحترازية ومخاطر موجات كورونا المتلاحقة تدفع المبدعين والجمهور على السواء باتجاه نبذ القاعات المغلقة، وتفادي التكدّس والزحام، ليكون شعار فنون الشارع بمصر "هيّا ننطلق ونخلع الكمامات!".
وقد تجلّى ذلك التوجّه بالفعل خلال الأشهر القليلة الماضية عبر فعاليات متنوعة كثيرة على مستوى الكمّ للأراجوز والكاريكاتير والكوميكس والتشكيل والمسرح والشعر والموسيقى والحرف والصناعات التقليدية وغيرها في الشوارع والحدائق والميادين وساحات الأوبرا والمزارات التاريخية والأمكنة الأثرية، في القاهرة وغيرها من المحافظات المصرية.
لكن، هل تكفي الشعارات الطنّانة وحدها لتحقيق الهدف؟ وهل تعني الزيادة العددية لهذه العروض والمناسبات الاحتفالية تحقيق إنجاز نوعيّ وإحداث تطوير كيفيّ في داخل كل لون فني وإبداعي جرى تقديمه؟ وهل جوهر التحرر المنشود، هو أن يخلع الجمهور الكمامات الواقية من الفيروسات، أم أن يخلع الإبداع ذاته كمامة الخوف، ويثور بحقّ على هذه الجدران والأسقف الضيّقة التي هجرها في رحلته إلى الفضاء المكشوف وجمهور البساطة والصدق؟
اقترن تاريخ الأراجوز بنصرة البسطاء والفقراء والانحياز للمقهورين وتبنّي قضاياهم المصيرية في مواجهة السلطة والقوى المتوغلة والمؤسسات الرسمية
يكفي القيام بجولة سريعة في ثنايا مجموعة من عروض الأمكنة المفتوحة وفنون الشارع التي شهدتها مصر مؤخراً، للوصول إلى أن أغلبية هذه الفعاليات لم تنْجُ من الصيغة الكرنفالية الدعائية، فالتحرر الموصوف هو شكلاني صرف، والتعبير نفسه بكل بساطة هو الذي يعاني التكميم والحذر المفرط، والفزع من الملاحقة والترصّد، وربما الإشفاق من الاتهام بالتخوين أو العمالة أو التكفير، أو الإحالة إلى التأديب والمحاكمة، وهذا في حقيقة الأمر مآل أيّ صوت مغاير، يُحسب على الاختلاف والمعارضة وكسر السائد، ولو في حيّز الآداب والفنون، المُفترض أن يكون مساحة مرنة.
خارج السيطرة
بالرجوع إلى الوراء بعض الشيء، حيث فعاليّات الشارع المصاحبة لثورة 25 يناير 2011 بمصر والثورات العربية وما أعقبها من سنوات قليلة، يمكن مطالعة نماذج متفوقة لفنون الشارع وعروض الهواء الطلق التي غذّتها صيحات الجماهير الغاضبة وأنضجها الحراك المجتمعي التلقائي والتعطش إلى إزاحة الرجعيّات الجاثمة على الصدور، فكانت إبداعات الغرافيتي أيقونة المشهد المشتعل، وكذلك أشعار الميادين وأناشيدها الحماسية وأغنياتها بالعربية الفصحى واللهجات المحلية، وعروض مسرح الشارع، والفن ميدان، ومهرجانات وسط البلد للفنون الحديثة والمعاصرة، وغيرها.
كذلك، كانت فورة الكوميكس، ذلك "الفن التاسع" النابع من براكين الواقع والرغبة في المواجهة والتحرك والتغيير وقلقلة الرواسخ وخلخلة الاستقرار، وقد اتسع هذا الفن الوليد على وجه الخصوص لإبداعات رفيعة عميقة لرسّامين وكتّاب قصص من الشباب، استلهموا روح الاحتجاج والانتفاض لتعزيز فن التحدي والمفاجأة والشغف واستنفار الهمم، واستيعاب شحنات النقد الاجتماعي والسياسي، وحتى الديني، على نحو أوسع من الكاريكاتير، فن التهكم والسخرية، صاحب الرصيد الكبير في الذاكرة المصرية والعربية.
