اشتهرت في الثقافة الإنسانية خمس تفاحات: تفاحة آدم، والتفاحة الذهبية في الإلياذة، وتفاحة بياض الثلج، وتفاحة نيوتن، وتفاحة آبل، لكن لنا في تراثنا التفاحة التي نقش وصوّر وكتب عليها المحبّون والشعراء أجمل الكلام.
لم يكن الشاعر شيلر سبّاقاً في ارتباط الإبداع الشعري لديه بأكل التفاح، فقد فتن التفاح قبله شعراء ولغويين في التراث العربي. فها هو أبو علي الفارسي يخالف غيره من النحويين إلى أنّ ( تاء التفاح) غير أصلية، وكأنّه أراد أن يجسّد المسمّى بالاسم، فالتفاح طعمه طيب، ورائحته جميلة، ومنظره رواء، فقال: "أخطأ من جعل التاء أصلية فيه. وبابه أن يكون في (ف و ح) فيكون أصله في الفُوح وهي الرائحة الطيبة".
قال ابن الكتبي: قال بعضهم: مررت يوماً ببعض شوارع القاهرة وقد ظهرت جمالٌ، حمولها (تفاح فتحي) من الشام، فعبقت روائح تلك الحمول، فأكثرت التلفت إليها، وكان أمامي امرأة سائرة، ففطنت لِما دخلني بتلك الرائحة، فأومأت إليّ وقالت: "هذه أنفاس ريّا جلّقا" وما قصدته تلك المرأة من قولها؛ بأنّ هذه الرائحة الطيبة التي فاحت من تفاح الشام.
ولم يكن جواب المرأة إلّا من قصيدة للشاعر السلمي الدمشقي الذي هرب من دمشق إلى القاهرة بسبب سلاطة لسانه: يا نسيماً هبّ مسكاً عبقا/ هذه أنفاس ريّا جلّقا.
وقد ذكر النويري التفاح الشامي الذي يضرب به المثل في الحسن والطيب. وكان يحمل منه إلى الخلفاء كلّ سنة ثلاثون ألف تفاحة. وبذلك أشار الصنوبري: أرى الشامَ جاد بتفاحِه/ لنـا والعـراقُ بـأُتـرُجِّه.
اشتهرت في الثقافة الإنسانية خمس تفاحات: تفاحة آدم، والتفاحة الذهبية في الإلياذة، وتفاحة بياض الثلج، وتفاحة نيوتن، وتفاحة آبل، لكن لنا في تراثنا التفاحة التي نقش وصوّر وكتب عليها المحبّون والشعراء أجمل الكلام
اشتهر التفاح الشامي، وأصبح استعارة يتجاذبها الشعراء. وأنشد صريع الغواني مسلم بن وليد الأنصاري: تُفاحَةٌ شامِيَّةٌ/ مِن كَفِّ ظَبيٍ غَزِلِ/ ما خُلِقَت مُذ خُلِقَت/ تِلكَ لِغَيرِ القُبَلِ/ كَأَنَّما حُمرَتُها/حُمرَةُ خَدٍّ خَجِلِ.
ومثله فعل ابن المعتز: تفاحةٌ معضوضةٌ/ كانت رسولَ القُبَل/كأن فيها وَجْنَةً/ تَنقَّبَت بالخجل/ تناولَت كفِّي بها/ ناحيةً مِن أملي/ لستُ أرَجِّي غيرَ ذا/ يا ليت هذا دامَ لي.
كتب جبران في شعره بالماء: "إنّما الناس سطورٌ كتبت لكن بماء"، وكتب الشعراء العرب في التراث العربي أشعارهم على خدود التفاح لطيب رائحته، وبهجة لونه ولطف موقعه في الإهداء إلى الحبيب. وكانوا يكتبون عليه بماء الذهب إشارة إلى الصفرة والنحول من الوجد، أو بالأسود إيذاناً بالنفور والصدّ.
ومن الشعراء الذين اشتهروا بأشعارهم عن التفاح والكتابة عليها، كان أبو الجعد المعروف بشاعر الزنج. وقد جاء بكتاب "فوات الوفيات"، بأنّ أبو الجعد كان وقّاد أتون في حمام وحدث أن رأى فتى قد ولّهه، يقلّب تفاحة بيده، ويكاد لا يفارقه التفاح في أوان إثماره، فقال: تفاحة أكرمها ربّها/ يا ليتني كنت تفاحة/ تقبل الحبّ ولا تستحي/ من مسكه بالكفّ نفاحة/ تجري على خديه جوالة/ نفسي إلى شمّك مرتاحة.
فلمّا سمع الفتى ذلك رمى بالتفاحة التي بيده، فكتب له أبو الجعد على تفاحة بماء الذهب: إنّي لأعذركم في طول صدكم/ من راقب الله أبدى بعض ما كتما/ لكن صدودكم يؤذي لمن علقت/ به الصباة حتى ترجع الكلما.
فتن التفاح شعراء ولغويين في التراث العربي
فبادله الحبيب تفاحة بتفاحة مكتوب عليها بالمداد الأسود: تصدّ عنكم صدود المبغضين كلم/ فلا تردوا إلينا بعد بعدها كلما/ وما بنا الناس لو أنا نريدكم/ فاصبر فؤادك أو متْ كمدا.
حزنت روح أبي الجعد، وفهم من صدود الفتى أنّه يزدري مهنته، فبدّلها وأصبح حارساً بعض بساتين التفاح في بغداد، ومن ثمّ صار يختار أحسن التفاح ويتلطّف بإيصاله إلى الفتى الذي شغفه حبّاً. وممّا كتبه على التفاح الأصفر بالأحمر: تفاحة تخبر عن مهجة/ أذابها الهجر وأضناها/ يا بؤسها ماذا بها ويلها/أبعدها الحب وأقصاها.
وكتب بالحبر الأبيض على خدّ التفاح الأحمر: نبتّ في الأغصان مخلوقةً/ من قلب ذي شوق وأحزان/ صفرني سقم الذي لونه/ يخبر عن حالي وأشجاني. وعلى أخرى كتب: تفاحةٌ صيغت كذا بدعةً/ صفراء في لون المحبينا/زيّنها ذو كمدٍ مدنف/ بدمعه إذ ظل محزونا.
ها هو أبو علي الفارسي يخالف غيره من النحويين إلى أنّ (تاء التفاح) غير أصلية، وكأنّه أراد أن يجسّد المسمّى بالاسم، فالتفاح طعمه طيب، ورائحته جميلة، ومنظره رواء، فقال: "أخطأ من جعل التاء أصلية فيه. وبابه أن يكون في (ف و ح) فيكون أصله في الفُوح وهي الرائحة الطيبة
لم يكن أبو الجعد هو من ابتكر الكتابة على التفاح، ففي كتاب الفلاحة لقسطو بن لوقا (تعريب قسطا بن رومي البعلبكي، مطبعة الوهيبية في مصر)، وفي كتاب الفلاحة لأبي عبد الله محمد بن الحسن، وفي فصل من كتاب سرّ السمّار في ليالي الأثمار في وصف ثمار سائر الأشجار؛ ورد العديد من الطرق للكتابة على التفاح نذكر بعضها: أن يُعمد إلى الشمع فيُداف، وتصنع منه التماثيل والحروف أو النقوش، ومن ثمّ تلصق على التفاحة وهي خضراء قبل احمرارها.
أو يميّع الشمع ويكتب به مباشرة على التفاحة قبل نضوجها، فإذا تمت، بقي ما تحت الشمع أصفر والباقي من اللون في جسم التفاحة أحمر. وكان ينقش على التفاح الأحمر بالمداد وهو أخضر ويترك لينضج ومن ثمّ يزال الحبر، فيكون ما تحته أبيض. وفي طريقة أخرى كان يقصّ الورق على شكل الكتابة المراد نقشها على جلد التفاح، ويلصق ويترك حتى تنضج الشمس الثمرة، فينزع الورق، وبالتالي يصبح لون ما تحته مخالفاً للون التفاحة.
لقد كانت الكتابة على التفاح مشهورة، وخاصة عند أصحاب الظرف والعشق. وقد جاء في كتاب الأغاني أنّ محمد بن أمية قد تعشّق جارية اسمها خِداع، أهدت له تفاحة مفلّجة، منقوشة، مطيّبة حسنة، فكتب إليها: خِداع أهديت لنا خدعةً/ تفاحة طيبة النشر/ ما زلت أرجوك وأخشى الهوى/ معتصماً بالله والصبر/ حتى أتتني منك في ساعةٍ/ زحزحت الأحزان عن صدري/ حشوتها مسكاً ونقشتها/ ونقش كفيك من النحر/ سقياً لها تفاحة أهديت/ لو لم تكن من خدع الدهر.
لم يكتف الأدباء بالكتابة على التفاح، بل ذهبوا إلى التصوير عليه، وقد جاء في الأغاني بأن ابن العميد كانت له مهارة كبيرة في التصوير على التفاح. ويذكر ابن مسكويه: "ولقد رأيته، أي ابن العميد، يتناول في مجلسه الذي يخلو فيه إلى ثقاته وأهل أنسه التفاحة وما يجري مجراها، فيعبث بها ساعة ثمّ يدحرجها وعليها صورة وجه قد خطّه بظفره. لو تعمّد لها غيره بالآلات المعدة وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها ولا تأتى له مثلها".
لقد تولّع العرب بالتفاح ورأوا فيه أجمل الهدايا. وجاء في الأغاني بأنّ المأمون غضب على جارية له، فلما طابت نفسه بالغناء وجهت له بتفاحة عنبر مكتوب عليها بالذهب: "ياسيدي: أسلوت؟"
لقد تولّع العرب بالتفاح ورأوا فيه أجمل الهدايا. وجاء في الأغاني بأنّ المأمون غضب على جارية له، فلما طابت نفسه بالغناء وجهت له بتفاحة عنبر مكتوب عليها بالذهب: "ياسيدي: أسلوت؟".
ومن ذلك، بأنّهم قد كتبوا على تفاحة من عنبر: ليس شيءٌ يُتهادَى/ مثلَ تفَّاح مُكتَّب/ يا مُنَى قلبي ما تَرْ/ ثى لِذي عشقٍ مُعذَّب.
وقد قادهم شغفهم بالتفاح إلى أن يهندسوا نوافير المياه بطريقة تبقى فيها التفاحة معلقة تدور في رشاش الماء المندفع إلى الأعلى: وفوارةٍ سائلٌ ماؤها/ بتفاحةٍ مثل خدِّ العشيق/ كمِنْفَخَةٍ مِن رقيق الزجاج/ تُدارُ بها كرةٌ مِن عقيق.
هذا غيض من فيض عن الكتابة على التفاح، ولو وصلنا ما كتب الجاحظ في كتاب "التفاح" بالإضافة إلى ما خطّه الوشّاء في كتابه الموشى الذي استندت إليه في كتابة هذا المقال، لعرفنا الكثير عن فنون الكتابة على فاكهة التفاح وغيرها من الفواكه.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...