المحظوظون يملكون يداً تفتح لهم الباب. دخلت إلى بيروت دون أن تستقبلني الأيادي. كنت وحيدة جداً على المقعد الخشبي قبل أن أنطق اسمي بصوت مسموع. لم أرَ الأبواب ولم أفهم الطريق. لكن كان لي صديق رافقني حين دعتني المدينة للعب بسنواتي معها، دون أن أنتبه لمحدودية الوقت الذي أملكه.
أذكر رائحة البول العابقة بدوار الكولا ولطافة الناس الذين بحثوا معي في الحي المعتم عن الدبوس المفقود من شعري. عندما وجدوه ارتديته غير مبالية بما سقط عليه. أذكر وقوع نظري على شارع الحمراء. ليلة رأس السنة عام 2013 وصباح يومها الأوّل حين عاد صديقي من الصين. أذكر كل الوجوه التي صادفتها. وأحياناً، أذكر الحياة الطبيعية.
ما حلّ بنا غيّرنا بطريقة جذرية، والحياة التي اعتدناها، ربّما لم تكن الأجمل لكنّها كانت حياتنا.
الأسبوع الماضي، لمحت الحياة الطبيعية على زاوية الشارع. ومن ثمّ عدت وأدركت أين أنا. توجّهت نحوي امرأة واضح من طريقة سيرها أنها تريدني أن أعينها. قبل وصولها، بدأت أفكّر بالأجوبة. لو أنّي لم أنزل الهاتف عن أذني لكانت رأتني مشغولة وتوجّهت نحو غيري. كنت قد اتخذت قراراً وجدته صحياً مع نفسي. حين أخرج إلى الشارع أضع الموسيقى وأتجنّب سماع الناس. بهذه الطريقة تخفّ الأوجاع، يخفّ الواقع وتعود الوجوه في نظري عادية. لا أسمع الطفل يطالبني بالقليل من الحليب ولا الرجل يسأل عن وظيفة. لا ألمح الصرّاف، والشاب الذي يلقي رأسه بين يديه على الرصيف ليس في حالة تعب بل في حالة راحة. هكذا مع كل أغنية جديدة، أعيد ترميم الحاضر بالواقع القديم، وأشعر أننّا بخير.
باغتتني المرأة. سألتني: أين الدورادو؟ لم أفهم. منذ مدّة طويلة لم أسمع سؤالاً عادياً لهذه الدرجة في مكان عام. صوّبتها نحو وجهتها، وفي ارتدادات اللحظة، قرّرت أن أحكي يارا لنلتقي في مكان ما. نسيت أنّني راقبتها في أواخر الشتاء الماضي، تختفي في نهاية شارع المقدسي حاملة جسدها نحو البلاد البعيدة. وبقيت أنا هنا على شرفتي، ألوّح لها مع من تبقّى منّا. إلى أن تعود وأراها تتحرّك قبالتي، سأظل أذكرها هكذا، جالسة على الكنبة في أمسية عادية. محاولة رفع خصلة شعرها عن وجهها. فرحة بأغنية يا أهل الدار.
المدينة انفجرت ونحن كنّا بداخلها. وحين تداعت، حملنا ما تبقّى من قلوبنا المبتورة بعيداً عن حافّة التعب. هذه القلوب، حين مرّ الربيع عليها وقفت فوق الأرض الضيقة، محاولة أن تسقي الشجرة اليابسة، غير آبهة بالموت المحدّق بها
في السنوات الأخيرة، خسرت كما غيري وجوهاً قريبة إلى قلبي. سمعت الفتاة تبكي في القهوة وهي تودّع صديقها. بكيت الساعة الثالثة فجراً للسّبب نفسه. كان الوجع متكوّراً على رأس معدتي، معلناً أن كل ما يحصل حقيقي. المدينة التي انهارت. الرجل العجوز الذي يدير ظهره للمارّة حين يطعمونه. العتمة التي تقبع بداخلنا، والأصدقاء الذين لا نطالهم. كل هذه الحكايا حقيقية. وحينذاك فقط صرت ممنونة لشعور الخدر المسيطر وحمايته لنا، من الاحساس بحقيقة الواقع غير المحتمل.
