منذ قيام الجيش السوداني بمحاولة الانقلاب العسكري، والاستحواذ على الحكم، والأمور في السودان تتصاعد بشكل متزايد.
لم ينجح القائد العام للجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، حتى الآن، في فرض سيطرته على البلاد، في ظل مواجهة شرسة من القوى المدنية، وتصاعد حدة دعوات التظاهر والعصيان المدني التي لا تتوقف.
وهو ما دفع الكثير من القوى الدولية المهتمة باستقرار المنطقة، إلى التحرك قدماً، محاولين احتواء الموقف، وهو ما عبّر عنه مبعوث الأمم المتحدة إلى السودان، فولكر بيرثيس، قائلاً: هناك وساطات جارية في البلاد وخارجها، لإيجاد مخرج للأزمة الناجمة عن انقلاب الجيش، ومحاولته الاستيلاء على السلطة.
وكان رئيس مجلس وزراء الحكومة الانتقالية، عبد الله حمدوك، قد التقى في منزله، سفراء الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والنرويج، وأكد لهم تمسّكه بالشرعية، مشيراً إلى أن إطلاق سراح الوزراء، ومزاولة مجلس الوزراء بكامل أعضائه، أعماله، هو المدخل الوحيد لحل الأزمة.
ومن المنتظر أن يصل المبعوث الأمريكي الخاص إلى القرن الإفريقي، جيفري فيلتمان، إلى الخرطوم، فجر الثاني من تشرين الثاني/ نوفمبر، لمواصلة جهود نزع فتيل الأزمة السودانية.
"الردّة مستحيلة"
وعلى الجانب الآخر، يواجه الجيش ضغوطاً من الشارع عرقلت مسيرته نحو الاستحواذ على السلطة، إذ خرجت موجات جماهيرية هادرة في 30 تشرين الأول/ أكتوبر المنصرم، إلى شوارع العاصمة السودانية، ونحو 25 مدينة أخرى في الداخل، و50 مدينة حول العالم، حسب تقارير صحافية متطابقة، رافعةً شعار: لا لحكم العسكر، والردّة مستحيلة"، وشعارات أخرى، تدعو للعودة إلى المسار المدني الديمقراطي، وتُطالب بإسقاط من سمتّهم الانقلابيين؛ وفي مقدمتهم رئيس مجلس السيادة المحلول، وقائد الانقلاب عبد الفتاح البرهان.
" إخلاء الساحة السياسية من القوى الحزبية المدنية، سيجعلها حكراً للمسلحين (الجيش والمليشيات) المتناقضة فكرياً وجهوياً وعرقياً، سيحيل البلاد إلى رماد ما إن يحدث خلاف بسيط بينهم"
هذا وقدّرت بعض التقارير الصحافية، الجماهير التي ملأت شوارع الخرطوم على سعتها، في أعقاب قيام البرهان بإعلان بيانه العسكري الذي أعلن فيه الطوارئ، وحل مجلسَي السيادة، واعتقل رئيس الوزراء، بنحو أربعة ملايين شخص في الخرطوم وحدها، وهو ما وضع الجيش تحت ضغط كبير، خصوصاً بعد أن ارتفع سقف المطالب إلى أعلى من إعادة الأمور إلى سياقها، ما قبل الانقلاب، إذ طالبت بحكومة انتقالية مدنية خالصة، لا مكان فيها للعسكريين، ومحاكمة الانقلابيين، ومسانديهم من قادة حركتَي العدل والمساواة، وتحرير السودان مجموعة مني أركو مناوي، حاكم إقليم دارفور المعزول، وتفعيل التحقيق في ملف مجزرة اعتصام القيادة العامة في 3 حزيران/ يونيو 2019، التي راح ضحيتها نحو مئة ضحية من المعتصمين، ومئات الجرحى، و70 حالة اغتصاب للجنسَين، والتي يُرجّح أن من ارتكبتها هي القوات الأمنية، وقوات مليشيا الدعم السريع.
خيانة مرتقبة
بالنسبة إلى المحلل السياسي عمر حسنين، فإن العودة إلى الوضع ما قبل الانقلاب، هو السيناريو الراجح الآن، وهذا ما يسعى إليه البرهان حالياً، بعد أن وجد نفسه شبه معزولٍ، بعد التقاعس اللافت لحليفه القوي قائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان (حميدتي)، الذي لم يظهر بجانبه منذ بيان الانقلاب، وحتى اللحظة، كما لم يُدلِ بأي تصريحات تُعبِّر عن موقفه مما يحدث، وإن كان قد هدد المدنيين، قبيل الانقلاب بأيام، بإخراج شارع موازٍ، معلناً عن رفضه الجلوس معهم على طاولة واحدة، كما بدت المواقف الأخيرة، لقائد حركة تحرير السودان، مني أركو مناوي، أحد كبار الداعمين للانقلاب، والمحرّضين عليه، كأنها تشي برغبة في التنصّل من المُضي قُدماً مع قائد الجيش في انقلابه، إذ تحدث الرجل عن إمكانية العودة إلى ما قبل 25 تشرين الأول/ أكتوبر 2021، وأشار إلى اتصالات جرت بينه وبين قادةٍ في قوى إعلان الحرية والتغيير (قحت)، وبعض الدول الخارجية، من أجل التوصل إلى تسوية مُرضية للأطراف جميعها.
"المُحتجون لن يقبلوا بأقل من إطاحة البرهان وحميدتي من المشهد السياسي، بل إن كثيرين منهم يطالبون برحيل حكومة حمدوك، وحاضنتها السياسية نفسها، ويعدّونها كارثيةً على مستقبل التحول الديمقراطي"
البرهان فوق النيران
ويرى حسنين، في حديثه إلى رصيف22، أنه في حال إصرار البرهان، على الرغم مما يواجه من ضغوط داخلية وخارجية، على الاستمرار في تكريس الأوضاع التي خلّفها بانقلابه، فإن ذلك سيقود السودان برمته إلى انهيار كامل، خصوصاً أن معظم مؤيدي الرجل من الحركات المسلحة التي وقّعت على اتفاق جوبا للسلام في 3 تشرين الأول/ أكتوبر 2020، ومليشيا الدعم السريع، وما تُسمّى بفلول نظام البشير من المنتسبين إلى جماعة الإخوان المسلمين، وبعض قيادات تنظيم ما يُعرف بالدولة الإسلامية (داعش)، الذين أطلق البرهان سراحهم في 31 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، آملاً بدعمهم له، لكنّه سرعان ما عاد في خطوته، في اليوم التالي، بإعادتهم إلى المعتقلات تحت ضغط قوى إقليمية يُرجَّح أنها هي التي أعطته الضوء الأخضر للانقلاب، بشرط عدم التعاون مع جماعة الإخوان المسلمين، والجماعات الإسلامية الأخرى التي تصنّفها إرهابيةً.
يشير حسنين في هذا السياق، إلى أنّ إخلاء الساحة السياسية من القوى الحزبية المدنية، سيجعلها حكراً على المسلحين (الجيش والمليشيات)، المتناقضين فكرياً، وجهوياً، وعرقياً، وسيحيل البلاد إلى رماد حين يقع خلاف بسيط بينهم، وهذا أمر مُرجح، ما يهدد وحدة البلاد، وأمنها، وسلامة مواطنيها، وتالياً فإنه لا بديل للسودان في ظل أوضاعه الهشة الراهنة، إلا الخيار المدني الديمقراطي الأقل كلفةً، إذ من خلاله يُمكن تسريح المليشيات والحركات المسلحة، وإعادة دمج جزء منها في الجيش الوطني، وفقاً للمعايير المتّبعة و المرعية في القوانين العسكرية، والعمل على تحويل الحركات المتمردة السابقة إلى أحزاب سياسية منزوعة السلاح، وهذا ما نص عليه اتفاق جوبا للسلام.
سيناريوهات كارثية
من جهتها، أبدت الصحافية آمنة بابكر، قلقها مما سمتها السيناريوهات الكارثية التي يمكن أن تنجم في حال رفض قائد الجيش السوداني، عبد الفتاح البرهان، مطالب المحتجين ضمن مليونية 30 تشرين الأول/ أكتوبر، إذ أظهر الملايين من المتظاهرين عزيمةً قوية بالمضي قدماً في إرغام القوات المسلحة على الابتعاد عن السياسة، وضرورة عودتها إلى وظائفها الرئيسة.
"العودة إلى الوضع ما قبل الانقلاب، هو السيناريو الراجح الآن، وهذا ما يسعى إليه البرهان حالياً، بعد أن وجد نفسه شبه معزولٍ، بعد التقاعس اللافت لحليفه القوي قائد مليشيا الدعم السريع، محمد حمدان (حميدتي)"
وقالت بابكر، في حديثها لرصيف22، إنّ المُحتجين لن يقبلوا بأقل من إطاحة البرهان وحميدتي من المشهد السياسي، بل إن كثيرين منهم يطالبون برحيل حكومة عبد الله حمدوك، وحاضنتها السياسية (قوى إعلان الحرية والتغيير) نفسها، ويعدّونها كارثيةً على مستقبل التحوّل الديمقراطي، وإن بدرجةٍ أقل من العسكر، ويحمّلونها وزر التسوية السياسية الهشة مع المؤسسة العسكرية، بعيد ارتكابها مذبحة مروعة في حق المعتصمين في ساحة القيادة العامة الذين أطاحوا بنظام الرئيس المخلوع عمر البشير، ما نتج عنه الوثيقة الدستورية الحاكمة للمرحلة الانتقالية، التي علّق قائد الجيش البرهان، العمل ببنودها الأساسية صبيحة انقلاب 25 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مشيرةً إلى أن الوثيقة نفسها معيبة، ومليئة بالثغرات لجهة أنها كُتبت على عجل، ما مكّن من اختراقها وتجاوزها أكثر من مرة.
خطر الحرب الشاملة
وأضافت بابكر، أن السيناريو الأكثر رعباً، يتمثل في إصرار من سمته بقائد الانقلاب على التمترس خلف الحركات المسلحة، ومليشيا الدعم السريع، وفلول النظام البائد، والاستعاضة بهم كحاضنة سياسية بديلة من قوى إعلان الحرية والتغيير، بعدما زجّ بقادتها في المعتقلات، وتالياً يكون قد وضع الأمور على حافة الهاوية. إلاّ أنها عادت لتؤكد إمكانية التوصل إلى تسوية سياسية ترضي الأطراف جميعها، ليس بإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الانقلاب، لأن ذلك ليس ممكناً من الناحية العملية، وإنما بمعادلة جديدة لا يكون عبد الفتاح البرهان ومجموعته من العسكريين، طرفاً فيها، كونهم غير موثوق بهم، إذ نفّذوا انقلابَين فاشلَين منذ انطلاق شراكتهم مع المكوّن المدني الذي جاء بهم إلى السلطة، مع ضرورة احتفاظ الجيش بدوره في المرحلة القادمة، عبر وجوه جديدة تختارها أحزاب قوى الحرية والتغيير. أما غير ذلك، فإن الحرب الأهلية الشاملة ربما ستكون السيناريو الأرجح، ولو بعد حين.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...