سنة 2015، قامت منصة إنستغرام بحذف صورة من الأداء الفني "الدورة الشهرية" للفنانة الكندية روبي كور، ما أحدث ضجة عارمة، وأعاد إلى الأذهان السلطة الأخلاقية التي باتت تفرضها وسائل التواصل الاجتماعي على أجسادنا، وعلى جسد المرأة بالخصوص.
وتدخل الصورة في باب ما يسمى فن "البرفورمانس"، الذي يعدّ من أكثر التيارات استفزازاً وصدمة في تاريخ الفن المعاصر، لأنه "فن بالجسد"، حيثُ المؤدي، يعتبر أهم عنصر ضمن التجربة، يسعى إلى الصدام مع المتلقي وجعله يعيد التفكير في قضايا إنسانية جوهرية، عبر توظيف الجسد كأداة لخلق ظرف بصري يسير في موازاة الحياة اليومية، ويشتبك معها لطرح فرضيات جديدة.
الفن بدم الحيض
الفن في خطر
لطالما اعتمدت عروض الفنان الأمريكي كريس بوردن ((1946-2015 على الارتجال والمفاجأة، وعرّض جسده إلى مخاطر مجنونة كادت تودي بحياته عدة مرات. إذ قام بحوالي 50 أداء فنياً استكشف من خلالها حدود جسده، بشكل مازوشي صادم يُلاعب "الخطر" بصفته التجربة الفنية الأعمق، ولُقّب بـ"الفنان الذي أطلق النار على نفسه".
حين كان طالباً، اقترح لأطروحته الجامعية حبس نفسه في الخزانة لمدة خمسة أيام، وازدادت أعماله ضراوة بعد ذلك؛ نجده في برفورمانس"Shoot" يطلب من مساعده أن يطلق عليه النار ببندقية من مسافة 15 قدماً. تم توثيق العرض في فيديو مدته ثماني ثوان، يُظهر كيف استقرت الرصاصة في كتفه الأيمن ونجا من الموت بأعجوبة. لكن المثير للاهتمام أن أحداً من الحاضرين في الأداء لم يتدخل أو يعترض على الفعل المُميت المُحتمَل.
أحدثت الشاعرة والفنانة روبي كور ضجة عارمة في الوسط الفني الإعلامي، حين استلقت نائمة على سرير موجهة ظهرها إلى الكاميرا، بينما تقع أعيننا على بقعة دم بين فخذيها، وبقعة ثانية على السرير، صدمت حمرتها "أعين المراقبة" على إنستغرام وأدت إلى حذف المنشور
وفي "Deadman" استلقى كجثة هامدة في منتصف الشارع كي يراقب ما سيفعله المشاة حين يعترض طريقهم شخص ميت. وانتهت التجربة بأن اتصل واحد منهم فقط بالشرطة بعد مضي حوالي نصف ساعة.
يسائل الفنان الجسد وما يتعرض له من مخاطر يومية، سواء بفعل الحوادث أو الحروب أو ما يُسلّط عليه من عنف سياسي وثقافي واجتماعي. في أحد الأعمال يصلب جسده نصف العاري على صندوق سيارة تدور بأقصى سرعة لمدة دقيقتين وسط لوس أنجلوس. كأنه يُعايش تجربة الموت لأناس راحوا ضحية حوادث سير موجعة، حين كانوا في طريقهم إلى مقر عملهم أو متوجهين لقضاء حاجاتهم اليومية، فالموت في كل مكان، والإنسان يواجهه بجسد وحيد.
الثقة رابطنا البشري
تقدم الفنانة الصربية المعاصرة مارينا أبراموفيتش، أعمالاً أدائية تختبر على نحو كبير التحمّل وقيود الجسد. وتقول إن أصعب الأعمال التي تؤديها هي تلك التي لا يكون فيها شخص يتحكم بمجرى الأمور، ومن بينها عمل "طاقة الاسترخاء" الذي أدته مع شريكها الألماني الفنان يولاي في أمستردام عام 1980، يقف الفنانين في مواجهة بعضهما البعض ويقوم هو بتوجيه سهم مشدود على قوس نحو قلبها مباشرة، في وضع مثير ومخيف. وكان الفنانان يسندان القوس بثقل جسديهما المنعكس بالاتجاهين، وقد ثبّتا ميكروفونات قرب قلبيهما، لرصد الدقات التي بدأت تتسارع وتصبح أكثر حدّة مع مرور الوقت. وتقول أبراموفيتش: "دام الأداء أربع دقائق لكنها بالنسبة لي كانت تبدو وكأنها الأبدية، العرض عن الثقة التامة والكاملة".
ويثير العرض فكرة الهشاشة والثقة الكاملة في الشريك، إذ تبدو أبراموفيتش الطرف الأضعف الخاضع هنا، إلا أننا نشعر بتلك القوة التي ساهمت بها. الشريكان يساهمان في ذات الوقت في التوتر الذي يضعانه على القوس والنتائج المحتملة لهذه التجربة. لم تصب أبراموفيتش بأي أذى يذكر، ولم تفقد ثقتها في شريكها رغم خوفها الذي رصدته الميكروفونات، ولم يـخُن يولاي تلك الثقة. لكننا نتساءل: ألم يفكر ولو لثانية في إطلاق السهم؟ وماذا لو انفلت السهم بلا قصد؟ إلى أي حدّ يمكن أن نأمن على حياتنا ونحن نضعها في يد الآخر؟ أليست الثقة سلاحاً قاتلا كقوس النبال قد تهلك في أي لحظة الطرف الأضعف؟
ضمن السياق العربي، ولأن الفن ظل دائماً يستفز من يحمل سيف التحريم والرقابة، اضطر الفنان المغربي منير فاطمي، الذي يعتمد في أعماله على الصدامية المباشرة، أن يسحب تجهيز فيديو يحمل عنوان "تكنولوجيا" بعد أن أثار غضب بعض المسلمين
ميليشيا الثقافة
بيوت مهدّمة وأخرى مهجورة، قنابل ومفخخات، صرخات مكتومة، ودماء تكسو ملابس الجرحى؛ من هذه العناصر اتخذت جماعة "ميليشيا الثقافة" الشعرية العراقية أرضاً لها، لتقول للعالم ما آل إليه بلدهم من خراب. وهي حركة تضّم شعراء عراقيين يستمدّون قصائدهم من الواقع، ويؤدّونها ضمن ما يسمى بـ"شعرية الأداء" و"شعر-حركة"، في أمكان تجذب الانتباه وتصدم أحياناً بعنفها وخطورتها: كحقول الألغام والمقابر والمفاعلات النووية أو في أماكن تفجيرات السيارات المفخخة. يركضون إلى هذه الأماكن بعد الحدث مباشرة لتمتزج القصائد برائحة الدم والبارود.
الشاعر في ميليشيا الثقافة مدرك لما يعيشه العراقي في بلد متفكّك، لكنه يتحدى صورة الموت المتواصلة، نرى المؤدّين يربطون أنفسهم بسلاسل أو داخل قضبان بملابس المحكوم عليهم بالإعدام ويكون الإلقاء جماعياً. كل واحد يلقي قصيدته بطريقته الخاصة، ما يضعنا أمام لوحة فنية مفزعة كصرخة في وجه التغريب والعبثية.
لا تدوسوا الآيات القرآنية
وضمن السياق العربي ذاته، ولأن الفن ظل دائماً يستفز من يحمل سيف التحريم والرقابة، اضطر الفنان المغربي منير فاطمي، الذي يعتمد في أعماله على الصدامية المباشرة، أن يسحب تجهيز فيديو يحمل عنوان "تكنولوجيا" بعد أن أثار غضب بعض المسلمين، وهو مستوحى من عمل لمارسيل دوشان "النقوش الدائرة"، واستعمل فاطمي آيات قرآنية تدعو إلى التقرب من الجمال والتشبث به انطلاقاً من الحديث النبوي "الله جميل ويحب الجمال"، لكن تقنية الضوء في إظهار الآيات قوبلت بالاحتجاج بدعوى أن زوار المعرض يدوسون على ظلال الآيات المقدسة.
اعتمدت الفنانة المصرية الراحلة آمال قناوي في أعمالها على الرمزية، والموازنة بين السريالية والتعبيرية. ومن بين عروضها الأكثر إثارة للجدل، برفورمانس "صمت الخرفان" الذي يصور حالة الخنوع والتبعية التي يعيشها الناس ويضع على الدمل المتقيح داخل نسيج المجتمع المصري وهو "الصمت"
صمت الخرفان
اعتمدت الفنانة المصرية الراحلة آمال قناوي (1974 – 2012) في أعمالها على الرمزية، والموازنة بين السريالية والتعبيرية، وخلق عوالم متخيلة لاستكشاف مساحات داخلية حميمة تتقاطع مع القضايا السياسية والاجتماعية والنسوية، خاصة في مصر. ومن بين عروضها الأكثر إثارة للجدل، برفورمانس "صمت الخرفان" (2009) الذي يصور حالة الخنوع والتبعية التي يعيشها الناس ويضع على الدمل المتقيح داخل نسيج المجتمع المصري وهو "الصمت".
لعبت قناوي دور راعية تقود قطيعاً من البشر منكسي الرؤوس، عابرين لشوارع وسط القاهرة، على أيديهم وأرجلهم. الفيديو هنا هو عمل تمرديّ ثوريّ صادم يعجّ بالألم ويرجّ الضمير الغافل. ألم يحوّل الصمت الشعوب العربية إلى جمادات عاجزة وإلى قطيع يزحف في استسلام ورضا؟ لقى مشروعها مقاومة وعداء من قيل الكثيرين الذين أوقفوها في الشارع ليسألوها عن سبب "استعبادها" للناس وإهانتهم ومعاملتهم الحيوانات، لكن يحق للفنان أن يلجأ إلى أي شكل من أشكال التعبير في سبيل هدف هو أهم هنا من أية اعتبارات شكلية أو أخلاقية مزعومة.
رقصة فرانكنشتاين
تحفر أعمال الفنانة البصرية الكويتية منيرة القديري في أدغال الهويات الجنسانية غير التقليدية، وتقلب الأدوار والمسلمات الجندرية واصفة نفسها بأنها "فرانكنشتاين الهوية العربية". إنه ذلك الفزع الجمالي الذي تنطلق منه لتضعنا أمام فرجة محيّرة، في عرض "وا ويلاه" وهي ترقص على أنغام أغنية كويتية شعبية قديمة، وتتنكر بهيئة المغني الذكر، لتقلب التراجيديا ورثاء الذات والحب المفقود إلى حالة هزلية، في حين يلعب دور المغنيات شبابٌ يرتدون زي النساء ويرددون: "مسكين يا قلب/براه الهوى/ ومن الوله، والحبّ/ شاف الغرابيل/ آه وا ويلاه".
جسد "كلي الوجود"
برفورمانس "حضور كلّي" للفنانة الفرنسية المعاصرة "أورلان" ORLAN، هو أكثر الأعمال الأدائية راديكالية منذ ظهور النوع بحسب النقاد. وينتمي إلى "الفن الجسماني" الذي يراوح بين التشويه وإعادة الترتيب الذي يحوّل الجسد إلى منتج مُعدّل جاهز الصنع باستخدام ما تقدمه التكنولوجيا.
وقد استعرضت أوران جسدها الذي يتم "تعديله" وهي تخضع لتسع عمليات تجميل علنية، كانت تُبث مباشرة إلى مختلف عواصم العالم. في هذا العمل استعانت بأحد الجراحين الأمريكيين المشاهير، ليحقنها بإبر سيليكون في أجزاء مختلفة من الوجه، كي تجسد "جمال الأنثى" كما كانت تصوّره اللوحات الأوروبية، وقد اختارت ذقن "فينوس" في لوحة بوتشيلي وشفتي "أوروبا" في لوحة فرنسوا موشير.
هذه السخرية من "الذكوري"، عبر الخضوع التام لمعاييره، ترينا القسوة الناتجة عن معايير الجمال المتغيرة باستمرار والتي يطالب المجتمع المرأة بالامتثال لها. وخلال العرض تكشف أورلان تدريجياً تحيزها وسذاجة التصنيف التي تفترض شكلاً لـ"جسد المرأة الجميلة".
يعتبر فن الجسد فئة فرعية من فنون الأداء، حيث يستخدم الفنان أو يُسيء استخدام جسده للإدلاء بفكرة ما، وقد ينطوي على المحرمات الاجتماعية مثل التشويه أو دفع الجسم إلى حدوده القصوى، ومن بين أكثر العروض إثارة للضجة، ما أقدم عليه فنان الأداء النمساوي رودولف شوارزكوغلر، سنة 1969، حين قطع عضوه الذكري
تشويه الأعضاء التناسلية
وفي سياق مختلف، ومن بين العروض الأكثر استفزازاً على الإطلاق، نجد عرض "السقوط في الفراغ، 5"، للفنان المعاصر والمجدد إيف كلاين. تراه في الصورة وهو يلقي بكامل جسده من على جدار، في الفراغ، لتلقطه عدسة الكاميرا قبل أن يرتطم بالأرض. فهل حاول الفنان فعلاً الانتحار؟
كانت أوروبا قد عرفت تعاقباً للأزمات والحروب والكوارث، ما دفع بالكثيرين إلى وضع حد لحياتهم جرّاء الضغوطات والاكتئاب وفقدان المعنى، كما حدث مع أزمة وول سريت وما تلاها من عمليات الانتحار المتكررة. وقد جاء هذا العمل الفني تجسيداً لتلك الفترة العصيبة. وهو صورة "مركّبة" لرجل يتظاهر بأنه ينتحر، تستمد قوتها كلها من اللحظة التي لا تظهر في الصورة حين يرتطم الجسد بالإسفلت، ونقف أمامها مشدوهين من الصدمة، لنعيد النظر في كل مآلات الحضارة ومآزقها التي ترمي بنا إلى اليأس.
يعتبر فن الجسد فئة فرعية من فنون الأداء، حيث يستخدم الفنان أو يُسيء استخدام جسده للإدلاء بفكرة ما، وقد ينطوي على المحرمات الاجتماعية مثل التشويه أو دفع الجسم إلى حدوده القصوى، ومن بين أكثر العروض إثارة للضجة، ما أقدم عليه فنان الأداء النمساوي رودولف شوارزكوغلر، سنة 1969، حين قطع عضوه الذكري، وانتشر خبر وفاته مرفقاً بنعي:
"قتل نفسه باسم الفن من خلال أعمال متتالية لتشويه الذات". لكن العرض كان محاكاة وليست إخصاءً ذاتياً حقيقياً. وفي محاولة لإثارة المزيد من الصدام عمد رودولف لرمي نفسه من نافذة من الطابق الرابع، وجاراه النُقاد في تطرفه حين رفضوا "العمل" واعتبروه غير فني، لأنه يتعلق بعملية انتحار مقصودة.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 5 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...