الألوان المائية
أبالغ في إقفال حذائي الرياضي وأركض نزولاً من الشامة السوداء المغرورة أعلى كتفي الأيسر نحو جسدكَ الذي ثَبثُته داخل "روليت" ورقمتُه بأسماء الألوان.
هل تعرف عزيزي دييغو ريفيرا أنني كنت على وشك الارتباط بفنان تشكيلي ضخمٍ لاحمٍ يشبهك كثيراً، غير إنه لم يكن يميل إلى ارتداء "شورت برمودا" مثلك، لا لشيء إلا لأنه كان يخجل من الدوالي المتقرّنة المتوسعة على ساقيه. أما أنت فلم تكن تخجل من شيء. في جميع الأحوال أحب أن أقول لك إنني لا أثق كثيراً بالتشكيليين.
كم مرةً قلت لنفسي: "كوني جيليت... كوني ما يستحقه الرجال"، وكنتُ، عزيزتي فريدا كاهلو. نعم كُنت.
انظري كيف تلمع شفرة الحلاقة في يدي، وكم تبدو منطقة بطنِ وسرة دييغو مغرية. أفكر أن أنزعِ جلدها وأجففه، ومن ثم أصنع منها لوحة ألوان، أنتشي بتلك اللمعة في عينيك وأتخيل أصبعك يمسك لوحة الألوان من سرّة دييغو. لكن ماذا عن فرشاة الألوان؟ مما أُسويها؟ حسناً، أريد أن أجزَّ بالمرة الزغب الشائب من على صدر بابلو بيكاسو. لطالما أثارني... سنحصل في النهاية على فرشاة ألوان بديعة ومتناغمة مع الألوان. تعالي إذن نبدأ بتلوين الدوالي على ساقي دييغو...
عزيزي دييغو، ما بالُ شعر جلد جسدك انتصبَ هكذا ولم نبدأ بعد... أَمُتحمسٌ مثلنا؟ طيب، سأمشطه في النهاية. لا تقلق. الآن سأَلف عجلة الروليت في الاتجاه الآخر. ها أنت تدور وتدور وتدور. تفقد سرعتك بالتدريج وتقع على الـلـون، اللون الأخضر.
الأخضر يا فريدا
بَشرٌ يتعبون لي وبي، مَدٌّ منهم لا ينتهي. كان هذا الأخضر الذي حلمت به، وليتني ما حلمت.
لحسن الحظ أن النار ليست خضراء وإلا لتسببتْ بأذىً أكبر. ألا تتفقين؟
من بين أكثر ما يسوءني مما يقع تحت نظري هو العشب الحُرُّ الأخضر، يَقصُرُ كي لا يقتصّ منه ذابلٌ، لكنّ مجاورة جبل صغير من الإسمنت الناعم له، تخدشه وتخدشني.
الأخضر يعيش متنقلاً بين غرف العناية الفائقة، في محاولات حثيثة ليَفقأ الأكياس الجلدية المائية، مُشدداً على أن لكل شخص نقطه الخضراء مهما تمادت حقاراتُه. لا بأس.
لَفةٌ جديدة لعجلة الروليت. نقع على اللون؟ اللون الأحمر، الأحمر يا فريدا
يَهزم نفسه باستمرار ويبتسم لنا ببلاهة. لا يمكن لأحد أن يخلصه من تهمة الغرفات المشبوهة، بين دماء ساخنة على الطرقات، وزهرية على فراش الحب في تجربةٍ أولى لممارسة الجنس، وبين كونه من أدوات الإثارة الفاقعة. بين وضوحٍ في الاختراق المتسرع، ومجانية في الاندلاق المتعدد على كون واسع يدعوه الأحمر السهل التحققِ والرخيص باستمرار... I am coming .
لا أفهم لِم يلوّنون القلوب بالأحمر. القلب إجاصة شائكة صفراء وردية، مخلصة لحلولها داخل قالب حلوى مُشَمّع، نصفه جسد ونصفه الآخر روح.
آه. لم أحكِ لكِ عن ذلك المتشرّد المذموم حتّى من حاوية القمامة في ناصية الشّارع. كان يبحث في أحد أكياسها عن فوطة صحية نظيفة لسيدة قاطعتها العادة الشهرية من سنوات، يجرح يده ويبلّل الفوطة بالدم الأحمر القاني ثم يعيدها إلى مكانها. ما فعلتُه بالمقابل؟
بلؤم كما لو أنني صديقته الفادحة، جررته، وسط ذهوله، من يده ومصصت جرحه بفمي الذي أقرأ به الشِّعر.
كم مرةً قلت لنفسي: "كوني جيليت... كوني ما يستحقه الرجال"، وكنتُ، عزيزتي فريدا كاهلو. نعم كُنت. انظري كيف تلمع شفرة الحلاقة في يدي، وكم تبدو منطقة بطنِ وسرة دييغو مغرية... مجاز في رصيف22
آه. آه.
أحسست بشراهة مصاصي الدماء بعد ذلك الموقف، فتوجهتُ إلى مطعم قريب.
لم ينتبه أحد هناك إلى الكائنات الفضائية الجالسة على طاولتي. العجوز الإيطالي في الطاولة المقابلة بقي يحدق في الكاتشب المندلق على ملابسي، لكنه لم ينتبه إلى الدماء على فمي، وقد كنتُ انتهيت للتو من أكل صديقه الشاب الوسيم. إنه الأحمر خاصتي، محلّي التصنيع والتخزين، مزيج من ملعقة صغيرة من البابريكا وحبة صغيرة من الفلفل الحار وطماطم عنقودية. يُطبخ كل ذلك سريعاً على نار مخيلة شهوتي.
لَفةٌ جديدة لعجلة الروليت، نقع على اللون؟ اللون السيبيا، السيبيا يافريدا
أُصدّقه عندما يقول إنه خلقني من طين
فليصدقني
إنّ الدودة التي تسلّلت إلي أثناء تشكيلي
تنخرني من الداخل.
تنخر الطين اللزج.
هي حبيستي
وأنا حبيسته.
لَفةٌ جديدة لعجلة الروليت، وها هو أنف دييغو صار رطباً ومُبللاً. نقع على الــلون؟ اللون الأبيض، الأبيض يا فريدا
يذكرني الأبيض بالقطن، رَجُلي السِّرّي.
يذكرني الأبيض بحمامة ظلموها بالسّلام... المسكينة.
يذكرني الأبيض بالأورجازم كمَدخله الحقيقي. نشوة عظيمة تباغتني عندما تدفع الريح القوية إلى وجهي الملابسَ البيضاء المبللة على حبل الغسيل، فأتفجّرُ على شكل كبسولات غسيل صغيرة مُهيِّجة لِبُقعِ الشحوم والغرائز.
ويذكرني الأبيض
بدموعٍ قطّرتُها في علبة مكعّبات الثّلج
أدخلتها للثّلاّجة
كي أذوّبها عند الحاجة فوق عينيّْ.
وكان خوفي، كلّ خوفي
أن تنقطع الكهرباء أثناء الانتظار
عن الثلّاّجة
أو عن عينيّْ.
لَفةٌ جديدة لعجلة الروليت. أحكّ أنف دييغو لأساعده على العطس. نقع على اللون؟ اللون الأصفر، الأصفر يا فريدا
الأصفر يُسقِطُ "تويتي" على صدري باستمرار. يُبادرني: "لازلتِ تُطاقين، لازلتِ تُطاقين".
للأصفرٍ وساطةُ الصمغِ مع طفولتي. إنه اللون الــحارس. الملائكة كائناتٌ صفراء، وأعرف.
مستبدٌّ لذيذٌ هو الأصفر، يمنعني ما استطاع من الاستسلام: "لن تتحولي إلى حيوانٍ مُنَقَّط أبداً. جراحكِ عيونُ حشراتٍ داخليّةُ الأجنحة. سأنكأها بأعواد الخيزران".
لَفةٌ جديدة لعجلة الروليت. دييغو متعرّق. نقع على اللون؟ اللون التركوازي، التركوازي يا فريدا
لا أُغبط الفاتنات على صناعة الألعاب النارية شديدةِ الاشتعال.
أحسدهن على التركواز وحسب.
على حرائقه الصغيرة وحسب.
لَفةٌ جديدة لعجلة الروليت. وأخرى وأخرى وأخرى. يكاد أنف دييغو السميك يتضاءل بين يدي. نقع على الألوان؟ البرتقالي، البنفسجي، الأزرق والرملي. البرتقالي يا فريدا
إنه يعاني من اضطرابات في الدورة الدموية. إنه لون الموت بامتياز. لم أدخل مكاناً برتقالياً إلا وكان يعلن عن موتٍ قريب. عَرّابُ الفقد هذا اللعين، يجرّب أن يُفهمنا أنه كان لا بد أن نترك الأحمر والأصفر و شأنهما، بعيدين ومعزولين.
يذكرني الأبيض بالقطن، رَجُلي السِّرّي. يذكرني الأبيض بحمامة ظلموها بالسّلام... المسكينة. يذكرني الأبيض بالأورجازم كمَدخله الحقيقي. نشوة عظيمة تباغتني عندما تدفع الريح القوية إلى وجهي الملابسَ البيضاء المبللة على حبل الغسيل... مجاز في رصيف22
البنفسجي يا فريدا
كأن البنفسجي جنس ثالث. يدمج مني الأنثى التي تضجرها الكلمات المتقاطعة، والرجل الذي يركض وراء رسائل التضامن.
الأزرق يا فريدا
الأزرق الغيور، أزرق الوشاية، أزرق الكدمات، الخدع البصرية ودرجات الشحوب لا غير. يضحكونني عندما يتفاءلون بالأزرق وتأثيراته الإيجابية من قبيل الهدوء والسكينة والسلم والأمن والطمأنينة والثقة. في حين كل ما يخطر ببالي هو نفس السؤال الأبدي: "مَن ضرب السماء بأمنية لتنتهي كدمة زرقاء إلى الأبد".
الرملي يا فريدا
دائماً ما نفض الرمل جيوبه بمقربة مني، وهل عشت غير العدّ العكسيّ؟ أقلّب نفسي باختياري كساعة رملية جديرة، أنتهي و أُنهي ما ابتدأ بعجالة، حتى تبقى موافقتي شعرية ومتعثرة، ولأبقى الطارئة العابرة التي لم يشغلها سوى أن تظل عتبة ألمها خاصة وفريدة ووحيدة.
تمسكين أنفه، وهوووب... لَفةٌ جديدة لعجلة الروليت. أخيراً يعطس دييغو... آآتشي، آآتشي. أوووف... أنفلونزا ألوااان. تقعين على الـــلون؟ اللون الأسود. الأسود يا فريدا
إنه لوني المفضل. الأسود يرى ولا يُرى. شغوف ووحشي، غامض وأنيق وساطع ومستبد وقوي وهائل في الامتصاص والسحب. كم أحب تقصّف أظافري المصبوغة بطلاء أسود. أَهيمُ بتراجع الطلاء الأسود من على سطح أظافري.
الأسود قابض قدير. عدو للإجهاد العاطفي، ويجيد نَحْتنا كما لو أننا قَرع مضاء بفوانيس جاك، يحسنُ قراءتنا كقصص مخيفة وخائفة. يالـ "الهالوين".
إن كنا لا نعرف بداية العالم في حين نعرف نهايته، فالأسودُ يعرف. الأسود إله التحنيط الحقيقي وليس الإله أنوبيس.
الأسود يجعل الألوان المرافقة له أكثر إشراقاً وتحققاً والأسود أنت فريدا، ولا أسود سواكِ.
فريدا
بعد أن تكتمل لوحة الدوالي
ستأكل نفسها دون كلام
لأجل ذلك اللون الناقص فيها.
هل يمكن
أن آكل
طرف اللوحة
لو سمحتِ؟
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
HA NA -
منذ يومينمع الأسف
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت بكل المقال والخاتمة أكثر من رائعة.
Eslam Abuelgasim (اسلام ابوالقاسم) -
منذ أسبوعحمدالله على السلامة يا أستاذة
سلامة قلبك ❤️ و سلامة معدتك
و سلامك الداخلي ??
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعمتى سوف تحصل النساء في إيران على حقوقهم ؟!
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعفاشيه دينيه التقدم عندهم هو التمسك بالتخلف
مستخدم مجهول -
منذ أسبوععظيم