شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!
الفن الساخر تحت مجهر السلطة السياسية في الجزائر

الفن الساخر تحت مجهر السلطة السياسية في الجزائر

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

الأربعاء 26 مايو 202104:04 م

انتعشت الرقابة على الإنتاج الدرامي الساخر في الجزائر في السنوات الأخيرة، فالمقصّ السينمائي أصبح لصيقاً بها، خاصةً وأنها أصبحت تستقطب مشاهدات، واهتماماً واسعاً، ويبرز ذلك بشكل واضح من خلال نِسب المشاهدة العالية التي باتت تحققها.

وعلى الرغم من الوعود التي أطلقها صانع القرار السياسي الجديد في البلاد عبد المجيد تبون، بوضع نظام سياسي جديد يكفل حماية الحقوق والحريات، ويحقق التوازن بين مختلف السلطات، ويضمن أخْلَقة الحياة العامة، حتى أنه سنّ قراراً لم يسبقه إليه أحد، ولم يكن يخطر على بال سابقيه في الحكم، إذ أدهش الجميع بتعيين وزير منتدَب مكلف بالصناعة السينمائية، فإنّ كل البرامج الساخرة التي تُعرض على القنوات المحلية، وخاصّة المستقلة منها، لم تتحرر من "المقصّ السينمائي" الذي يقطع ما يحلو له من صوت وصورة، تنفيذاً للمادة الواردة في قانون السينما الجزائري، والتي تنص على ما يلي: "يحظر تمويل وإنتاج واستغلال كل عمل سينمائي يُسيء إلى الأديان، أو ثورة التحرير الوطني ورموزها وتاريخها، أو يمجّد الاستعمار، أو يمسّ بالنظام العام أو الوحدة الوطنية، أو يحرّض على الكراهية والعنف والعنصرية".

قصّ كل ما يمسّ بالنظام

وحالت جملة "يمسّ بالنظام العام" الواردة في هذه المادة دون بث أعمال عدة أبرزها السلسلة الجزائرية "دقيوس ومقيوس" التي مُنعت الموسم الماضي من البث على قناة الشروق (قناة محلية خاصة)، كما تم إيقاف بث المسلسل الفكاهي "دار العجب"، بسبب الجدل الذي أثارته حلقة من حلقاته الموسم الماضي، والتي تطرقت بتلميح واضح ومباشر وصريح إلى قضية الوديعة المالية المقدّرة بـ150 مليون دولار أمريكي، والتي قدّمتها الجزائر إلى تونس. وسخرت السلسلة الفكاهية بطريقة غير مباشرة من تصرّف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الذي قرر تقديم الوديعة إلى تونس كمساعدة، وهو البرنامج الذي خلق مشاكل دبلوماسية، وفق ما كشفه الرئيس تبون نفسه.

على الرغم من الوعود التي أطلقها صانع القرار السياسي الجديد في البلاد عبد المجيد تبون، بوضع نظام سياسي جديد يكفل حماية الحقوق... إلا أن كل البرامج الساخرة التي تُعرض على القنوات المحلية، وخاصةً المستقلة منها، لم تتحرر من "المقصّ السينمائي" الذي يقطع ما يحلو له من صوت وصورة

بالإضافة إلى ذلك، نجد المسلسل الفكاهي "عاشور العاشر" الذي انتظره الجزائريون الموسم الرمضاني المنصرم على أحرّ من الجمر. فهُو اسم لسلطان يتربّع على عرش مملكة غنية بالموارد المالية والطبيعية، غير أنها ضعيفة الوجود بسبب الفساد والمحسوبية. وكان السلطان يعيش في مملكته العاشورية حياة "البذخ" و "الترف"، على أعقاب ما تدرّه أموال النفط الخام، ويُعرف هذا الأخير بممارسة كل أنواع الديكتاتورية والاحتكار على شعبه المنغمس في الفقر المدقع.

وعلى غير العادة، جاء مسلسل "عاشور العاشر" مخيّباً لآمال الجزائريين الذين انتظروه بشغف كبير، بسبب معايير الرقابة المعتمدة من قِبل التلفزيون الحكومي، إذ كشف ممثلان من داخل العمل، هما "أحمد زيتوني" الملقب في العمل الكوميدي الساخر بــ"الأمير لقمان"، والممثل الجزائري "مروان قروابي" المعروف بـ"الهواري"، عن تعرض حلقات للقصّ. فأحمد زيتوني قال إن "أحداث الحلقة الثانية التي بثها التلفزيون لا علاقة لها بما تم تصويره"، حتى أنه وصف إقدام التلفزيون الحكومي على قصّ مشاهد من الحلقة بـ"العار"، وفي التوقيت نفسه تقريباً قال قروابي: "التلفزيون قصّ مشاهد كثيرة من الحلقة"، وخاطب القائمين على هذه المؤسسة بالقول: "احترموا على الأقل جهد الناس، فالأحداث تجري في المملكة العاشورية، وليس في الجزائر".

ونفى مدير التلفزيون الجزائري السابق تدخلّه في توجيه محتوى العمل بشكل لا ينتقد السُلطة السياسية الجديدة في البلاد، أو ممارسة أي نوع من الرقابة على السلسلة، وأكد أنها "عمل فني يضحك فيه الجمهور على أشياء نعرفها جميعاً".

وإذا كان العمل قد تضمن في نسخاته التي بُثت في السنوات الماضية، مشاهد حقيقية عما عاشته الجزائر طوال العقدين الماضيين، أي خلال حقبة الرئيس الجزائري السابق المخلوع عبد العزيز بوتفليقة، غير أن السطحية التي تبنّتها النسخة الجديدة في معالجة الأحداث والمستجدات المفصلية التي تعيشها الجزائر، أنزلتها إلى ما دون السقف الذي يرفعه الحراك الجزائري منذ 22 شباط/ فبراير 2019، على الرغم من تضمُّنها بعض التطورات في أعلى هرم السلطة في البلاد، كمقتل القائد جواد بسبب مؤامرة حيكت ضده داخل المملكة. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الأخير قُدِّم إلى المشاهد الجزائري على أنه الشخصية الشعبية المحافظة على مصالح سكان المملكة، والقائد الذي يظهر تعاطفه وحبه للشعب بشكل يتطابق مع الأحداث السياسية التي عاشتها البلاد خلال العامين الماضيين.

وتؤكد تصريحات البطل السابق للمسلسل صالح أوقروت في مختلف وسائل الإعلام المحلية، وجود تغييرات عميقة وغير مفهومة في النسخة الجديدة من هذا العمل، إذ قال: "أعطاني المخرج رؤوس أقلام عن شخصية عاشور العاشر لم أشعر بها، وهو ما ترك عندي الانطباع بأنني لا يمكن أن أكونه". حينها، استنجد المخرج الجزائري جعفر قاسم بالممثل الفكاهي بلاحة بن زيان المعروف بشخصية "النوري"، في سلسلة "عاشور العاشر"، والذي لفظ أنفاسه الأخيرة في المستشفى العسكري في وهران عن عمر ناهز 68 سنة قبل أسبوعين.

نفى مدير التلفزيون الجزائري السابق تدخلّه في توجيه محتوى العمل بشكل لا ينتقد السلطة السياسية الجديدة في البلاد، أو ممارسة أي نوع من الرقابة على السلسلة، وأكد أنها "عمل فني يضحك فيه الجمهور على أشياء نعرفها جميعاً"

مصدر قلق 

وأصبحت السلطة في الجزائر تخشى كثيراً من الفن الساخر، إذ يقول الباحث في الشؤون السياسية مبروك كاهي لرصيف22: "إن السلطة الجزائرية، وعلى مدار السنوات السابقة، تركت معارضيها يستخدمون هذا الأسلوب، ولم تهتم للأمر. لكن متطلبات المرحلة، وحساسية الوضع، واستراتيجية القرارات الحاسمة التي تريد السلطة اتخاذها في الوقت الراهن، جعلتها تُحكم قبضتها على هذا النوع من الفن الذي تجاوز تأثيره الجمهور الجزائري، إذ إن بعض المنظمات الحقوقية غير الحكومية باتت تعتمده كمصدر لأسباب عدة أبرزها أنّ الجزائر تُعدّ من الدول القليلة في العالم التي يصعب الدخول إلى أراضيها، بالإضافة إلى ضعف النظام المعلوماتي الوطني".

ومن منظور كاهي، فإن السلطة السياسية في البلاد اتخذت قراراً باستعادة ما كانت تستخدمه المُعارضة للإساءة إلى الدولة، ويقول لرصيف22: "إن للفن رسالة نبيلة، بما فيه الفن الساخر، لكن إن أُخرج عن سياقه فهو يصبح سلاحاً لضرب جهة أخرى، وتسجيل نقاط على حساب السلطة، ليخرج بذلك الفن عن رسالته النبيلة".

السلطة الجزائرية، وعلى مدار السنوات السابقة، تركت معارضيها يستخدمون هذا الأسلوب، ولم تهتم للأمر. لكن متطلبات المرحلة، وحساسية الوضع، واستراتيجية القرارات الحاسمة التي تريد السلطة اتخاذها في الوقت الراهن، جعلتها تُحكم قبضتها على هذا النوع من الفن

ووفق المحلل السياسي والإعلامي الجزائري أحسن خلاص، فإن القنوات الجزائرية البالغ عددها خمس قنوات حكومية، وقرابة عشرين قناة مستقلة، صارت تمارس الرقابة على نفسها قبل أن تمارسها عليها السلطة. ويقول لرصيف22: "إن القنوات صارت تمارس الرقابة على نفسها قبل أن تمارسها عليها السلطة، والتلفزيون العمومي فضّل احتكار بعض الأعمال الرمضانية مثل المسلسل الفكاهي "عاشور العاشر"، ليمارس الرقابة الحصرية والقبلية، ولا يضطر السلطات لممارسة الرقابة البعدية عليه لو بُث على القنوات الخاصة".

ولوحظ في السنوات الأخيرة ارتفاع نسبة المشاهدة لبعض الأعمال لارتباطها بالواقع السياسي والاجتماعي، وبحسب ما يؤكده المحلل السياسي أحسن خلاص، فإن "هذه الأعمال أصبحت تعيق السلطة في الظرف الحالي، لأن البلاد تمر بمرحة حساسة سياسياً ومليئة بالصراع والتجاذبات".

وحسب البرلماني السابق عن حركة مجتمع السلم الجزائرية (أكبر الأحزاب الإسلامية في البلاد)، أحمد صادوق، فإن السلطة السياسية في البلاد "أصبحت تستعمل أدوات الرقابة والتضييق بشكل مبالغ فيه، والأصل أن تترك حرية التعبير والرأي بشرط احترام أخلاقيات المهنة، وعدم التجريح بالأشخاص والهيئات، وعدم المساس بالثوابت والقيم المجتمعية، خاصةً وأن الفن الساخر كالكاريكاتور أو المسرحيات الساخرة، أو الحصص التلفزيونية ذات الإيحاءات السياسية بطريقة ساخرة، هو تعبير عن حالة السخط وعدم الرضى عن السلطة و أدائها، ويمكن من خلالها تبليغ الرسالة للمواطن بطريقة مغايرة".

وينتقد صادوق بشدة الأسلوب الذي تنتهجه السلطة السياسية في البلاد، لأن التعبير حق أساسي من حقوق الإنسان، والدول تبنى وتتطور حينما يتحرر الإبداع، وتتحرر المبادرة، ونصل إلى مستوى من المراقبة الذاتية لا يمليها إلا الضمير المهني، والبحث عن الحق وتحرّي الصواب.

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard