بخروجِ قوى الثورة الشعبية في السودان إلى مظاهرات عارمة، 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، دعا إليها تجمع المهنيين السودانيين وقوى إعلان الحرية والتغيير، عادت المُعادلة السياسية في السودان إلى نقطة البدء قبل تشكيل حكومة التكنوقراط الانتقالية الأولى في 5 سبتمبر/ أيلول 2019، برئاسة عبد الله حمدوك، عقب إطاحة الرئيس السابق عمر البشير في أبريل/ نيسان من نفس العام.
وفيما كان الشعب السوداني ينتظر مرحلة جديدة من الانتقال السياسي تفضي إلى الوصول إلى حكم مدني، انقلبت الأمور رأساً على عقب، فقد تعرضت حكومة عبد الله حمدوك الأولى إلى مناوءة شديدة من قبل المُكوّن العسكري في مجلس السيادة، وعلى رأسه القائد العام للقوات المسلحة عبد الفتاح البرهان، من جهة، وإلى ضغوط من الأحزاب السياسية والنقابات وقوى المجتمع المدني من جهة أخرى، فجاء أداؤها بطيئاً وغير مرضي، ما اضطر رئيسها إلى حلها في فبراير / شباط 2021، واستبدالها بطاقم سياسي ضم كوادر من قادة الحركات المسلحة المُتمردة سابقاً على نظام البشير، بُعيد توقعيها اتفاق سلام مع الحكومة الانتقالية في 3 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 في جوبا عاصمة جنوب السودان.
ومنذ ذلك التاريخ، ظل المشهد السياسي في السودان في حالة التجاذب والتنافر بين مكونات الحكومة الانتقالية، المُتمثلة في قيادة الجيش النظامي وقوات الدعم السريع والحركات المتمردة السابقة، والأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات وفلول النظام السابق وبعض زعماء القبائل، خاصة في شرق السودان.
المشهد السياسي في السودان يشهد صراعاً بين مكونات الحكومة الانتقالية المُتمثلة في العسكريين "الجيش النظامي وقوات الدعم السريع والحركات المتمردة السابقة"، والمدنيين "الأحزاب السياسية والمجتمع المدني والنقابات وفلول النظام السابق وبعض زعماء القبائل"
أزمات مُصطنعة
وبعد مرور عامين على إطاحة البشير وتشكيل الحكومة الانتقالية بنسختيها؛ التكنوقراطية والسياسية، ما تزال الأوضاع الراهنة على مستوى كبير من التأزم والتعقيد، أسهمت فيه عدة عوامل، أهمها الأزمة في شرق السودان التي يقودها زعيم قبلي ينتمي إلى النظام السابق، ويعتقد كثيرون إنها مفتعلة ومُصطنعة، وعلى رأسهم نائب رئيس مجلس السيادة الانتقالي محمد حمدان دقلو، الشهير بـ(حميدتي)، حيث سُمح للزعيم القبلي ومجموعته بقطع الطريق الرئيسي بين العاصمة والموانئ على ساحل البحر الأحمر، فضلاً عن المحاولة الانقلابية الفاشلة في سبتمبر/ أيلول المنصرم، والتي أسفرت عن تصاعد المواجهة بين المكوّنين المدني والعسكري على نحو غير مسبوق منذ إقرار الترتيبات الانتقالية.
شارعان: عسكري ومدني
يقول المحلل السياسي عمر حسنين لـرصيف22، إنه عقب فشل المحاولة الانقلابية الأخيرة سبتمبر/ أيلول الماضي، وبلوغ الخلاف بين المكونين العسكري والمدني في الحكومة الانتقالية أشُدّه، شنّ رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان ونائبه حميدتي حملة شعواء على المكون المدني، بلغت توعد الأخير بالشارع، وقد حدث ذلك بالفعل في 16 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، متمثلاً في ما يعرف الآن باعتصام القصر، حيث تم حشد أنصار حركتي العدل والمساواة وتحرير السودان وفلول النظام السابق وممثلين صوريين لبعض القبائل، في باحة القصر الجمهوري (الرئاسي) للمطالبة بحل الحكومة واستبدال حاضنتها السياسية الحالية "قوى الحرية والتغيير" بأخرى.
في المقابل، يستطرد حسنين، كان هناك شارع موازٍ يتكون من قوى الثورة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني ولجان المقاومة الثورية، أعلن عن حضور قوي بخروجه في مظاهرات سُميت بالمليونية في 21 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري تزامناً مع ذكرى أول ثورة شعبية في السودان، والتي أطاحت نظام الفريق إبراهيم في نفس اليوم من عام 1964، فأصبح شارع مقابل شارع، وإن كان الشارع المناصر للثورة والتحول الديمقراطي أكثر زخماً وعدداً من المؤيد للعسكر، المُطالب بالمصالحة مع حزب المؤتمر الوطني المحظور وعودته إلى الساحة السياسية، كما صرح قائد حركة تحرير السودان وحاكم إقليم دارفور مني أركو مناوي في أكثر من مناسبة.
وفي ظل هذا الانقسام الحاد في الشارع ومع وجود فصائل مسلحة من المتمردين السابقين تمارس العمل السياسي تحت حماية الكلاشنكوف والدوشكا وتوعدهم المتظاهرين في الشارع المدني المناوئ؛ بحسم الخلاف بالقوة واستخدام السلاح في مواجهتهم، كما هدد أول أمس أحد قادة حركة تحرير السودان من أمام القصر الجمهوري.
في ظل هذا الانقسام الحاد، ومع وجود فصائل مسلحة من المتمردين السابقين تمارس العمل السياسي تحت حماية الكلاشنكوف والدوشكا، صار مؤيدو المكون العسكري يتوعدون المتظاهرين في الشارع المدني بحسم الخلاف بقوة السلاح
رئاسة مجلس السيادة
ويحيل حسنين في إفادته لـرصيف 22، الأزمة في أساسها إلى قرب انقضاء أجل رئاسة المُكون العسكري لمجلس السيادة، فبحسب الوثيقة الدستورية فإنه يُتوقع أن تنتقل رئاسة المجلس إلى المُكوِّن المدني بنهاية نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، وربما هذا ما يخشاه العسكريون، "لأن فقدانهم لهذا الموقع المهم الذي يتسنمه الآن عبد الفتاح البرهان، يجعل المدنيين يبسطون سيطرتهم الكاملة على المرحلة الانتقالية، ما يتيح لهم مساحة حرة وكاملة للتعامل مع العناصر الإخوانية الكامنة في الخدمة المدنية والمؤسسات العسكرية والأمنية وتفكيكها، وإعادة هيكلة الشركات والأعمال والاستثمارات التابعة للجيش ووضعها تحت إشراف وزارة المالية وديوان المراجعة العامة وبالتالي إخضاعها للرقابة الحكومية المباشرة". وهذا ما يخشاه قادة الجيش ومليشيا الدعم السريع، التي سارع قائدها ونائب رئيس مجلس السيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، إلى شن حرب كلامية وإعلامية صارخة على المكوّن المدني ووصفه بالمتسبب الرئيس في كافة المحاولات الانقلابية السابقة، وبالعجز عن إدارة البلاد ومعالجة الأزمة الاقتصادية والمعيشية وانشغاله بتقاسم المناصب دون العمل على انقاذ البلاد من الأوضاع المزرية التي تعيشها.
سيناريو الفوضى
من جهته يستعبد النعيم ضّو البيت، الباحث في الأمن القومي بمركز الدراسات الأمنية (NSSI) سيناريو الانقلاب كحل للأزمة الماثلة، فالأوضاع شديدة التعقيد والهشاشة، والضعف النسبي للقوات المسلحة الذي أحدثته حكومة جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الرئيس السابق عمر البشير، حيث عمدت إلى تفكيكها وإضعافها للحيلولة دون حدوث انقلاب، فضلاً عن وجود خمسة جيوش موازية أخرى بجانبها في العاصمة الخرطوم، مثل قوات الدعم السريع، جيش حركة تحرير السودان (جناح مني أركو مناوي)، جيش حركة العدل والمساواة، جيش الحركة الشعبية لتحرير السودان (جناح مالك عقار)، جيش حركة الطريق الثالث (تمازج).
فقدان العسكريين رئاسة مجلس السيادة يتيح للمدنيين بسط سيطرتهم على المرحلة الانتقالية، ما يسمح لهم بالتعامل مع العناصر الإخوانية الكامنة مفاصل الدولة، وإعادة هيكلة الشركات والأعمال والاستثمارات التابعة للجيش وإخضاعها للرقابة الحكومية المباشرة
يستطرد ضّو البيت: بطبيعة الحال فإن الأوضاع في السودان تتوفر على فرص حقيقية للسقوط في فوضى عارمة، تتعدد فيها خطوط الاشتباك بين المكونين المدني والعسكري داخل الحكومة من جهة، وبين الحكومة الانتقالية بمكونيها وحلفائها والفصائل المسلحة التي لم توقع على اتفاق السلام، والناشطة في مناطق الصراع التقليدية في دارفور وجنوب كردفان، من جهة أخرى. وكذا بين المكونات الإثنية المتعددة وبعضها البعض في شرق السودان من جهة ثالثة، وبين قوات الدعم السريع والجيش من رابعة، وبين الجيش وتحالف محتمل بين قوات الدعم السريع والفصائل المسلحة المنتمية إلى إقليم دافور و الموقعة على اتفاقية جوبا للسلام من جهة خامسة.
