هُجّر خالد تميم من جنوب حلب، إبان موجات التهجير القسري الذي مارسه النظام السوري طوال سنوات الحرب. ترك منزله، وحياته، وما بناه كله، وذهب يبحث عن فرصة للحياة، أو لمحاولتها. هرب من بلده الممسوك بقبضة أمنية، إلى ضفة أخرى، في بلده أيضاً، ولكن الفارق أنها ممسوكة من القوات التركية. هدفه الآن أن يجد سبيلاً للصمود. هو مدرّس، وتالياً لم يكن أمامه إلا البحث عن فرصة في مدارس منطقة درع الفرات.
كان يعمل ويؤمّن الحد الأدنى من المال المطلوب لقضاء حاجياته، لكن الأمور لم تكن مثاليةً، وهي يوماً بعد يوم، تتراجع، وكأن شبح الانهيار يلاحقه أينما حل. يقول: "في ظل ارتفاع الأسعار الجنوني، وانخفاض الليرة التركية مقابل الدولار، لم يعد بإمكاننا الاستمرار. أنا أتقاضى 750 ليرةً تركية، أي ما يوازي 80 دولاراً شهرياً، وعليّ إيجار منزل، وتكاليف معيشة، ونحن مقبلون على فصل الشتاء. لا أعرف كيف سأُكمل. لا أعرف ماذا أفعل أنا وعائلتي".
هرب من بلده الممسوك بقبضة أمنية، إلى ضفة أخرى، في بلده أيضاً، ولكن الفارق أنها ممسوكة من القوات التركية
وتقع مناطق شمال حلب تحت الوصاية التركية، منذ عام 2016، بعد طرد تنظيم داعش من منطقة عفرين، بعد معارك مع قسد، وصارت أعزاز، والباب، وعفرين، تتبع لولاية كلس، وجرابلس، والغندورة لولاية غازي عنتاب، والرواتب كلها تأتي من الحكومة التركية، فيما قرارات الحكومة السورية المؤقتة التابعة لائتلاف قوى المعارضة لا تُطبَّق طالما لم يوافق عليها الجانب التركي الذي قام بتأسيس مجالس محلية، ومديريات، من تربيةٍ وصحة، تتبع لها مباشرةً.
مؤخراً، شهدت مناطق شمال سوريا في الريف الشمالي لحلب، وتحديداً في منطقتَي درع الفرات وغصن الزيتون، حراكاً شعبياً في مدن وبلدات أعزاز، والباب، وقباسين، وبزاعة، وعفرين، واخترين، وصوران، تضامناً مع المعلّمين الذين أعلنوا إضرابهم احتجاجاً على أوضاعهم المعيشية، في ظل انهيار العملية التركية.
دفع الواقع المعيشي السيء المعلمين، في أكثر من مدرسة، لإعلان الإضراب الشامل، فيما قام بعضهم بتقديم استقالات جماعية، وبدأوا بالبحث عن فرض عمل أخرى خارج التعليم
ودفع الواقع المعيشي السيء المعلمين، في أكثر من مدرسة، لإعلان الإضراب الشامل، فيما قام بعضهم بتقديم استقالات جماعية، وبدأوا بالبحث عن فرض عمل أخرى خارج التعليم. ويطالب المعلمون بعدّ المنحة راتباً شهرياً لا يقل عن ألفَي ليرة تركية، بما يتناسب مع مستوى المعيشة. وكان هدف إضراب مدارس منطقتي درع الفرات، وغصن الزيتون، إيصال رسالة مطلبية إلى مديريات التربية التابعة للمجالس المحلية، وإلى مديريات التربية التركية، والمنظمات الإنسانية.
في الاحتجاجات، رُفعت شعارات كثيرة، منها "معلم بلا كرامة، جيلٌ بلا انتماء"، و"القيم رسالتنا والكرامة مطلبنا"، و"التجويع قتل بطيء". يقول عمر ليلى، منسق الإضراب في مدارس منطقة مخيمات أعزاز: "عندما نعلي من قدر المعلم، فإنه سينشئ جيلاً منتمياً إلى وطنه، ومن هذا المنطق طالب المعلمون بحقوقهم، وبتأمين مستلزمات التعليم، حتى يتمكنوا من أداء رسالتهم"، وأضاف: "بعد هذه الوقفات الاحتجاجية، رُفِعت المطالب عبر المنسقين الأتراك الموجودين في مديريات التربية، إلى الجانب التركي المسؤول عن قطاع التعليم في شمال حلب".
"عندما نعلي من قدر المعلم، فإنه سينشئ جيلاً منتمياً إلى وطنه، ومن هذا المنطق طالب المعلمون بحقوقهم، وبتأمين مستلزمات التعليم، حتى يتمكنوا من أداء رسالتهم"
بعد أسبوعين من الإضراب، لم تستجب الجهات المختصة من الجانب التركي للمطالب التي تم رفعها عبر مديريات التربية في شمال حلب، فقرر المعلمون بحسب ليلى، الانتقال إلى مرحلة جديدة أكثر تنظيماً، وأقل ضرراً للطلاب، إذ أعلنوا في بيان مشترك، "الانتقال من الإضراب المفتوح إلى الإضراب الجزئي، مع استمرار حراكهم السلمي، والبدء بالدوام، وشكر المعلمون الأهالي، والفعاليات المدنية، والجيش الوطني، لوقوفهم إلى جانبهم في حراكهم، محذّرين من أي إجراء لا يحترم الحريّات العامّة، وحقوق المعلمين في التظاهر والإضراب".
أيضاً، بدأ المعلمون بتنظيم أنفسهم ضمن نقابة المعلمين، والتي كانت تمنعها المجالس المحلية في هذه المناطق، وتحصر تبعية المعلم بالمديريات التربية التابعة للمجالس المحلية، إذ عقدت، في 23 تشرين الأول/ أكتوبر، نقابة المعلمين في الباب وقباسين، الناشئة حديثاً، مؤتمرها الصحافي الأول، وهي تضم أكثر من 1200 معلم من مدينتَي الباب وقباسين، والمناطق التابعة لهما، ممن شاركوا في الإضراب الحالي.
رُفعت شعارات كثيرة، منها "معلم بلا كرامة، جيلٌ بلا انتماء"، و"القيم رسالتنا والكرامة مطلبنا"، و"التجويع قتل بطيء". يقول عمر ليلى، منسق الإضراب في مدارس منطقة مخيمات أعزاز: "عندما نعلي من قدر المعلم، فإنه سينشئ جيلاً منتمياً إلى وطنه"
وتوجد في أرياف حلب الخارجة عن سيطرة قوات النظام، 877 مدرسة فقط، 833 منها قيد العمل، ويبلغ عدد الطلاب في المناطق التي شهدت احتجاجات في شمال حلب، 164،600 طالب، وعــدد الطلاب الذيــن ينتقلون إلى المرحلة الإعدادية، أقل من عدد الطلاب الذين يكملون التعليم الابتدائي، وهذا يشير إلى تسرب عدد كبير من الطلاب في مراحل التعليم المتقدمة، حسب دراسة أجرتها وحدة تنسيق الدعم في سوريا.
وتشهد هذه المناطق إهمالاً من الجانب التركي في تنظيم الأمور في مناحي الحياة كافة، فيما فرضت نظاماً تعليمياً مختلفاً عما كان موجوداً في شمال غرب سوريا، وتركت تأمين مستلزمات العملية التعليمية، من بناء المدارس، وترميمها، ومستلزمات الطباعة والكتب، للمنظمات والجمعيات الإنسانية، ومنعت المعلمين من إقامة أي تجمع يوحّدهم، ويجمع كلمتهم، كنقابة المعلمين.
وأثار هذا الواقع المتردي، والإضراب المستمر، مخاوف لدى السوريين في مناطق الشمال، من أن ينعكس سلباً على أبنائهم، ويرفع من نسبة التسرب المدرسي، وبعضهم تحدث عن خسارة ما تبقّى من جيل مقبل على العلم، مما يجعل الأطفال عرضةً لظواهر مجتمعية سيئة، من عمالة الأطفال، أو تجنيدهم من قبل الفصائل العسكرية، ومروّجي المخدرات.
يقول الأكاديمي التربوي قتيبة الإسماعيلي: "إذا لم تتم الاستجابة لمطالب المعلمين، سوف يُحرم آلاف الطلاب من تعليميهم، ما سيؤدي إلى نتائج يدفع ثمنها جيل كامل، فوضع التعليم في الأساس سيء، والعملية التعليمية مهملة جداً من قبل القائمين عليها، فابني مثلاً يدرس في إحدى المدارس، حيث يوجد في الصف الواحد ما بين 65 و70 طالباً، ما يؤدي إلى خلق مشكلات عديدة، أهمها عدم قدرة المعلم على العطاء بشكل جيد، والأعداد الكثيرة بشكل عام تؤدّي إلى خلق حالة من الفوضى ضمن الصفوف الدراسية والمدارس، ففي أعزاز وحدها، يوجد ما يقارب 20 ألف طالب ضمن 12 مدرسة فقط، ناهيك عن الانتشار الكبير لفيروس كورونا، وعدم المحافظة على الوقاية، والتباعد الاجتماعي".
"إذا لم تتم الاستجابة لمطالب المعلمين، سوف يُحرم آلاف الطلاب من تعليميهم، ما سيؤدي إلى نتائج يدفع ثمنها جيل كامل، فوضع التعليم في الأساس سيء، والعملية التعليمية مهملة جداً"
حسب منظمـة حماية الطفولة، فإن نسبة 34% من الأطفال في شمال غرب سوريا، متسربون من المدارس، إذ يعيش في شمال غرب سوريا أكثر من مليون ونصف مليون طفل محروم من التعليم، حسب إحصاءات صادرة عن "وحدة تنسيق الدعم"، منهم ما يقارب 51% يعملون لإعالة أسرهم، و63% يعملون ضمن أعمال تتطلب جهداً، و9% يعملون في أعمال تتطلب جهداً، وتشكّل خطراً على حياتهم.
زادت جائحة كورونا من تفاقم تسرب الأطفال، ولعل أهم أسباب التسرب هو عدم توفر المال لدى الأسر التي فقدت معيلها، واضطرت إلى إلحاق أطفالها بمصالح مهنية يعتاشون منها، وكذلك النزوح المتكرر نتيجة العمليات العسكرية بين فصائل المعارضة وقوات النظام، فيما يغيب قانون إلزامية التعليم في هذه المناطق.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...