الحميم، البيوت التي نسكنها فتسكننا
إعداد أحلام الطاهر
تعليمات لقراءة النص
يبدو البيت بالنسبة للكاتبة حلماً ليس إلاّ، لكنها مع ذلك تبحث عنه. ويبدو أنها تصغي جيداً للأصوات، لأن صوت البراد اخترق بياض الصفحة. والمحبوب يشبه البيت، إن لم يكن هو البيت، ربما لسذاجة في هذه الفكرة لا تعترف بها، فتضعُ متاهات طفولية قادمة من جرائد التسعينيات اليومية لأشخاص يجلسون في الصالة، محاولين الوصول للجهة الأخرى من اللغز. كتب كثيرون عن البيت، فهي لم تضف جديداً، ومع ذلك فإن التكرار الذي يتعلق بهذا الفردوس المفقود (البيت) محمود.
كتبي التي جلبتها من مسقط
أجلسُ في صالة البيت الضيقة بينما يهدرُ صوت الثلاجة، معيداً لي الإحساس بوجود الواقع، أقضي الوقت في التواتر بين أحلامي والأشياء التي تتماسك تحت برد الثلاجة المستمر دون توقف، ربطة سبانخ خضراء، ماء غازي، خيار، طماطم، وبيرة محلية تدعى ايفيس. لكتابتي نفَسٌ عدمي رخيص، لا أريد مواصلة رصد جثث الأشياء من حولي، ومع ذلك، فليكن هذا العالم قريةً للجنازة المبتذلة هذه، أعرف أنني لا أسير وحدي فيها.
عاقداً العزم على الذهاب لبيت جديد، وبينما أتخيل أيامي القادمة في مكان ضيق بلا تكييف، يشبه القبو، أخذَ هو يقلبُ كراسات "الكوميكس" لأنه اتخذ قراره، أما أنا فبدا لي أنني لا أستطيع التصرف بحكمة الآن، فقد علمتني قسوة الحياة أن لا أؤخذ كثيراً بمظهر الأشياء ولا البدايات، ومع أن هذا "كيتش" قلما أحتمله من الآخرين، إلا أنه يبدو عملياً بالنسبة لي الآن.
لكتابتي نفَسٌ عدمي رخيص، لا أريد مواصلة رصد جثث الأشياء من حولي، ومع ذلك، فليكن هذا العالم قرية للجنازة المبتذلة هذه، أعرف أنني لا أسير وحدي فيها... مجاز في رصيف22
كل كتبي التي جلبتها معي من مسقط، وسعتْ حقيبة اشتريتها من "أديداس" قبل أيام، فجأة أتمنى أن تدهسني معها شاحنة ضخمة، بينما أصعد التلال التي ستأخذني للقبو الجديد (للمفارقة)، لكنني أعزي نفسي بأن الناس سيكونون أبعد عني كما أردتُ دوماً، وأن في الصالة تنويعة على لوحة غيرنيكا لبيكاسو.
كأن العالم ينقصه شبّاك أزرق
هذه هي المرة الثانية التي ننتقل للسكن فيها في إسطنبول بعد شهر قضيناه في شقة ضيقة، وبدا أن خيارنا الجديد سيضمن مساحة كافية لحقائبنا، ولكي نسمع قصيدة "كأن العالم ينقصه شباك أزرق" لإيمان مرسال، تردد في فضاء أرحب. عندما وصلنا لتفقد بيت القبو، أخذ يقلب ما اكتشفت بمجرد استقراري أنه "مانجا" يابانية – للبيت إذن تقريبٌ للنظر - وأنا كنتُ أفكر في السيناريوهات التي ستفقدني عقلي عما قريب، فأحس بأنني لا أنتمي لمكان، أيّ مكان، وأريد البحث عن بيتي المتخيل، بإضاءة محددة وبفراغات في كل مكان، لكي لا يحاصرني شيء بينما أحاصر نفسي.
وبينما أقرأ "الحب في القرن الجديد" لتشان شييه، وفي صفحة رقم 183 وصلت إلى المقطع التالي: "يا للأسف لماذا توقف عن حبها؟ وتوقفت عن حبه أيضاً. كان يشعر بالإحساس ذاته الذي تحدثت عنه – ربما هذا ما يعنيه (البيت)؟ كان طبعهما متشابهاً، أي هؤلاء الذين يريدون الاستحواذ على كل ميزة في العالم. تنهد وي بو وتساءل عن مآل الأشخاص مثله ومثل شيا يوان. استغرق وي بو في التفكير ولم ينتبه إلى أنها جهزت حقائبها وتستعد للمغادرة".