يقولون إن الناس يصنعون المدن، ونحن نظن أنّنا نحن صنعنا بيروت. لكنّها هنا، قبلنا وبعدنا. تموت وتحيا، غير مبالية برغباتنا. وحين يرحل من نحبّهم عنها، نفقدها معهم.
لمن لا يعرفها، قبيحة أحيانًا بيروت لدرجة لا تُحتمل.
لمن لا يعرفها، قبيحة أحيانًا بيروت لدرجة لا تُحتمل. تُشعرك برغبة تمزيق جلدك والهرب إلى مكان أوسع. وتهرب، وتعود وتحكي أنك مشتاق للتفاصيل الصغيرة، للّغة، للأهل، للمباني القديمة الخائف عليها من الهدم. تُخبرني صباح أن الحياة واضحة في ألمانيا. كل شيء جميل، من المتاحف وصولاً إلى الشجر. تُخبرني أيضاً أنّها تشتاق إلى الناس. وأن المعادلة بسيطة إمّا النجاة إما الاحتواء والألفة. وتلك التي تنجو تشعر بذنب الاشتياق. فهي هناك، في مكان آمن ولا حق لها برغبة العودة إلى مدينة منسية.
هذه المدن المنسية، حين يعيدون ترميمها لن يأخذوا بعين الاعتبار ذكرياتنا، وسنوات حياتنا التي صرفناها بداخلها، ولهذا السبب يرفض صديقي العودة إلى سوريا. فإن حصل وعاد فلن يلتقي بحياته السابقة، ومن جاؤوا من بعده لن يعرفوا أن حياته مرّت هنا. بل سيصنعون ذكريات أخرى لا تضمّه، وأماكنهم ستحتل تلك القديمة وستكون أبوابها نصف مفتوحة في وجهه.
المحظوظون يملكون يداً تفتح لهم الباب وفماً يقبّل خدّهم الأيمن فور دخولهم. في المساء ألمح بقايا الإهراءات وتتحوّل في نظري إلى غول كبير يحرس الدمار، أثناء تسلّلنا تحته. نطرق أبواب الأصدقاء، ولا تُفتح أمامنا. يعتقد يوسف أن المرافئ هي أبواب المدن ونحن مدينة بلا باب. لست هنا في طور رثاء مدينة، وأفهم جيداً أن ما كنّاه في السابق لن يعود، وأنّه حين يأتي اليوم الذي ستكون فيه الحياة على ما يرام، لن نكون نحن أنفسنا كي نخوضها على أسس تجاربنا السابقة. والآن، في هذه اللحظة عادت الطريق غير واضحة والمداخل كلّها متشابكة كما كانت لحظة وصولي إليها، وذلك لأني فقدت الوجوه الجميلة التي مشت معي خلال السنوات الماضية، والتي تمشي اليوم وحدها في طرقات غريبة وبعيدة.
بعد التجربة، ندرك أن المحظوظين حقاً، هم هؤلاء الذين يملكون مدينة تفتح لهم الباب، ورفاقاً وأحبّاءً يقبّلون خدّهم الأيسر وخدّهم الأيمن فور دخولهم إليها
ما حلّ بنا غيّرنا بطريقة جذرية، والحياة التي اعتدناها، ربّما لم تكن الأجمل لكنّها كانت حياتنا. حينذاك، ظننا أن ما يحدث لغيرنا، لن يحدث لنا. لكن المدينة انفجرت ونحن كنّا بداخلها. وحين تداعت، حملنا ما تبقّى من قلوبنا المبتورة بعيداً عن حافّة التعب. هذه القلوب، حين مرّ الربيع عليها وقفت فوق الأرض الضيقة، محاولة أن تسقي الشجرة اليابسة، غير آبهة بالموت المحدّق بها.
لست هنا في طور رثاء بيروت أو ذكرياتنا معها. التأقلم سهل، والواقع يطغى. لكن يحق لنا القول إن التشرد الداخلي صعب، وإن الذكريات التي لم تُصنع ترافقنا احتمالاتها إلى الأبد، وإن الأماكن تفتقد. وبعد التجربة، ندرك أن المحظوظين حقاً، هم هؤلاء الذين يملكون مدينة تفتح لهم الباب، ورفاقاً وأحبّاءً يقبّلون خدّهم الأيسر وخدّهم الأيمن فور دخولهم إليها.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ 3 أيامكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ أسبوعتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...