شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
تفاحة يناير... عندما أضحت ذكرى الغواية موسماً سنوياً للاكتئاب

تفاحة يناير... عندما أضحت ذكرى الغواية موسماً سنوياً للاكتئاب

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الاثنين 25 يناير 202109:10 ص

"أنا لما بدأت المهمة، كنت قادر أشوف كل حاجة بوضوح، كنت متأكد من اللي أنا بعمله، بعد كده ابتديت أحسّ إنّ أنا بشوف الصورة من ورا لوح إزاز، وبالتدريج كده ابتدت تتكون طبقة زي التراب، والمشكلة إنّ التراب ابتدا يزيد لدرجة إنّ أنا مبقتش شايف أي حاجة، صورة ضبابية والذكريات اختلطت مع الأحلام مع الأوهام مع الحقايق. الفترة الأخيرة بقيت أحلم بكوابيس، وأصحى خايف مش عارف ليه، بقيت حاسس إنّ محكوم عليا بالوحدة متعلق في الهوا لا قادر أمسك حاجة بإيديّا ولا فيه أرض تحتيّا، بقيت أسأل نفسي سؤال: أنا ليه بقيت كده؟".

هذا مما يقوله يحيى المنقباوي، ضابط الشرطة الشريف الذي قرر رؤساؤه إرساله في مهمة باسم "أرض الخوف" ليقتحم عالم تجارة المخدرات، في فيلم "أرض الخوف" الذي كتبه وأخرجه داود عبد السيد عام 1999.

مدهش ومخيف أن يسيطر عليك فيلم إلى حدّ أن يطاردك لتسأنس بصوت بطله في كل لحظات التوهة والحيرة، صوت يحيى المنقباوي التائه الباحث عن إجابات كثيرة قبل أن يختزلها جميعاً بحثاً عن إجابة لسؤال واحد: "أنا ليه بقيت كده؟".

تأخذ المنقباوي الذي جسّد دوره، ببراعة كعادته، الفنان أحمد زكي، الغواية. يقبل المهمة ليجد نفسه تائهاً بين كونه ضابط شرطة أرسل في مهمة وبين كونه كتاجر مخدرات باسم يحيى أبو دبورة يسرق ويقتل وينغمس حتى أخمص قدميه في عالمه الجديد.

اعتاد داود عبد السيّد القول إن يحيى يُشبه جيله الذي أوكلت إليه مهمة ونُسي. وأقول إننا أيضاً نشبه يحيى، نشبهه تماماً.

لم يكن أحمد، زميلي في فترة الخدمة العسكرية التي بدأتها وأنهيتها في وجوده، شخصاً يمكن أن يمرّ مروراً عادياً في حياتي. كان شاباً نحيلاً يشبه أغلب المصريين، ملامحه تميل إلى الحزن ويبكي لأبسط الأشياء والمواقف.

أحمد علّمني كيف يمكن لشاب في سنّه، عشرين عاماً وقتها، أن يتحمل مسؤولية أسرة كاملة. كان يقضي أسبوع إجازته من الخدمة العسكرية الذي يحصل عليه شهرياً في العمل باليومية في أحد المحاجر ليجمع مالاً لأسرته ويذهب ليقضي معهم يوم إجازته الأخير، ويترك لهم يوميته قبل أن يعود مجدداً إلى مكان خدمته.

رأيت أحمد في وجوه المصريين في ميادين ثورة يناير ورأيته في فرحتهم في جمعة النصر، وأقابله يومياً في وجوه مَن يلعنون الثورة ويأخذهم الحنين إلى زمن كانوا قد فرحوا لسقوطه، فأسأل نفسي سؤال يحيى: إحنا ليه بقينا كده؟ وإيه وصّلنا لكده؟

"المؤسف في هذا الوطن أن الهزائم تتكرر بالوتيرة نفسها وبالقسوة نفسها. هُزمت أجيال قبلنا أو لنقل بقدر كبير من حسن الظن، فإن الآلاف ممن يشبهوننا تاهوا بعد أن تُركوا يرسلون رسائلهم ولم يجبهم أحد"

"كان المطلوب أن أنتزع نفسي من حياتي وأهاجر إلى أرض أخرى ليست أفضل ولا أجمل ولا أهدأ لأنها لا تنبت سوى الشك والقلق والصراع والموت والخيانة والرعب والخوف، أهاجر إلى أرض الخوف"، يقول يحيى.

