أثناء زيارتي الأخيرة لتونس العام الماضي، كانت أحد أكثر الصباحات إبهاجاً هي تلك التي كانت تبدأ على الإيقاعات الشمال إفريقية البديعة، من مجموعة عازفين يجلسون في منتصف شارع الحبيب بورقيبه، أسفل الفندق الذي أقيم فيه.
لم يكن جديداً علي تواجد فنانين في الشارع، فقد شاهدته مراراً مع سنوات ثورة يناير الأولى، إلى أن اختفى تماماً، سواء كأنشطة فردية في الشوارع و محطات المترو، أو بتوقف فعاليات 'الفن ميدان' نهائياً في أغسطس 2014، ولكن تونس استمرت في استثمار زخم ثورتها حتى الآن، بوجود فناني الشارع، غرافيتي الجدران، عروض راقصة بالطرقات والميادين.
الغرافيتي من السياسة إلى البيزنس
تستذكر سارة سيد، فنانة غرافيتي مصرية، بشيء من الألم والحسرة، السنوات الأولى بعد ثورة يناير 2011، تقول لرصيف22: "الجرافيتي الذي يحمل شعارات سياسية أو أفكاراً ثورية لم يعد له مكان الآن، بعد تسع سنوات من الثورة، تم محو معظم الجداريات التي كانت موجودة في مدينتي المنصورة مثلما حدث في معظم الشوارع بالقاهرة وميدان التحرير".
وتشير سارة إلى تأثر مزاج الناس بمناخ التخويف الذي ينشره الإعلام المحلي حجة الحرب على الإرهاب، تقول: "المجال العام لم يعد يسمح بنزول فناني الجرافيتي إلى الشارع نتيجة لرفض المواطنين ومنعهم للفنانين، خوفاً بأن تكون رسوماتهم تحمل أفكاراً يعتبرونها معادية للدولة، أو لرفض الجهات الأمنية منح تصاريح لرسامي الجرافيتي أو القبض عليهم".
في النهاية، ذهبت سارة بلوحاتها إلى جدران المعارض، بدلاً من الشوارع، والمساحة المتاحة لفنان الغرافيتي في مصر "مقصورة على الاستخدام التجاري فقط، وليس فناً ثورياً احتجاجياً سياسياً كما كان أيام الثورة، حيث يفضله أصحاب الكافيهات محال الملابس والمطاعم، لتزيين جدران مشروعاتهم التجارية".
ذهبت سارة بلوحاتها إلى جدران المعارض، بدلاً من الشوارع.
ويشاركها الأسى الشاعر زين العابدين فؤاد، أحد مؤسسي مشروع "الفن ميدان"، وهو مهرجان فنّي جماهيري كانت تُقام فعالياته في ساحة "قصر عابدين" الأثري في القاهرة.
يعبّر العم زين، كما يناديه محبوه في مصر، عن استيائه الشديد من توقّف هذا المهرجان قائلاً: "كانت فترة خصبة جداً للإبداع، تولد عنها منذ عامها الأول المئات من الفرق الغنائية 'كالأولة بلدي'، 'بهية'، 'حالة'، وأكثر من 20 فرقة لمسرح الشارع التي جالت المحافظات المختلفة، بل كان المهرجان أشبه بمساحة حرة للفنانين الشباب للتدريب والتجريب لتقديم أعمالهم الفنية الأولى، وامتد تأثيره لينطلق المُغنون لمحطات المترو يعزفون على الجيتار أو العود، وسط ترحيب من المواطنين".
"الجرافيتي الذي يحمل شعارات سياسية أو أفكاراً ثورية لم يعد له مكان الآن، بعد تسع سنوات من الثورة، تم محو معظم الجداريات التي كانت موجودة في المنصورة، وأصبح مقتصراً على الترويج للمحلات التجارية فقط"
يصمت عم زين ليعود قائلاً: "النهارده حد يقدر يمسك عود ويغني بالشارع؟ شوفي هيحصل له إيه"، في إشارة للملاحقة الأمنية لأي تجمعات جماهيرية، خاصة بعد صدور قانون التظاهر عام 2013.
يفسّر فؤاد ما يسميه "مصادرة الفضاء العام" في مصر، قائلاً لرصيف22: "مصادرة الفضاء العام الآن ليس له علاقة بالثورة، ولكن يعود لرؤية النظام السياسي والأجهزة الأمنية، إن الأساس في إدارة هذه المرحلة هو الأمن فقط، ومن ثم نستطيع إجراء مقارنة بين ما وصل له فن الشارع بين مصر وتونس بعد تسع سنوات من الثورة، فالأخيرة حافظت بقوة على الزخم الفني الثوري بالإبقاء على استخدام الفضاء العام قوياً مستمراً حتى الآن عكس مصر".
"لدينا العديد من المواهب الفنية، والثورة المصرية تمخض عنها فنها الخاص، عندما يكون المناخ حراً يخلق مباشرة أشكالاً مختلفة من الإبداع، سواء في المسرح أو السينما، فيغنى الشاعر مصطفى إبراهيم قصيدة "فلان الفلاني" في الفن الميدان، وتتنقد فرقة "حالة" دستور جماعة الإخوان "سرقوا الدستور ياشمنطة مع إنه كان في الشنطة"، ويُنظم المثقفون والفنانون فعاليات مختلفة، كائتلاف الثقافة المستقلة، ومئات الندوات والأمسيات ومعارض الفن التشكيلي، ولكن كل هذا الحراك الثقافي توقف الآن، ليس لنقص الإبداع ولكن لنقص حرية الإبداع"، يقول العم زين.
"يصادرون الفن بحجة الإرهاب"
يشدد العم زين على الاستراتيجية الخاطئة التي يتبناها النظام في مواجهة "الإرهاب"، يقول: "من يُريد محاربة الإرهاب عليه أن يُجفف منابعه الفكرية المنتشرة في مناهج مدارسنا، وحرمان الطفل من المادة الوحيدة الذي يُعبر فيها عن رأيه وهي التربية الفنية، يجفف المنابع في جهاز إعلامنا، جوامعنا، أزهرنا، وبعض كنائسنا، فالدولة تحتاج للفن لمساعدتها في اجتثاث جذور الإرهاب وليس العكس، مصادرته".
توقفت فعاليات "الفن ميدان" أغسطس 2014، بعد أربع سنوات من النشاط الثقافي المتدفق، سواء عروض مسرح، سينما، أو موسيقى، ولكن تصريحات المسؤولين لم تتوقف في كل مناسبة للصحافة، بعدم رفضهم لعودته، ولكن المشكلة تتعلق باستخراج التصاريح.
يقول العم زين: "نفذنا كل الخطوات المطلوبة، وذهبنا لاستخراج التصاريح من المحافظة التي أعلنت عن عدم مسؤوليتها بذلك، والحصول عليها من مديرية أمن القاهرة التي رحبت، وقالت "لسنا ضد الفن ميدان ولادنا بيحضروا ويتبسطوا"، لكن يُفضل نقله لمكان أكثر تأميناً بجوار المتحف الزراعي بالدقي، وعندما لجأنا لمديرية أمن الجيزة تنصلت هي الأخرى من مسؤوليتها، وأحالتنا لإدارة الشؤون العامة بوزارة الداخلية التي ردت "معندناش تصاريح لكم".
يختتم فؤاد حديثه بحزن على حرمان أهالي عابدين والمحافظات المختلفة من فعاليات "الفن ميدان"، وفنون الشارع بصفة عامة، قائلاً: "الفن فرحة وبهجة وكانت سعادة المواطنين بها غامرة، ولكن لا شيء يُقدم لهم الآن".
"انكسر الحاجز بين السلطة والناس"
ويرى محمد عبد الفتاح، أستاذ فن الحكي المسرحي ومؤسس "بيت الحواديت"، ورش تدرب الجمهور على أداء الحكايات، أنَ "فنون الشارع تعود لجذور تاريخية بعيدة، ولكن لاقت صدى أكبر بالتزامن مع اندلاع ثورة يناير، لأن من قدموا هذه العروض آنذاك لم يكونوا عاملين بالفن بشكل أساسي، بل كانت مجموعات من الناس وجدت طريقة للتعبير عن همومها ومطالبها بشكل عفوي، في عروض مسرح الشارع، بصرف النظر عن كونه عملاً مسرحياً محترفاً أم لا".
يضيف عبد الفتاح في حديث لرصيف22 أن"الفن ميدان" كانت "أهم تجربة ثقافية وفنية ظهرت مع ثورة يناير، صنعت زخماً فنياً وجرأة، وأتاحت الفرصة للعديد من الناس لتقديم أنفسهم للجمهور وأصبحوا معروفين، وكانت ظاهرة جميلة، فلأول مرة ينكسر الحاجز بين السلطة والجمهور، فنرى وزير الثقافة يجلس على الأرض للاستماع لإحدى الفرق الموسيقية أو مشاهدة عرض مسرحي، وكان الأهم هو عدوى انتقال الفاعليات الفنية، فشهدت أحد السنوات تنظيم "الفن ميدان" في 14 محافظة في ذات التوقيت، الذي لم يعد موجوداً الآن".
ويقول عبد الفتاح أنه توقع باكراً توقف هذه الفاعليات وعلى رأسها "الفن ميدان" منذ انطلاقها 2011، "لأن دائماً الفن الذي يُقدم وسط الناس مرفوض من أي نظام سياسي".
متظاهرون غاضبون وفنَّانون حالمون
تبدو الصورة في تونس، مقارنة بشقيقتها مصر، مختلفة، فالشارع لايزال يكتسب زخمه الفني الخاص، ويحرض على مبادرات تُقدم للناس في الشوارع، بحسب من تحدثنا معهم.
ولكن يلاحظ عدنان جدَي، باحث في جامعة تونس وناقد فني، أن فنون الشارع تكاد تكون مقتصرة على العاصمة تونس، وأنها لا تزال تمتدّ شيئا فشيئا إلى المناطق الداخلية.
يحكي جدي عن تأثير ثورة الياسمين على فنون الشارع التونسية، بلغته الأكاديمية لرصيف22 قائلاً: "اكتساح هذه الممارسات الفنية-العمرانية إثر اندلاع الثورة في 2011، انحصر بشكل ما في حدود الفضاءات العامّة بالعاصمة، قبل أن يمتدّ شيئاً فشيئاً إلى بقية المناطق الداخلية. وفّرت هذه الفضاءات مجالات مرئية وخطابية قبل كلّ شيء، ترافقت فيها الشعارات بملصقات استذكارية لشهداء الثورة. بالتوازي مع هذه الموجة، ظهرت موجة أخرى كانت مجموعة 'أهل الكهف' سبّاقة فيها، بمعيّة بعض الطلبة وخرّيجي الفنون الجميلة بتونس، ممّن استثمروا تكوينهم الأكاديمي لتوسيع مجالات التدخّل الفنّي في المناطق العمرانيّة. بالإضافة إلى مجوعة 'زواولة' التي انزاحت نسبيّاً عن التعبيرات الجماليّة الرائجة خلال 2011-2012، دون أن تتنازل قيد أنملة عن سلوك الغرافيتي البصري الخطابي، لتركّز اهتمامها في المطلبية الاجتماعية أساساً ثم السّياسية، و ذلك باسم الفقراء و المهمّشين".
"استفاد فن الشارع في تونس من الثورة لأنها منحته حرية كبيرة في التعبير عن مختلف القضايا، فولدت مجموعات غنائية مثلاً من قلب اعتصامات القصبة، وكذلك مجموعات مسرحية مثل عروض جمعية "فني رغماً عني"
ويشير الباحث التونسي إلى ظهور موجة فنية ثالثة في عام 2014، وهي السنة التي بدأ فيها الانحسار في المجال العام في مصر، أطلقها خطّاطون وفنّانو الغرافيتي الشبّان من تونس، "مّمن زاوجوا بين الممارسة الشكلية للخط العربي وممارسات الديكور التزويقية، على سبيل الذكر: إنكمان، دابرو، شوف والسّيد، على الرغم من أنها لم تكن بمستوى جمالي رفيع، إلا أنها لا تخلو من جدية".
حبيب الطرابلسي، صحفي تونسي متخصص في الشأن الثقافي، لاحظ بحكم عمله ومتابعاته الصحفية أن كل الفنون تأثرت بعد الثورة التونسية، وليس فنون الشارع فقط، فالثورة بالنسبة له "نظَّرتً لمناخ الحرية، وانفتاح المجال العام الذي كسبناه بعد سقوط بن علي، فانطلقت المجموعات الفنية سواء في المسرح، الموسيقى، الغناء والجرافيتي في الشارع، وتكسرت كل الحواجز التي كانت موجودة من قبل نظام ما قبل الثورة، لتعبر عن هموم ومطالب المواطن التونسي وقضاياه، ونجحت في تحقيق هذا الوصل المقطوع بين الثقافة والفن والمواطن العادي".
ويلفت الطرابلسي النظر إلى العلاقة التي نشأت بين الاحتجاجات التي لايزال الشارع التونسي يضج بها، وفنون الشارع المختلفة، يقول لرصيف22: "إن فن الشارع استفاد من الثورة لأنها منحته حرية كبيرة في التعبير عن مختلف القضايا، فولدت مجموعات غنائية من قلب اعتصامات القصبة، وكذلك مجموعات مسرحية مثل عروض جمعية "فني رغماً عني"، وكذلك استفادت الثورة من فن الشارع لأنه كان طريقتها للتعبير عن آراء المحتجين والمتظاهرين وشباب الثورة في اعتصامات القصبة (1) و (2) واللذين أديا لسقوط حكومة آنذاك".
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...