شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

ساهم/ ي في صياغة المستقبل!
مكيافيللي ولبنان... كيف يمكن القضاء على مكامن الانهيار، وعلى رأسها سلطة الانهيار؟

مكيافيللي ولبنان... كيف يمكن القضاء على مكامن الانهيار، وعلى رأسها سلطة الانهيار؟

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الثلاثاء 2 نوفمبر 202108:41 ص

يقول الفيلسوف الإيطالي نيقولو مكيافيللي، في الفصل الثامن عشر من كتابه "الأمير"، والذي يرد تحت عنوان "كيف يتوجّب على الأمير أن يحافظ على عهوده؟": "على الأمير الذي يجد نفسه مرغماً على تعلّم طريقة عمل الحيوان، أن يقلّد الثعلب والأسد معاً. إذ إن الأسد لا يستطيع حماية نفسه من الأشراك، والثعلب لا يتمكن من الدفاع عن نفسه أمام الذئاب. ولذا، يتحتم عليه أن يكون ثعلباً ليميز الفخاخ، وأسداً ليرهب الذئاب".

يمكن تعميم هذا القول، لا ليطال الأمير، أو الملك، او رجل الدولة بشكل عام، بل ليحوي المجموعات السياسية، والتغييرية، والحزبية القائمة، في أي دولة، كذلك. تلك المجموعات التي تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدمٍ في أي نظام، أو التي تحاول مقارعة هذا وذاك من الأنظمة، بهدف تحطيمه واستبداله بآخر، من خلال بسط هيمنتها والاستيلاء على السلطة. بل لا بد لهذه المجموعات، ليس أن تتحرر من القراءة الأخلاقوية السائدة فحسب، والتي عادةً ما يحشرها النظام في زاوية يحتّم عليها أن تلجأ إليها، لأنه يعرف جيداً أنها محصورة، ولا تغيّر في المعادلة أي شيء، بل يهدف من خلالها إلى حشر تلك المجموعات بهدف شل حركتها، وتقويض خطرها وفعاليتها، ولاحقاً القضاء عليها.

هذه الهجمات وغيرها، بالإضافة إلى إخفاق المجموعات في التمتع بدهاء الثعلب وحنكته، على المستوى السياسي، أدى إلى خوف الناس وإحجامهم عن المشاركة في التحركات، وأدى لاحقاً أيضاً إلى ضمور الحركة الشعبية، وعدم قدرة هذه المجموعات على تحويلها إلى حركات سياسية تقضم المزيد والمزيد من النظام، وقواه

هذا ما وقعت ضحيته الكثير من الحركات التغييرية، ليس على مستوى لبنان حصراً فحسب. لكن في لبنان، أخفقت هذه المجموعات والأحزاب والائتلافات، ليس في التصرف كثعلب يكشف الخبائث والفخوخ التي تنصبها السلطة، بل أيضاً التصرف كالأسد في سعيه للدفاع عن نفسه من جهة، ولترهيب السلطة وأحزابها، من خلال تبديد خطر ميليشياتها وعصاباتها من جهة أخرى.

فبلمحةٍ سريعة، يمكننا أن نستذكر هجمات جمهور الثنائي الشيعي على الانتفاضة في وسط بيروت، وفي الجنوب والبقاع، حين أحرقوا الخيم، واعتدوا بالضرب والسحل على جميع من كانوا فيها. كما نستذكر هجمات الحزب الاشتراكي في الشوف، وفي عاليه، ليس على الخيم فحسب، بل على التظاهرات والتحركات الجزئية كذلك. ومن دون أن ننسى، بالتأكيد، هجمات المستقبل والتيار الوطني الحر في مناطق نفوذهما، وصولاً إلى الساحات في رياض الصلح، وفي الشهداء. هذه الهجمات وغيرها، بالإضافة إلى إخفاق المجموعات في التمتع بدهاء الثعلب وحنكته، على المستوى السياسي، أدى إلى خوف الناس وإحجامهم عن المشاركة في التحركات، وأدى لاحقاً أيضاً إلى ضمور الحركة الشعبية، وعدم قدرة هذه المجموعات على تحويلها إلى حركات سياسية تقضم المزيد والمزيد من النظام، وقواه.

علماً أن هذا النوع من الهجمات، لم يتم شنّه للمرة الأولى في الانتفاضة الأخيرة، بل لقد تعرضت الحركات التغييرية كافة في لبنان، لهجمات من هذا النوع. قبل الحرب الأهلية، وخلالها، وبعدها. أحياناً على شكل اغتيال قياداتها، وأحياناً على شكل ضرب جمهورها وبيئتها، وترهيبهما. من دون أن تفكر هذه المجموعات والأحزاب في ضرورة تحويل نفسها إلى أسودٍ تدافع عن نفسها، وعن ناسها وجمهورها، فترد الصاع صاعَين، كأن ترهب تلك الأحزاب، وتجعلها تفكّر مرات عدة، قبل الإقدام على أي حماقة من هذا النوع.

في جميع الأحوال، ما نحاول قوله هو أن النزوع الأخلاقوي، لا تلجأ إليه ولا تمارسه أحزاب السلطة، إلا حين تريد أن تحشر الجماعات المعارضة لها فيه. هو نزوع قاتل، لا بل نزوع لا بد من مساءلته ومحاربته حين يدخل عالم السياسة، وديالكتيكها، وديناميتها، حيث يتحول كل شيء نسبي ومرتبط بسياق، إذ إن هذا التراث الحداثي من غير الممكن العودة إلى ما قبله، إلا إذا ما أردنا تحويل السياسة بأكملها إلى مبحث في الأخلاق. وهذا ملعب النظام وقوى السلطة، على وجه التحديد، خصوصاً عندما تحاول أن تنصّب سلوكها ومقارباتها بوصفها السلوك والمقاربة الأخلاقية المطلقة.

كيف يمكن تغيير حالة البلاد من العطب الذي قامت عليه منذ تأسيسها؟ كيف يمكن القضاء على مكامن الانهيار، وعلى رأسها سلطة الانهيار؟ وأخيراً، وليس آخراً، كيف يمكن تحرير هذه الدولة من نزوع طائفي يشرذمها، فيضعفها إلى نزوعات أخرى متنوعة تغنيها؟

هذا النزوع المكيافيللي الذي تفتقده جماعات المعارضة، ليس نزوعاً في القيمة، بل هو نزوع في منهجية العمل، ولا تسري عليه المعايير الأخلاقية كافة التي حاولت الكثير من القراءات إقحام مكيافيللي فيها. فكتاب "الأمير"، وكتاب "الليفياثان" لهوبس، ليسا إلا نزوعاً مختلفاً في الأخلاق الفردية الأنانية أولاً وأخيراً. وهذا يعني أن على الحركات المعارضة أن تتحرر من قيم السلطة وأخلاقياتها، حين تعمل على مقارعتها، بل عليها أن تحمل نموذجها الأخلاقي الخاص والمتخيل، الذي يساعدها في بلورة رؤيتها، وتعبيد الطريق أمام حركتها، وإلا فستبقى ضحية مقاربات السلطة، وتالياً هيمنتها.

يجوز أن يذهب البعض إلى رفض هذه المقاربة من وجهة نظرٍ تقوم على رفض مقولة "الغاية تبرر الوسيلة"، وما إلى ذلك من منطلقات أخلاقوية يمكن أن ترمى بكافة الأشكال الممكنة. إلا أن النقطة المحورية في فكر مكيافيللي، كانت في تلك الآونة، ولا يمكن غض الطرف عنها في أي لحظة يعود القارئ فيها إلى هذا التراث، وهي أن مكيافيللي كان يسعى من خلف كتاباته كلها إلى توحيد إيطاليا، وإلى جعلها دولةً أمة تضاهي وتقارع بقية الأمم. وهذا ما يجب أن يهيمن على منظورنا كتغييريين على وجه التحديد، وإن كان بأشكال وأسئلة مختلفة تراعي مرور الزمن، وخصوصية المواجهة في آن: كيف يمكن تغيير حالة البلاد من العطب الذي قامت عليه منذ تأسيسها؟ كيف يمكن القضاء على مكامن الانهيار، وعلى رأسها سلطة الانهيار؟ وأخيراً، وليس آخراً، كيف يمكن تحرير هذه الدولة من نزوع طائفي يشرذمها، فيضعفها إلى نزوعات أخرى متنوعة تغنيها؟


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image