انتزعتنا يناير من أنفسنا، من عاديتنا. غيّرت طريقنا الذي كان من الممكن أن يشبه طريق ملايين ممّن يعيشون حياة عادية لا قلق فيها ولا أسئلة كبيرة، لا أصدقاء مسجونين أو مُهّجّرين هرباً من الخوف، ولا نوم متقطعاً، ولا إحساساً دائماً بالذنب والمسؤولية، ولا سقوطاً في بئر سحيقة من أفكار الهزيمة والإحباط. ماذا لو لم يحدث كل ذلك؟

أخذتنا الغواية وحلمنا بالعدل والحرية ولم نحصدهما، حصدنا التوهة والحيرة وجنينا دماً وخوفاً وقلقاً وهجرة وسجناً. آمنّا إيماناً راسخاً بكل قيمة خرجنا من أجلها قبل ثورة يناير وأثناءها وبعدها. أصبحنا لا نقبل بالأشياء العادية. دائماً ما أقول لصديقي الذي ترك مصر محبطاً إننا "الممسوسون بحلم يناير"، لن نعرف أبداً النظر إلى نصف الكوب الممتلئ لأننا حلمنا للناس ولأنفسنا بكوب ممتلئ عن آخره. اشتركنا مع يحيى في حب المغامرة. أتذكر نظرة يحيى وبريق عينيه حينما قضم تفاحته وأخذته الغواية وقَبِل المغامرة. رأيت النظرة نفسها في عيون كل أصدقائي، في بدايات الحلم.

"دائماً ما أقول لصديقي الذي ترك مصر محبطاً إننا ‘الممسوسون بحلم يناير’، لن نعرف أبداً النظر إلى نصف الكوب الممتلئ لأننا حلمنا للناس ولأنفسنا بكوب ممتلئ عن آخره"

الآن وبعد مرور عشر سنوات على ثورة يناير، وفي كل يناير، يحدث أن يتنازعك شعوران متناقضان، شعور مذهل بالفخر، وموجة إحباط واكتئاب لا تعيشها وحدك، بل تلمسها في كل مَن شاركوا في الحلم معك. فبين شعور الفخر وكيف شاركنا في صنع ذلك الحدث الضخم الذي زلزل العالم، وفَتَح آفاقاً لا محدودة للتغيير، وبين إحساس بالعجز أمام كل الذين يشبهون أحمد، زميلي الباكي أثناء خدمتي العسكرية، وهم يجرفهم الحنين لأيام الستر قبل أن يُرفع عنهم جراء فعلتنا، كما يقولون.

المؤسف في هذا الوطن أن الهزائم تتكرر بالوتيرة نفسها وبالقسوة نفسها. هُزمت أجيال قبلنا أو لنقل بقدر كبير من حسن الظن، فإن الآلاف ممن يشبهون يحيى ويشبهوننا تاهوا بعد أن تُركوا يرسلون رسائلهم ولم يجبهم أحد. حتى موسى موظف البريد الطيب الذي ما انفك يحيى أن يحبه ويثق فيه ليرسل رسالته للمسؤولين، لم يتحمل غباء الشاويش وسقط ميتاً.

لكل ذلك، نحن نشبه يحيى، نشبه بريق عينيه حينما أخذته الغواية، ونشبه صوته المتردد بعدما أدرك فعلته وأصر على أن يستكملها. نحن نشبه توهته، ونشبهه عند انتصاراته الصغيرة وهزائمه الكثيرة، نشبهه حينما أحبَّ فريدة فأفسد عليها حياتها الهادئة، وبعد مرور عشر سنوات من الحلم أصبحنا تماماً كيحيى الذي أنهى مهمته وعاش خائفاً، ينظر من عين بابه السحرية وهو يتحسس مسدسه حتى وهو في انتظار حبيبته.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard