قبل عام 2011، كان من الطبيعي لأي عائلة سورية أن تستقل سيارة أجرة، وبحوزتها البطاقات الشخصية فحسب، لتصل إلى لبنان خلال ساعات معدودة، وتدخل إليه من دون أي عقبات، أو إجراءات صعبة. ولم تكن بيروت، أو طرابلس وغيرها، أبعد من مدن سورية أخرى عن دمشق، أو حمص.
لكن قدوم العام 2011، بكل ما حمله من عدم استقرار لسوريا، غيّر أيضاً من علاقتها مع لبنان، إذ وجد عشرات آلاف السوريين أن هذا البلد المجاور، هو الملاذ، والباب الأول، للهروب من أهوال الحرب، سواء عن طريق الحدود النظامية، أو عن طريق الدخول خلسةً، جماعات أو فرادى. ومع مرور السنوات، ازدادت أعداد السوريين اللاجئين إلى لبنان، لتبلغ قرابة مليون ونصف المليون، وفق آخر الإحصائيات الأممية.
هذا الارتفاع في الأعداد، ترافق بشكل تدريجي مع زيادة صعوبة إجراءات المرور على الحدود البرية بين سوريا ولبنان. مثلاً، في عام 2018، أعلن الأمن العام اللبناني عن شروط جديدة لدخول السوري إلى لبنان، وصُنّف ضمن ست فئات، شملت السياحة، بشرط حيازة مبلغ مادي، وحجز فندقي، والطلاب، والقادمين للسفر عبر المطار، والراغبين بتلقي العلاج، والقادمين لمراجعة سفارة أجنبية، والقادمين للدخول بموجب تعهّد مسبق بالمسؤولية.
الإجراءات الصعبة والمعقدة التي فرضتها لبنان مع انتشار جائحة كورونا، كلها دفعت بالكثيرين من السوريين، للدخول خلسةً إلى لبنان.
ومع انتشار جائحة كورونا، واتّخاذ الدول إجراءاتٍ احترازيةً ووقائيةً، للحد من انتشار الفيروس، حددت المديرية العامة للأمن اللبناني في أيلول/ سبتمبر 2020، يوم الأربعاء من كل أسبوع فحسب، لدخول السوريين إلى لبنان، وذلك إما للحاصلين على إقامات صالحة في لبنان، أو للطلاب الذين يتابعون دراستهم في الجامعات والمعاهد اللبنانية، مع شرط الخضوع لفحص "PCR"تجريه وزارة الصحة في المراكز الحدودية، وسمحت بالدخول، في أيام الأسبوع كلها، للسوريين القادمين لمراجعة سفارات أجنبية، وللعلاج الطبي، وللراغبين بالمرور عبر المطار.
هذه الإجراءات الصعبة والمعقدة، كلها دفعت بالكثيرين من السوريين، للدخول خلسةً إلى لبنان، خاصة في العام المنصرم. بعضهم يدخلون لفترة مؤقتة، ويعودون كما أتوا، والبعض الآخر يستقرون فيه، من دون الحصول على أي أوراق نظامية. وتشير الأرقام اليوم، إلى أن أكثر من 70 في المئة من السوريين لا يملكون وضعاً قانونياً في لبنان.
إقامة منتهية
تتنوع أسباب الدخول، وتفاصيله، وطرقه غير الشرعية إلى لبنان، والإجراءات الجديدة الصعبة والمعقدة التي لا يمكن للجميع الدخول وفقها. هذا كله دفع البعض لاتباع طرق التهريب.
يقول خ. ش. (28 عاماً)، وهو يعمل في مجال الحلاقة النسائية، لرصيف22: "انتهت إقامتي في لبنان منذ فترة، ولم أستطع تجديدها، لأن كفيلي الشخصي صاحب صالون الحلاقة الذي أعمل فيه، رفض بسبب خلاف بيننا على العمل، وطلب مبلغاً مادياً كبيراً، وبالدولار، وأنا وضعي المادي أقل من العادي، كما أنَّ الأمن العام أوقف الكفالات الشخصية قبل سنتين تقريباً".
حاول الشاب إيجاد أي وسيلة لتجديد الإقامة، لكنه لم يستطع، وأجبره هذا الوضع على الذهاب إلى سوريا خلسةً. وعند رغبته بالعودة إلى لبنان، لمتابعة عمله، لم يكن أمامه سوى طرق التهريب، لعدم امتلاكه إقامةً نظامية.
"ذهبت إلى أوتوستراد حرستا، شرق دمشق، حيث يتجمّع العشرات من الراغبين بالدخول إلى لبنان. هناك، ركبتُ سيارةً إلى حمص، وانتظرت في ساحة فيها حمامات مهجورة، وكان معنا أطفال صغار. انتظرنا طويلاً من دون طعام أو شراب. أما المعاملة، فكانت سيئةً عموماً"
"تواصلت مع العديد ممن يعملون في تهريب السوريين إلى لبنان. منهم من طلب مبلغاً بالدولار، ومنهم بالليرة اللبنانية، أو السورية. أما عن طريقة التهريب، فكان من المفترض أن أنتقل بالسيارة مباشرةً إلى بيروت، ولكنهم جعلوني أنتظر في منطقة غير مأهولة داخل سوريا، ساعاتٍ طويلة، مع عائلات، وفتيات، وأطفال، يتعاملون معهم بطريقة قاسية ومذلّة، وتأتي سيارات ذات شبابيك سوداء معتمة، لتنقلنا إلى منطقة أخرى، ومنها إلى الحدود بسيارات مختلفة. شعرنا بأنهم يتعاملون معنا كالأغنام، ومن يعترض يهددونه بإرجاعه إلى سوريا"، يشرح الشاب لرصيف22.
"الوضع في سوريا أصبح مزرياً"
منذ أشهر عدة، دخلت ن. م. (27 عاماً)، وهي تعمل في مجال بيع الإكسسوارات اليدوية، خلسةً إلى لبنان، لأن "الوضع في سوريا أصبح مزرياً، وطفح بنا الكيل من ناحية الخدمات، كهرباء ووقود ومياه، وقلة فرص العمل، وغلاء الأسعار، لذا كان لا بد من المغادرة بحثاً عن مستقبل جديد"، وفق تعبيرها.
أما عن الطريقة، فقد ذهبت الفتاة إلى أوتوستراد حرستا، شرق دمشق، حيث يتجمّع العشرات من الراغبين بالدخول إلى لبنان: "هناك، ركبتُ سيارةً إلى حمص، وانتظرت في ساحة فيها حمامات مهجورة، وكان معنا أطفال صغار، منهم من كان أهلهم ينتظرونهم في بيروت، بعد انتهاء العام الدراسي. انتظرنا طويلاً، وفي أماكن عدة، من دون طعام أو شراب. أما المعاملة، فكانت سيئةً عموماً".
ومن منطقة القصير في حمص، انتقلت ن. مع الآخرين بسيارات تشبه سيارات الجيش، إلى منطقة الهرمل في لبنان. "كان من المستحيل أن نستطيع التحرك داخل السيارة، لكثرة الأشخاص. انتظرنا في الهرمل نحو أربع ساعات، وانتقلنا بعدها إلى منطقة أخرى، حتى حلول الليل، ثم أتت حافلة، ونقلت كل شخص إلى وجهته، وبلغت كلفة هذه العملية نحو 150 دولاراً. هذا كله لم يكن ليحصل لو كانت الشروط القديمة لدخول السوريين إلى لبنان ساريةً".
حاول الشاب إيجاد أي وسيلة لتجديد الإقامة، لكنه لم يستطع، وأجبره هذا الوضع على الذهاب إلى سوريا خلسةً.
"خرجت قبل سَوقي إلى خدمة العلم"
تختلف تجربة ح. ع. (23 عاماً)، وهو طالب جامعي، التي يرويها في حديث لرصيف22: "تخرجت من الجامعة نهاية العام الماضي، وكان تأجيل الخدمة الإلزامية الدراسي سينتهي حينها، واضطررت إلى الخروج من البلد قبل سَوقي إليها، والحدود مغلقة بسبب كورونا. حاولتُ الدخول عبر موعد سفارة وهمي، أو موعد طبيب، ولكن تعذّر الأمر، ولم يكن لدي الوقت الكافي للانتظار".
تجربة الشاب ليست الوحيدة، كون العديد من الشباب المطلوبين للخدمة العسكرية، لا يفضّلون الالتحاق بها، خوفاً على حياتهم، وبسبب طول المدة الزمنية التي باتوا يقضونها في الجيش. ولعدم وجود قانون دفع بدلٍ مالي داخلي، لذا يلجأ الكثيرون منهم إلى السفر خارج البلد سنوات عدة، لدفع البدل بالدولار الأمريكي.
يتابع ح. ع. قصته، ويقول: "عندما قررت الدخول خلسةً، تخوفت في البداية، خاصةً أن دخولي بهذه الطريقة لا تُحتسب فيه فترة إقامتي في لبنان، كي أدفع البدل، ولكن قررت الذهاب والتفكير في حلٍّ لاحقاً، وربما أستطيع السفر خارج لبنان إلى بلدٍ آخر، لذا تشجعت، وقررت الرحيل".
اختار الشاب التهريب عن طريق حمص، واتفق مع أحد المهربين على التفاصيل: "انتظرتُ في بيت قريبي، وحزمت أمتعتي حتى أتى بسيارته، وأخذني بدايةً إلى قريته، وهي قرية حدودية تمنع دخول الناس إليها، خوفاً من ذهابهم خلسةً إلى لبنان، ولكن بالاتفاق مع الحاجز سمحوا لي بالدخول، وحين وصلنا، استبدل السيارة بأخرى نمرتها لبنانية، وأعطاني بطاقةً شخصيةً لبنانيةً مزوّرة، وطلب مني أن أحفظ المعلومات المكتوبة فيها على أنها بطاقتي. الطريق كان بريّاً، وعبرنا فوق نهرٍ صغير، ومررنا بمناطق عديدة، منها بعلبك، وانتظرنا وقتاً طويلاً في ضهر البيدر، وبعد خمس ساعات وصلتُ إلى بيروت. وعلى الرغم من وجود حواجز للجيش اللبناني، لم نتعرض للتوقيف".
تكلّف الشاب 400 دولار، ويقول إنها ارتفعت اليوم حتى 600 دولار، ويخبرنا بأنه رفض المجيء مشياً عبر الحدود، على الرغم من انخفاض الكلفة، "لأن هذه الطريقة أكثر سهولةً وأماناً".
عندما يصطحب المهرب شخصاً من سوريا إلى لبنان، يُدخِله إلى قريته بسيارة سورية، على أنه قريبه، ثم يبدّلها بسيارة لبنانية، ويدخل إلى لبنان، ويعطيه هويةً لبنانيةً مزوّرةً، احتياطاً في حال أُوقِف على أحد الحواجز، ثم يوصله إلى المنطقة التي يرغب في الذهاب إليها.
تهريب البشر بات مهنةً
أصبح تهريب البشر والبضائع، بسبب الفلتان الأمني، وعدم ضبط الحدود، مهنةً لبعض الأشخاص الذين يستفيدون من هذا الحال، ويستغلون حاجات الناس لقبض مئات الدولارات.
حول طرق التهريب، يروي المهرّب الثلاثيني ف. ش. لرصيف22: "العديد من أهل قريتي الحدودية يعملون في التهريب، بسبب سهولة الدخول إلى لبنان، خصوصاً أن معظمهم يملكون سيارات بأرقام لبنانية، ومنهم من يملكون إقامات، وحتى جنسيات لبنانية، بينما أنا لدي إقامة مجاملة، لأن والدتي لبنانية".
عندما يصطحب المهرب شخصاً من سوريا إلى لبنان، يُدخِله إلى قريته بسيارة سورية، على أنه قريبه، ثم يبدّلها بسيارة لبنانية، ويدخل إلى لبنان، ويعطيه هويةً لبنانيةً مزوّرةً، احتياطاً في حال أُوقِف على أحد الحواجز، ثم يوصله إلى المنطقة التي يرغب في الذهاب إليها.
ويكمل: "بعيداً عن تهريب الأشخاص، أحياناً أنقل البضائع، كالمحروقات، والأموال، وبعض المواد الغذائية، لأشخاص يطلبون مني إيصالها، أو حتى أوراقاً رسمية، وأقبض عليها مبلغاً مادياً، ولكن بالطبع أقل من تهريب الأشخاص، علماً أن التهريب متبادَل بين البلدين، فالكثيرون من لبنان يدخلون الأراضي السورية خلسةً، وفي حوزتهم بضائع وأسلحة وغيرها، أي أن التهريب ليس من الجانب السوري فحسب".
في حال رغب أي شخص دخل خلسةً، السفر إلى بلدٍ آخر، لا يمكنه ذلك قبل تسوية وضعه القانوني، وقد يُمنع من دخول لبنان مدةً معينةً.
القانون لصالح من؟
حول إجراءات الدخول، والشق القانوني من الموضوع، يشير المحامي اللبناني نائل قائد بيه، في حديثه لرصيف22، إلى أنه من المهم الإيضاح أن المواد القانونية المتعلقة بمسألة ضبط الحدود، والإجراءات المتّبعة في قبول دخول الأجانب أو رفضهم، والعقوبات المترتّبة عليها، مناطة بالمديرية العامة للأمن العام، والتشريعات النافذة لم تُعدَّل منذ عام 2011، ولكن الأمن العام أصدر قرارات وتعميمات عدة، عدّل بموجبها شروط ولوج الحدود، ومقتضياته.
أما عن الوضع القانوني للسوريين الداخلين خلسةً، فيجيب المحامي بأنه في حال العثور على شخص سوري في لبنان من دون أوراق ثبوتية، يُعالج وضعه وفق طريقتين: إما إحالته إلى القضاء الذي قد يقرر ترحيله، وإما تسوية وضعه وفق إجراءات يصرح بها الأمن العام اللبناني بشكل دوري. وفي مراحل سابقة، ونظراً لموقف الحكومة اللبنانية التي كانت ترفض أي نوع من التواصل مع الحكومة السورية، كانت هناك استحالة في تنفيذ عقوبة الترحيل، نظراً لكونها تقتضي تواصلاً مع بلد المرحَّل، وطبعاً هذه الإجراءات استنسابية، أي يمكن للأمن العام ألا يقوم بها.
هنا، يبرز دور الجمعيات، والمنظمات غير الحكومية، والمنظمات الدولية، في معالجة بعض المسائل، لتسوية وضع شخص ما، فمثلاً يمكن للمفوضية العليا للاجئين أن تفيد بأن شخصاً ما مسجّلٌ لديها، فيصبح وجوده مشرّعاً. وفي حال رغب أي شخص دخل خلسةً، السفر إلى بلدٍ آخر، لا يمكنه ذلك قبل تسوية وضعه القانوني، وقد يُمنع من دخول لبنان مدةً معينةً، كإجراء عقابي على دخوله بطريقة غير شرعية، ويمكن للأمن العام اتخاذ ما يراه مناسباً في حال رأى أن مغادرة الشخص أفضل من بقائه على الأراضي اللبنانية، وهو أيضاً إجراء استنسابي.
بين القوانين، وتطبيقها على أرض الواقع، يضيع آلاف السوريين، ويطالبون بقوننة الدخول والخروج، إذ لا يمكن الحكم على شخص دخل خلسةً، أو على سائق حتى فحسب، بل يجب البحث أولاً في الأسباب التي جعلت المواطنين من كلي البلدين يتبعون هذه الطرق الملتوية، شاعرين أن ما يقومون به طبيعي في ظل قرارات توحي لهم بذلك، لأنها لا تقدّم لهم أي حلولٍ أخرى.
تنويه: استُخدمت الحروف الأولى من الأسماء فحسب، للحفاظ على خصوصية الأشخاص، وعدم تعريضهم لأي أذى.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...