أعلنت لجنة تحكيم جائزة البوكر برئاسة محسن جاسم الموسويّ عن أسماء المرشّحين الذين بلغوا اللائحة الطويلة هذا العام، فبدأت القراءات والتكهّنات والمقالات حول هويّة المرشّحين الستّة الذين سينتقلون إلى اللائحة القصيرة التي يُعلن عنها بعد حوالي شهرين. ومن بين الأسماء المرشّحة اسم الكاتب اللبنانيّ البارز جبّور الدويهيّ الذي ليس غريبًا أبدًا عن نظام هذه الجائزة، هو الذي بلغ اللائحة القصيرة مرّتين أوّلاً عن "مطر حزيران" العام 2008، ثمّ عن "شريد المنازل" العام 2012، كما أنّه وصل إلى القائمة الطويلة العام 2015 عن "حيّ الأمريكان.."
وتشهد الجائزة هذه السنة منافسة شديدة بين أسماء مهمّة جدًّا لها ثقلها في المشهد الأدبيّ العربيّ من بينها سليم بركات عن روايته "ماذا عن السيدة اليهودية رحيل؟"، وخالد خليفة عن "لم يصلّ عليهم أحد"، وعالية ممدوح عن التانكي" ويوسف زيدان عن "فوردقان" وغيرهم.
مفاجآت سردية مزعزعة
بعد حوالي خمسة وعشرين عاماً على صدور عمله الروائي الأول "ريّا النهر" (1995)، ما يزال الكاتب والروائي اللبناني جبّور الدويهي يتقن مداعبة قارئه/قارئته بمفاجآت سردية مزعزعة، ففي روايته "ملك الهند" الصادرة عن دار الساقي 2019، لا ملكاً ولا هنداً ولا شيء من هذا القبيل.
عنوان محنّك وعبارة مدروسة ترد مرّة واحدة في النص على لسان إحدى الشخصيات، عبارة تغش وتعود بجذورها إلى وصف ذلك الذي يملك السعادة بين أصابعه. فملك الهند، أي الرجل السعيد، ما هو إلا زكريا مبارك، البطل الذي بلغ أسمى درجات السعادة لكنه في الوقت نفسه الرجل الضحية الذي عاد حزيناً مهزوماً من بلاد المهجر ليموت في فيء شجرة التفاح.
ويفتتح الدويهي روايته التي لا تتعدى المئتي صفحة بجريمة تبدو في البداية بسيطة لكنها تتجلى معقدة متشابكة الحبال. جريمة قتل زكريا مبارك، المهاجر المسيحي الذي عاد إلى قريته تل صفرا، بعد سنوات طويلة من الغربة. ابنا عمه يريدان قتله لنيل حصتهما من الميراث، الدروز يريدون قتله لاستعادة قطعة الأرض الضخمة التي اشترتها جدته قديماً خلسة، تاجر فرنسي يريد قتله لاستعادة لوحة الرسام اليهودي مارك شاغال التي تبلغ قيمتها ملايين الدولارات، تاجر أسلحة يريد قتله بتحريض من أحد الأطراف، ومسدس ضائع سرقه رقيب المخفر ليبيعه ويعيل به عائلته. جريمة واحدة، متهمون كثر، وملك فقد مملكته عندما فقد ابنته الوحيدة في أرض المهجر.
مزيج ماهر مما يُعرف بالرواية البوليسية التاريخية تمكّن الدويهي من صقله داخل نصه: من العودة إلى الفتنة بين الدروز والمسيحيين في الجبل، إلى اللفتة الرائعة إلى الفن العالمي عبر لوحة "عازف الكمان الأزرق"، مروراً بكنز مدفون عادت به مهاجرة في السنوات التي تلت الحرب العالمية الأولى. أحداث مترابطة متسلسلة متوهجة تضع القارئ أمام دوامة جريمة وكنز وفتنة ورجل حزين مات ذات يوم أحد خريفي.
قصة عائلة وحقبة وقطعة أرض
يعرّف الناقد الفرنسي ريجيس ميساك (1893-1945) الرواية البوليسية بأنها نص سردي مكرس بمجمله، وقبل أي شيء آخر، لمهمة اكتشاف منهجي وتدريجي لظروف وقوع حادثة غامضة وذلك عبر وسائل منطقية، ويقوم هذا النص على ستة عناصر هي: الجريمة، والدافع، والمذنب، والضحية، وطريقة التنفيذ، ومسار التحقيق.
ومن يقارن تعريف ميساك بخصائص رواية الدويهي يرى إلى أية درجة تمكّن الدويهي بحنكته السردية وسنوات خبرته الروائية من تطويع نصه وأحداثه وشخصياته لتنضوي روايته تحت راية هذا التعريف، إنما ليس تماماً. ليس تماماً بمعنى أن الدويهي نجح في خداع قارئه مرة جديدة بمنحه جريمة وضحية إنما بدوافع متعددة ومتهمين كثر، وتحقيق يتلاعب بالأدلة لينهك القارئ والضحية والمذنب في الوقت نفسه.
كنز مدفون، لوحة مسروقة، وجريمة غامضة... خيوط رواية "ملك الهند" للكاتب جبور الدويهي التي صدرت عام 2019، ودخلت في القائمة الطويلة لـ"جائزة بوكر العربية" لعام 2020
"بالرغم من فصول العنف التي نعيشها وعشناها في تاريخنا الحديث، إلاّ أننا لم نشهد الكثير من الجرائم المجهولة الفاعل والغامضة الدوافع"... فيقدم لنا جبور دويهي في روايته "ملك الهند" جريمة ومحقّقاً يرافقه طبيب شرعي ورقيب في قوى الأمن الداخلي، في عقدة بوليسيّة، وحبكة لا تشي بلغزها
فيحترم الدويهي تعريف الرواية البوليسية لكنه يتلاعب بحبالها. فيضيف أولاً المنحى التاريخي بالكلام عن الحرب العالمية الأولى والهجرة اللبنانية والفتنة بين الدروز والمسيحيين، ثم يضيف المنحى الفني عبر إدخاله عنصر اللوحة الفنية المسروقة للرسام الذائع الصيت مارك شاغال، والتي تتنقل بين القارات من فرنسا إلى الولايات المتحدة عودة إلى فرنسا فتل صفرا، وأخيراً يضيف المنحى الاجتماعي بتوقفه عند النزاعات العائلية حول الميراث وخصائص الطوائف والعادات والتقاليد في الأرياف اللبنانية. ثلاثة عوامل يوظفها الدويهي في نصه البوليسي ليرفعه من خانة الرواية البوليسية العاديّة إلى الرواية البوليسية التاريخية الزاخرة بالتفاصيل والمعلومات والأخبار والتي تترك القارئ على جوعه وفضوله ونهمه.
وبينما تنتهي الروايات البوليسية بطمأنينة إيجاد القاتل أو المذنب بعد سلسلة من التحقيقات والتحليلات والاستنتاجات، يمنح الدويهي قارئه في نهاية نصه مفاجأة متوهجة تمنح السرد معنى وقيمة. يبتعد الدويهي عن النهاية المتوقعة ويستثمر كل تفصيل قدمه أثناء سرده ليزيد من حيرة القارئ. من تراه قتل زكريا مبارك؟ وبعد الكم الهائل من القصص والأخبار والعودات إلى الوراء يضم الدويهي تفاصيله كلها في باقة من الاحتمالات تمنح النص توهجه وأناقته ونهايته المتينة، عملاً بما قاله الكاتب الأميركي بول أوستر: "في الرواية البوليسية الجيدة تؤدي كل كلمة وكل جملة دوراً ومعنى، فلا يرد أي تفصيل هباء".
شخصيّات قابعة في قبضة الراوي
يهيمن الدويهي على نصه من دون خجل، فهو يتمتع بسطوة لا مثيل لها على نصه وشخصياته وتفاصيل الزمان والمكان والأحداث. فتظهر عناية الدويهي بتفاصيل نصه منذ السطر الأول، تظهر قبضة راوي الدويهي محكمة على التفاصيل كلها، فهو راوٍ عليم بكل شيء، يعرف تاريخ الأمكنة وأهلها وقصصهم وماضيهم وكيف وصلوا إلى حيث هم الآن. يعرف الروابط العائلية والهجرات والخلافات، يعرف منطقة تل صفرا ومناخها وزوارها ونزاعاتها الداخلية. يمسك راوي الدويهي بتفاصيل المشهد وينقله بحذافيره ككاميرا لا يخفى عليها شيء، حتى أنه يعرف طبيعة المنطقة والمزروعات التي تنمو فيها: "عاد زكريا بن إبراهيم مبارك في مطلع الصيف مع موسم الكرز وجبنة الماعز. عاد إلى مسقط رأسه تل صفرا الجالسة في منبسط على علو 700 متر، تصح فيها ثمار الساحل والجرد معاً، ويقصدها في سنوات الهدوء سياح عرب من دول الخليج. تضم مدرسة ثانوية رسمية تحمل اسم شاعر باللغة العامية من أبنائها، وأخرى خاصة بإدارة الأخت كونستانس من راهبات القلبين الأقدسين تستقبل الإناث والذكور، ومخفراً لقوى الأمن الداخلي يداوم فيه رقيب وثلاثة عناصر، ومستشفى حكومياً..."
يشعر القارئ أن راوي الدويهي يعرف الأمكنة ككف يده. لا شيء يفلت من زمام قبضته. حتى البنية القائمة على تسعة عشر فصلاً يتفاجأ القارئ بها متماسكة متينة، فعدد صفحات كل فصل هو عشرة ما عدا فصل يقع في الوسط يجري فيه التحقيق بالجريمة (الفصل10).
يعرف راوي الدويهي كل شيء ويرى كل شيء ويتأرجح بين الماضي والحاضر ويختار أن يُبقي قاتل زكريا مبارك الأمر الوحيد المستور. يُبقي الأمر الوحيد الذي يهم القارئ ويثير فضوله طي الكتمان. فيلعب الراوي لعبته بإتقان ويحمي غموض النص ولا يترك أية معلومة تفلت وتخدش وقع النهاية.
"ملك الهند" رواية تاريخية بوليسية، متماسكة ببنيتها ومشوقة بأسلوبها، ترسخ مكانة الدويهي مجّدداً قاصاً متألقاً للبنان وأريافه وأخبار أهله، وتكرسه كأحد أبرز روائيي قرننا الحالي. فالدويهي الذي يختار دوماً أن يعود بقارئه إلى السنوات الغابرة وقصصها وأخبارها، الدويهي الذي أثبت نفسه مراراً وتكراراً روائياً وحافظاً لذاكرة قرى لبنان الذهبية، يتحدّى بروايته الجديدة الرتابة السردية ويخرج بها عن مساره الروائي المتوقع، فيفاجئ قارئه بجريمة وكنز وإرث ولوحة ويتمكن من التملص من فخ التكرار الذي يقع فيه معظم الروائيين بعد عدد من الإصدارات الروائية.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يوممتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ يومينفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ يومينعظيم
Tester WhiteBeard -
منذ يومينtester.whitebeard@gmail.com
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامعبث عبث
مقال عبث من صحفي المفروض في جريدة او موقع المفروض محايد يعني مش مكان لعرض الآراء...
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعرائع