"كلّ كلمات العالم كانت لدينا/ لكننا لم نقُلْ ما كان علينا قوله/ كلمة واحدة فقط كانت مفتقَدة/ ولم تکن كلمة أخرى سواها:/ الحريه!/ نحن لم نقلْها/ فارسميها أنتِ!". بهذه الكلمات أثنى الشاعر الإيراني الشهير، أحمد شاملو، الرسامة البارعة، إيران دّرّودي، التي رحلت عن عالمنا قبل يومين.
فقدت إيران يوم الجمعة الماضي 29 تشرين الأول/أكتوبر، إيران درودي، الرسامة الشهيرة التي كانت من روّاد الرسم الإيراني المعاصر، وأبرز وجه نسائي إيراني في الرسم، في داخل البلاد وخارجها، والتي اشتُهرت بـ"سيدة الرّسم في إيران". توفيت إيرانُ عن عمر ناهز الـ85 عاماً، بسبب أعراض مرض كورونا الذي أصيبت به قبل شهرين.
ولدت إيران عام 1936 في مدينة مشهد مركز محافظة خراسان الواقعة شمال شرق إيران في أحضان عائلة ثرية. كان والدها مهندساً معمارياً وخريج المدرسة المعمارية الروسية، وتاجراً، ومحبّاً للفن وخاصة الرّسم، ووالدتها مهاجرة من منطقة القوقاز تعزف البيانو.
اعتقدت إيرانُ أن الرسم هو الذي اختارها وليس هي من اختارته، حيث كان الرسم عنصراً أساسياً في مصيرها منذ ولادتها، كما تقول، وكانت جدران البيت الذي ولدت فيه مليئة بلوحات أشهر الرسامين الروس، التي كان والدها قد جلبها من روسیا.
"هدفي الرئيسي في الرسم والحياة هو الوصول إلى النور. النور في كل مكان. المهم هو أين نبحث عنه أو أين نجده"
في عام 1937 انتقلت عائلة إيران إلى مدينة هامبورغ الألمانية بسبب عمل الوالد الذي أسس مركزاً تجارياً له في هذه المدينة، لكن العائلة أجبرت على مغادرة ألمانيا بعد بدء الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1945 عادت إلى مدينة مشهد، ثم انتقلت بعد ذلك إلى طهران.
شاركت إيران في صفوف لتعليم الرسم خلال دراستها في مدارس طهران، وبعد إنهاء الثانوية عام 1954 انضمت إلى شقيقتها "بوران" في باريس، التي كانت تدرس الموسيقى، وبدأت دراسة الرسم في مدرسة باريس العليا للفنون الجميلة (بوزار)، وواصلت دراستها حتى عام 1958 في معاهد فنية مختلفة في فرنسا، وبلجيكا. في إيطاليا، التقت بمشاهير السينما مثل أورسون ويلز، وكلود شابرول، وأنتونيوني، كما أنها التقت بجان كوكتو في مهرجان الشعراء البلجيكيين.
عادت إيران في عام 1960 إلى طهران، وتمت دعوتها إلى جامعة "شَريف" الصناعية لتعليم تاريخ الفن. ثم انتقلت إلى نيويورك لدراسة الإنتاج والإخراج التلفزيوني. وأقيم أول معرض فردي لها في فلوريدا في عام 1958 بدعوة من مركز ولاية فلوريدا للفنون.
في عام 1967 في مدينة نيويورك تزوجت من برويز مقدَّسي، الإيراني الذي كان يدرس الإخراج التلفزيوني في نفس المدينة، ثم انتقلا بعد الزواج إلى طهران، وعملا في مؤسسة التلفزيون الإيرانية كمنتجين ومخرجين لمدة 6 سنوات، أنتجت خلالها إيرانُ نحو 80 فيلماً وثائقياً عن الفن والفنانين للتلفزيون الإيراني.
في عام 1968، وبناءً على طلب شركة ITT التي نقلت النفط من مدينة عبادان إلى معشور في محافظة خوزستان، جنوب غرب إيران، رسمت لوحة تُعرف بلوحة "النفط"، والتي سمّاها اشلاعر الإيراني أحمد شاملو "عروق الأرض، عروقنا"، انتشرت صورتها بشكل واسع في العالم، لاسيما في الصحف الأمريكية، وجلبت لها شهرة عالمية.
انتهت حياتها الزوجية بوفاة زوجها برويز عام 1985، التي أثرت كثيراً في نفسيتها وفي أعمالها، ولم تتزوج إيران مرة ثانية في حياتها.
أقيم معرض درودي الأخير قبل الثورة الإسلامية في إيران عام 1978، وبعد 14 عاماً على حدوث الثورة، أي عام 1992 تمكنت إيران من عرض أعمالها في إيران، وكانت قد قضيت معظم أيامها في فرنسا بعد الثورة الإسلامية، لكنها عادت قبل سنوات إلى إيران، وعاشت فيها حتى نهاية حياتها.
في عام 1999 أصيبت بمرض السرطان، لكنها طيلة إصابتها بالمرض لمدة 22 عاماً، وتداعياته على حياتها، لم تخضع له، ولم تأخذه على محمل الجد، بل استمرت في العمل الفني، وكانت تصف المرض بأنه "معجزة في حياتها يذكرها بقيمة الحياة، ويملؤها بالحب كل ثانية".
إلى جانب شهرتها الواسعة في إيران، لاقت أعمال إيران استحساناً في أوروبا والولايات المتحدة، وأشاد بها شخصيات فنية بارزة مثل أندريه مالرو، وسلفادور دالي. وخلال أكثر من 70 عاماً من النشاط الفني، عرضت إيران أعمالها في أكثر من 70 معرضاً فردياً و 250 معرضاً جماعياً في طهران ومدن أخرى في إيران وحول العالم. وقد صدر لها خمسة كتب؛ أربعة كتب مصورة وکتاب سيرة ذاتية تحت عنوان "في مسافة النقطتين".
"كلمة واحدة فقط كانت مفتقَدة/ ولم تکن كلمة أخرى سواها:/ الحريه!/ نحن لم نقلْها/ فارسميها أنتِ"
ويحتضن متحف طهران للفن المعاصر، ومتحف كِرمان للفنون الجميلة، وقصر ومتحف سعْدآباد في طهران، ومتحف إيكسل البلجيكي، ومتحف نيويورك للفن المعاصر، أعمالَ إيران درّودي إلى جانب أعمال فنانين عالميين.
يصف بعض النقاد أسلوبها بأنه أسلوب يمزج بين السريالية والرمزية. ويعتقد البعض الآخر أنها لا تنتمي إلى أي من الأساليب التقليدية في الرسم، وأنها لها أسلوبها الخاص الذي أسموه "إيران دَرّوديسم".
ومن خلال رسم الأزهار الخاصة، باعتبارها علامة على الأنوثة والخلود والأمل، والإضاءات الغريبة، حاولت إيران أن تقوم بتصوير أفكارها وأحلامها، وأن تعبر عن مفاهيم أساسية في ثقافتها الإيرانية، متأثرةً غالباً بأشعار جلال الدين الرومي وحافظ الشيرازي. لم تستخدم إيران اللون الأسود في رسمها، بل هي معروفة باستخدام الضوء في أعمالها، وبرسومها المُضيئة، ذلك ما جعلها توصف بـ"سيدة الضوء".
تقول إيران عن أسلوب عملها: "أنا لست ملتزمة بالتقنية، ولا أعرفها. أحاول أن أرسم بإيجاز قدر الإمكان وأنسى قدر الإمكان قدرتي على الرسم عندما أرسم. اللوحة شعور، لا تحتاج إلى أن تعملوا عليها بأسلوب خاص. أحاول التعبير عن الشعور أكثر من إظهار شيء ما أو التذكير بشيء ما. هدفي الرئيسي في الرسم والحياة هو الوصول إلى النور. النور موجود في كل مكان. المهم هو أنه أين نبحث عنه أو أين نجده".
ولم يعتبر سلفادور دالي، أن أسلوب إيران قريب من أسلوبه، كما يعتقد البعض، ووصفها بأنها فنانة من الشرق تتمتع بذوق وموهبة لانهائية.
وقال أندريه مالرو عن لوحاتها: "تحاول إيران درّودي أن تكشف عن العظمة والحقيقة التي لا يستطيع الأشخاص أن يجدوها بأنفسهم". وقد وصف الرسام المكسيكي الشهير أنطونيو رودريغيز، إيران، بأنها أحد أعظم الرسامين الأحياء في العالم.
إلى جانب الرسم، نشرت إيران عشرات من المقالات البحثية والنقدية، وأنتجت نحو 80 فيلماً وثائقياً عن الفن والفنانين، والتقت وصادقت أهم الفنانين والمفكرين في العالم، ولم تتوقف عن العمل حتى آخر أيام حياتها. وكانت تقول دائماً إنها إذا ولدت مرة أخرى، فستعيش تماماً على نفس الطريقة التي عاشتها.
قال أندريه مالرو عن لوحاتها: "تحاول إيران درّودي أن تكشف عن العظمة والحقيقة التي لا يستطيع الأشخاص أن يجدوها بأنفسهم"
تقول إيران: "فترة عملي الحقيقي فی الرسم بدأت في سن الثانية والثلاثين عندما كنت أبحث عن النور، وحين بدأتُ البحث عن القيم الثقافية الإيرانية وعن إشارات من فكر وموقف الإيرانيين القدماء تجاه العالم. وأصبح لا مکان للعنف والمرارة والبرودة في أعمالي کالسرياليين. لهذا السبب أبتعد عن مدرسة السرياليين، وبطريقة ما فإن أعمالي ليس كأعمالهم. يمكن أن تكون أعمالي في نفس الإطار، لكنها لا تشبه أعمالهم".
وقالت إيران في مقابلة أجرتها معها إذاع "راديو فَردا" الفارسية والتي تُبث من خارج إيران، بمناسبة عيد النوروز الماضي: "اقتراحي لمواطني بلدي هو أن يحبوا إيران رغم جراحها".
كما تحدثت عن حلمها الأخير، وهو بناء متحف للوحاتها في طهران، وتحويله إلى مركز لتبادل الثقافة الإيرانية والعالمية، وقالت بأن السلطات تضع عراقيل أمام تأسيسه رغم حصولها على رخصة لذلك.
قد أوصت إيران بدفن جثمانها في متحفها الذي لم يكتمل تأسيسه حتى الآن، وليس واضحاً إلى اليوم أن هذا المتحف سيصبح المنزل الدائم لإيران درّودي أم لا؟ وبعد وفاتها هل يقوم شخصاً بتحقيق حلم إيران وإكمال مشروع متحفها أم لا؟ وتبقى إيران درّودي واحدة من بين الفنانين الإيرانيين الكثر الذين لم يتم تكريمهم بالقدر الذي يستحقونه خلال حياتهم فحسب، بل حتى بعد وفاتهم.
"لا أفكر في عزرائيل، وسأجعله فخوراً عندما يفكر بي. وسأقول له إنك مكافئتي ولست نهايتي، لأن الموت ليس خلاصي، إنه بداية أخرى لي"، هكذا كتبت إيران درودي عن الموت، قبل أن يدركها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 11 ساعةجميل جدا وتوقيت رائع لمقالك والتشبث بمقاومة الست
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ 3 أياممقال مدغدغ للانسانية التي فينا. جميل.
Ahmed Adel -
منذ 6 أياممقال رائع كالعادة
بسمه الشامي -
منذ أسبوععزيزتي
لم تكن عائلة ونيس مثاليه وكانوا يرتكبون الأخطاء ولكن يقدمون لنا طريقه لحلها في كل حلقه...
نسرين الحميدي -
منذ اسبوعينلا اعتقد ان القانون وحقوق المرأة هو الحل لحماية المرأة من التعنيف بقدر الدعم النفسي للنساء للدفاع...
مستخدم مجهول -
منذ اسبوعيناخيرا مقال مهم يمس هموم حقيقيه للإنسان العربي ، شكرا جزيلا للكاتبه.