معالجة الأزمة
كل هذه الاحتمالات والتعقيدات تقود بالضرورة، إذا لم تتم لملمتها ومعالجتها بحكمة وروّية، إلى خلق أوضاع مضطربة تطيح بوجود الدولة السودانية وتوقعها في الفوضى الشاملة. لكن ذلك ليس كل الأمر، فهناك سيناريوهات أخرى، أبرزها من وجهة نظر ضو البيت؛ بروز تحالفات جديدة تعيد توازن القوة إلى الساحة السياسية، ولربما ستفضي هذه التحالفات إلى تهدئة الأمور باقتراح حلول معتادة في هذه الحالة، مثل ان يُبقى على عبد الفتاح البرهان رئيسا لمجلس السيادة بشرط أن يتقدّم باستقالته من الجيش وأن يرتدي الثوب المدني.
يفسر ضو البيت لـرصيف 22 بعض السيناريوهات الأخرى المحتملة بالإحالة إلى التدخلات الخارجية، حيث تفضل قوى إقليمية مهمة ومؤثرة على الأوضاع الداخلية في السودان مثل مصر والإمارات دعم العسكريين، وإن كانت تحتفظ بشعرة معاوية في علاقتها مع المدنيين. فيما تدعم إثيوبيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التحول الديمقراطي بلا تحفظ. وقد دعا الرئيس الأميركي جو بايدن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك إلى زيارة البيت الأبيض في أعقاب المحاولة الانقلابية الأخيرة الفاشلة، كما بادرت الإدارة الأميركية بإيفاد جيفري فيلتمان مبعوث الرئيس جو بايدن إلى القرن الأفريقي، إلى الخرطوم في 29 سبتمبر/ أيلول الماضي، حيث نقل رسائل شديدة الوضوح بإدانته للمحاولة الانقلابية الأخيرة، وتشديده على ضرورة إشراك جميع المكونات السياسية في المرحلة الانتقالية، والتذكير بأهمية الدعم الدولي لنجاح استكمال الانتقال السياسي، بل هدد بأن تدهور الأوضاع في السودان قد يؤدي إلى توقف الكونغرس عن دعم السودان. وهكذا فإن الإدارة الأميركية تضع المكوِّن العسكري تحت ضغط متزايد بفعل تنامي الشكوك حول توجهه إلى لعب أدوار رئيسية فيما تبقى من المرحلة الانتقالية وما بعدها، وعليه فإن الدعم الغربي للمُكوِّن المدني يجعل ميزان القوة في حالة توازن مع المُكوِّن العسكري.
تفضِّل قوى إقليمية مهمة ومؤثرة على الأوضاع الداخلية في السودان مثل مصر والإمارات دعم العسكريين، وإن كانت تحتفظ بشعرة معاوية في علاقتها مع المدنيين، فيما تدعم إثيوبيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التحول الديمقراطي بلا تحفظ
فرصة استثنائية
لا شك أن الأوضاع الراهنة في السودان تُنذر بخطر وشيك، لكن هناك عوامل ربما تقلل من ارتدادات هذه السيناريوهات، أولها خشية جميع أطراف الصراع وكذلك الدول الإقليمية والقوى الكُبرى من أن حدوثها سيخلق فرصة حقيقية لعودة النظام السابق إما بانقلاب عسكري أو بانتخابات مبكرة، لا يوجد حزب سياسي في الساحة جاهز لخوضها مثل حزب المؤتمر الوطني المحلول، والذي ظلت عناصره تتسرب إلى الكيانات التي تعاني ضعفاً في التنظيم السياسي مثل حركة تحرير السودان جناح (مني أركو مناوي)، كما أن الانزلاق إلى الفوضى قد يتمدد إلى كل بقاع السودان ويستمر لأمد طويل، وإن كانت تُشكل هذه الأوضاع الاستثنائية يمنح الفاعلين فيها فرصاً استثنائية لإعادة ترتيب المرحلة الانتقالية برمتها بما يسمح بمعالجة مواطن الخلل في مسار الانتقال الديمقراطي. خاصة بعد ما نشر عن توصل رئيسا مجلس السيادة والوزراء إلى تسوية جديدة في 23 أكتوبر / تشرين الأول الجاري، سيتم بموجبها حل المجلسين وإعادة تشكيلهما بحيث يستوعبا طيفاً سياسياً أوسع دون استثناء لأحد عدا عناصر حزب المؤتمر الوطني المحلول وحلفاءه في آخر حكومة أطاحت بها ثورة ديسمبر 2019.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...