عندما جئنا لتفقد البيت أول مرة ظنت أن الأمر ينطبق على مؤجرنا الجديد، سرعان ما سأكتشف أنني واهمة، نسخة قديمة من "الحارس في حقل الشوفان" يحمل توقيعاً في نيويورك 1985، ملقى عليها صورة أظنها للمؤجر في درج سفلي في صالة البيت... مجاز في رصيف22
قد يظن أحدكم أنني أفتعل هذا السياق وأنني لم أقرأ هذا المقطع في اليوم الذي كان عليّ أن أحزم فيه حقائبي مغادرة لبيت جديد، سأتفهم ذلك إن لم تكن تؤمن بالأبراج، أو تضحكك فكرة التاروت، أو يضجرك مشهد قراءة فنجان القهوة، أو بطريقة دقيقة ومعقدة تؤلمك فكرة البيت لأن هذه الأشياء لأولئك الذين يؤمنون بترتيبات السحر والمعجزات.
حين التقيت الحارس في حقل الشوفان
عندما وصلنا وفي الليلة الأولى ودون سابق ترتيب، تفاجأت أنني في بيت كما لو أنه بيتي، لم يكن لرفوف الكتب علاقة مباشرة بذلك، لا يقرأ الأتراك الإنجليزية، ليست هذه حقيقة بالطبع تعتمد عليها للتعرف عليهم، لكن هذا ما لاحظته، حتى مكتباتهم في أكثر الأماكن حيوية لا تحتوي على كتب إلا بلغتهم. ونظرتي الخاطفة عندما جئنا لتفقد البيت أول مرة ظنت أن الأمر ينطبق على مؤجرنا الجديد، سرعان ما سأكتشف أنني واهمة، نسخة قديمة من "الحارس في حقل الشوفان" يحمل توقيعاً في نيويورك 1985، ملقى عليها صورة أظنها للمؤجر في درج سفلي في صالة البيت.
لديه دفاتر يجمع فيها الطوابع، حالما اكتشفت طوابع من الإمارات وتونس والجمهورية العربية المتحدة واليمن الجنوبية واليمن المتوحد... خفق قلبي، ناشدة ذلك الاعتراف بأن يكون لبلدي مكان هنا، رغماً عن كل الذين قالوا لي يوماً: "هل أنتم موجودون بالفعل؟ لم نسمع عنكم، لا نراكم كثيراً"، وكان أن وصلتُ لصفحة خاصة بطوابع عُمان، كل الطوابع عليها صور لأسماك. ندت عن شفتيّ ابتسامةٌ ساخرة.
بحثي المتواصل عن مكان يصبح بمثابة البيت لي وفشلي في العثور عليه، فيه شيء يشبه ملحمة يونانية قديمة، أو ببساطة نشدانٌ حزين للمرور في مطهر دانتي، أما الآن فكل الوقت للجحيم، أمامي في المكتبة باللغة التركية "الماء والأحلام" لغاستون باشلار، و"قصائد إيروتيكية" لجورج باتاي، ومقالة طويلة عن العنصرية لجيمس بالدوين، وبالإنجليزية مانغا للكبار فقط وقصائد لإيميلي ديكنسون.
عدتُ للصورة فوق كتاب "الحارس في حقل الشوفان"، فأنا لم ألتق المؤجر بل اكتريتُ الشقة من وسيط عقاري. تأملتُ فيه كثيراً، محاولة التعرف على ما إذا كان تركياً؟ لماذا لا توجد كتبٌ لأتراك إذن؟ أحسستُ بأن المكان مثل مغارة بعيدة، وانهيتُ الرواية الصينية التي أقرؤها، ونمت.
عندما استيقظتُ في اليوم التالي، لم يكن ذلك الرجل الذي كان يقلّب دفاتر الكوميكس إلى جانبي، وحقيقة الأمر، لم يكن أكثر من حلم جنسي راودني بمجرد الانتقال لشقة القبو؛ ظهر يتصفح قصص المانغا المليئة بالنساء اللواتي يكتب عنهن الرجال، متمعنات، أو يهجمن على القاتل المتسلسل لأنهن يرغبنّ به، عذراوات، وقبل الموت لا يردن شيئاً سوى أطول رجل في القصة، صاحب تقليعة الشعر الغريبة الذي يبدو غامضاً لفرط عمقه حتى وإن كان مجرد قاتل متسلسل آخر، وثمة سؤال تبادر إلى ذهني في تلك اللحظة: هل كان يشبه صورة المؤجر فوق كتاب الحارس في حقل الشوفان؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
علامي وحدي -
منذ 3 ساعات??
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 23 ساعةرائع. الله يرجعك قريبا. شوقتيني ارجع روح على صور.
مستخدم مجهول -
منذ يومحبيت اللغة.
أحضان دافئة -
منذ يومينمقال رائع فعلا وواقعي
مستخدم مجهول -
منذ 6 أياممقال جيد جدا
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعحب نفسك ولا تكره الاخر ولا تدخل في شؤونه الخاصة. سيمون