وقد شهدت الحدائق والساحات والمنابر الثقافية المفتوحة في تلك الآونة معارض جماعية دولية وأسابيع فنية تخصصية احتضنت أعمال "الكوميكس"، الفن الشابّ الفتيّ، الذي نشأ منذ بداياته "خارج السيطرة"، منفلتاً محلّقاً تجريبياً مشتبكاً، غير قابل بالحلول الوسطى.
سمات التراجع
وبالانتقال من إشراقات ما كان، إلى التمثلات الكائنة في الوقت الحالي للفنون والعروض التي وَاعَدت جمهورها للالتقاء في الشارع والهواء الطلق والأمكنة المفتوحة، تتبدى شواهد التراجع الخطير الذي اعترى هذه الفعاليات الجديدة، وحدّ من طزاجتها وسخونتها وتدفقها، وذلك جرّاء تشرنق الإبداع، واستسلامه لكمامة التقييد والانكماش، لاسيما في ضوء قانون التظاهر بمصر، الصادر في 2013 لتنظيم الاجتماعات والتظاهرات السلمية، وربطها بالحصول على تصريح من السلطات، حيث إن ما كان يُتوقع أن يقال، وفق تاريخ هذه الفنون وتطوراتها ومواصفاتها وخصائصها الطبيعية وعناصرها الجمالية، لم يُقل للأسف الشديد في الكرنفالات الأخيرة، بسبب احتجاب الرؤية واختناق التنفّس وتقلّص هامش التعبير.
انتهى اختبار حرية التعبير بهجمة عنيفة ضد المهرجان، بسبب قصيدتين اتهمتا بتخطّي الخطوط الحمراء واقتحام تابوهات دينية وجنسية
وتقود أمثلة ونماذج من هذه العروض الكثيرة التي شهدتها مصر خلال الفترة الوجيزة الماضية، إلى استشفاف التغيرات النوعية في نسيجها، وتلمُّس "الترويض" الذي خضعت له جبريًّا، ما أدّى في نهاية المطاف إلى خفوت طاقتها ووهجها وقدرتها على اجتذاب المتلقي والتأثير فيه كقوة ناعمة، على الرغم من انتشارها وتعدد ألوانها الإبداعية.
ما تسمح به الأجواء الراهنة بمصر لفنون الشارع والأمكنة المفتوحة هو باختصار الإبداع الممتع والمرح والحيادي ومقلّم الأظافر ومنزوع الدسم، بمعنى ألا يتسلح بالجرأة والحرية والزخم متجاوزاً الخطوط الحمراء بالانتقاد والفردانية والاختلاف عن المفروض والمرسوم، خصوصاً في الميدان السياسي، وهي محددات وشروط بالغة الوطأة، تناهض فكرة الإبداع وقيمه العليا، وتضرب أنماطًا فنية قائمة على السخرية والتندّر والمعارضة في مقتل، كالكاريكاتير والكوميكس والأراجوز، على سبيل المثال.
اقترن تاريخ الأراجوز بنصرة البسطاء والفقراء والانحياز للمقهورين وتبنّي قضاياهم المصيرية في مواجهة السلطة والقوى المتوغلة والمؤسسات الرسمية، وذلك من خلال الارتجال العفوي والاستهزاء بالطغاة وكسر شوكة الأقوياء حال تجبّرهم. لكن هذا المارد العملاق والفيلسوف الشجاع تحوّل إلى حمل وديع في "مهرجان الأراجوز المصري" ببيت السناري في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، مكتفياً بالقفشات الباسمة، والنكات الهزلية، والمسامرات والحكايات المسلّية، والانتقادات الاجتماعية الهادئة حول أمور اعتيادية آمنة.
على الرغم من اعتماد الأراجوز المصري في قائمة التراث الثقافي العالمي غير المادي لمنظمة اليونسكو، ووضعه على قائمة الصون العاجل كأحد الفنون الأصيلة العريقة، فإن عروض بيت السناري المفتوحة أظهرت الأراجوز خارج مساره المأمول كرمز للرفض، إذ اقتصرت انتقاداته (المسموح بها) على مخاطر السوشيال ميديا على الحياة العصرية، وثقافة التيك أواي، والسلبيات السلوكيات اليومية في المدينة، وما إلى ذلك من عروض و"اسكتشات" باهتة أفقدته حيويته وبريقه وذاكرته كعميد للدمى الشعبية في مصر، ونواة للمسرح وفنون الفكاهة والنقد والسخرية المتنوعة.
تجرّد الأراجوز في مهرجانه الاحتفالي الأخير من أسلحته التي لازمته منذ نشأته وفي مراحل تطوره ونضجه، فلم يتعرض "الفهلوي" المحبوب، ابن البلد، قاسي اللسان، للأوضاع السياسية في البلاد، وغياب التعددية وتراجع الحريات، والأزمات المجتمعية الشائكة كالطبقية وسوء توزيع الثروات وانتشار الفساد وغيرها، وخضع صاحب الجلباب الشعبي والطرطور الشهير والصوت المميز والتاريخ النضالي الممتد منذ سبعة قرون، مضطرّاً، لثوب الاحتشام الذي لا يليق به.
ميراث التحنّط
ومن ردّة الأراجوز، إلى هزّة الشعر، حيث كان للهواء الطلق في شهر تشرين الثاني/نوفمبر الماضي أيضاً موعد آخر مع العروض المفتوحة، من خلال القصائد في هذه المرة، في أثناء انعقاد مهرجان طنطا الدولي للشعر في ساحة السيّد البدوي وأمكنة أخرى، بحضور شعراء وباحثين من مصر والوطن العربي والعالم.
انتهى اختبار حرية التعبير بهجمة عنيفة ضد المهرجان، وإدارته، وشعرائه، وذلك بسبب قصيدتين للمصريين إسلام نوار وأمينة عبد الله اتهمتا بتخطّي الخطوط الحمراء واقتحام تابوهات دينية وجنسية، وانتفض أفراد وجهات وجماعات عبر بيانات وحملات على السوشيال ميديا لإدانة الشاعر وتكفير الشاعرة ومحاولة وقف المهرجان نهائيّاً، في حين التفّ حولهما منظّمو المهرجان برئاسة الشاعر محمود شرف ومجموعة من المثقفين والمبدعين منهم المترجم سيد إمام وآخرون، وناهضوا من خلال هذه الأزمة فكرة الوصاية الدينية والأخلاقية والمجتمعية، وادّعاء الشرف والفضيلة، من جانب "مندوبي جماعة الأمر بالمعروف، وشرطة الآداب".
شهدت الحدائق والساحات والمنابر الثقافية المفتوحة معارض جماعية دولية وأسابيع فنية تخصصية احتضنت أعمال "الكوميكس"، الفن الشابّ الفتيّ، الذي نشأ منذ بداياته "خارج السيطرة"
ولعل تلك الواقعة تكشف أن سلطة المؤسسات الرسمية بمصر، السياسية والدينية وغيرها، ليست وحدها التي تعمل على فرض الكمامة على الآداب والفنون، فالمناخ المحيط برمّته أقرب إلى التحالف مع المحافظة والتحنّط والتكميم، وذلك بفعل التغذية الفوقية والأبوية للرجعية ودعمها وتوطيدها في مفاصل البلاد وفي الموروث العام عبر عقود متواصلة. ومن ثم، فإن تجرؤ القصيدتين المشار إليهما قد بات بوصف الشاعر البيومي محمد عوض، أحد المعترضين على هذا التجرؤ، بمثابة "شجاعة الإعلان عن الفحش العاهر".
مفارقات حادّة
ولم يسلم الكاريكاتير والكوميكس بدورهما من كمامات الخوف في عروضهما الأخيرة ومعارضهما الجماعية بساحات الأوبرا ومكتبة القاهرة الكبرى ومتحف محمود مختار وغيرها من الأمكنة المفتوحة. ومن المفارقات، أن بعض رسوم ملتقيات الكاريكاتير والكوميكس الدولية التي شهدتها مصر خلال الأشهر الماضية لجأت إلى السخرية من كمامات كورونا التي باتت سمة للعصر، في أعمال هزلية ضاحكة، في حين أن فنّي الكاريكاتير والكوميكس نفسيهما قد وقعا أسيرين للكمامة المقيّدة للتعبير، متخليين عن ملامحهما الأصيلة كنافذتين عملاقتين للاحتجاج والتهكم والسخرية بلا حدود، لاسيما في مجال النقد السياسي والتصدي للقوى السلطوية ومناصرة الشعب في أزماته وقضاياه العادلة.
ولعل عناوين أهم معارض الكاريكاتير الجماعية، المحلية والعربية والدولية، في مصر خلال الفترة الماضية تبلور هذا الابتعاد المقصود عن الشؤون الحساسة والأمور الشائكة، فهناك مناطق معتدلة ودافئة فقط هي المتاحة للتحركات الفنية غير الخطرة، أما المعارك الجادة والمناطق الملتهبة فلم يعد لها مجال، مع أنها هي التي صنعت تاريخ الكاريكاتير عبر عقود من الزمن، وهي التي عززت نهوض الكوميكس في فترات المدّ الثوري المصري والعربي كفن تجريبي لا يتوقف عن المشاكسة والابتكار والتأجج والانفجار.
سلطة المؤسسات الرسمية بمصر، ليست وحدها التي تفرض الكمامة على الآداب والفنون، فالمناخ المحيط برمّته أقرب إلى التحالف مع المحافظة والتحنّط والتكميم
من تلك المعارض، التي سُمح بها لأنها لا تُخشى عقباها، لفنّ الكاريكاتير، الذي لم يعد طلقات رصاص تستهدف تعرية الحقيقة وفضح الزيف والمناداة بالحقوق وإعلاء شأن الضمير الجمعي عالياً، فعاليات مناسباتية من قبيل: رمضانيات، كورونيات، خروف العيد، وغيرها.
وحتى المعرض الجماعي الذي حمل عنوان "بهاجيجو وشركاه" (نسبة إلى بهجت عثمان أحد أساطين الكاريكاتير السياسي)، في كانون الأول/ديسمبر العام الماضي، فقد جاء بغير أنياب ومخالب، إذ استعيدت فيه أعمال بهجت عثمان (1931-2001) ورفاقه وتلاميذه بعد "فلترتها" وانتقاء نماذج هادئة منها، تدور حول ملامسة الشؤون العامة ومعالجة السلوكيات الفردية والعائلية الخاطئة، وتبدو بعيدة الصلة بالضرورة عن مستجدات اليوم الحالي.
بدورها، جاءت سلسلة المعارض النسوية التي شهدتها ساحة مكتبة القاهرة الكبرى، وأحدثها في آذار/مارس الماضي لرابطة رسّامات الكاريكاتير، متمحورة حول قضايا المرأة، وعلى رأسها التنمر والتحرش والعنف الأسري وما إلى ذلك، وهي كلها كرنفالات للبسمات المجرّدة، المحملة بالتهكم الطريف، والانتقاد الاجتماعي المشروط بأٌقصى تقدير، إذ لم يعد يتبقى من سمات الكاريكاتير إلا القليل، بعد تكميمه وحصره على هذا النحو.
وكذلك الحال في الكوميكس، الذي اتجه لدى مبدعيه الجدد، ومنهم أحمد عبد المحسن، محمد وهبة الشناوي، إسلام أبو شادي، عمرو عكاشة، فريد ناجي، وغيرهم، إلى الأقنعة والرموز والصيغ المراوغة وغير المباشرة في الانتقاد السياسي الرمزي، تفادياً للصدامات والمواجهات والمعارك الخاسرة.
وبعد مرحلة المعارض الكبرى المفتوحة التي شهدت دورات "كايرو كوميكس" المتتالية في حديقة متحف محمود مختار، وأسابيع القاهرة للكوميكس، تقلصّت فعاليات "الفن التاسع" إلى أضيق الحدود، وانحسرت في قالب الاجتماعيات، من قبيل ذلك المعرض الهادف إلى دعم المساواة بين الجنسين، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، برعاية الوكالة الإسبانية للتعاون الدولي من أجل التنمية بالقاهرة، وما إلى ذلك من معارض افتقر فيها الكوميكس إلى هويته التحريضية الاشتعالية، وغابت شحناته الخلاقة ووسائله المغايرة في تحريك المشهد من خلال النقد اللاذع والاحتجاج الصاخب وإزاحة المألوف.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
Ahmad Tanany -
منذ يومتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ 3 أياملا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ 6 أيامأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ أسبوعمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...
Nahidh Al-Rawi -
منذ أسبوعتقول الزهراء كان الامام علي متنمرا في ذات الله ابحث عن المعلومه