شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

لنبدأ من هنا!
عنترة يغني وزوربا يرقص... غنّي كي تنسي، ارقص كي لا تجنّ

عنترة يغني وزوربا يرقص... غنّي كي تنسي، ارقص كي لا تجنّ

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

الأحد 7 نوفمبر 202110:35 ص


لعلّ أقسى مراتب الخيبة، الخذلان والشعور بأننا متروكون في هذا العالم وبإزائه؛ وحيدون ومغتربون. هذه المعاناة، وإن كانت شعوراً فرديّاً فإنها مشترك إنسانيّ. غنّى محمد الماغوط خذلانه في "جناح الكآبة"، مثلما شبّه فرناندو بيسوا الأفراد بجزر منفصلة تقع في محيط واحد.

اهتمّ الوجوديّون والعبثيّون والعدميّون أيضاً بالألم، وبما يصيب الوجود العينيّ المحسوس من انفعالات وأحاسيس. وإن كان الشاعر العربي قد حذّر من شبهة الطرب في رقصه، فإنّ زوربا رقص كي لا يُجنّ؛ رقص على خرابه الجميل. لينبّهنا ممدوح عدوان إلى أنّ الجنون، في دفاعه عنه، علامة على يقظة وجودنا.

عنترة يغني وزوربا يرقص

غالباً ما يقترن الرقص بالفرح على عكس الغناء الذي يكون طارداً للحزن أحياناً، ومعبّراً عنه، مرسّخاً له في أحايين أخرى. في قصيدة لعنترة بن شدّاد العبسيّ، وقد اشتهر بحبّه لابنة عمّه عبلة، وتوفّي بغير وصالها، ينشد ما مطلعه: "سلا القلب عمّا كان يهوى ويطلبُ/ وأصبح لا يشكو ولا يتعتّبُ". إلى أن يصل بعد إعلانه هذا، إلى دعوة نديمه كي يتشاركا الغناء والأنخاب، لا حبّاً، بل فوزاً في الحرب؛ ولا شيء يبتغيه بعد مذلّة الصدّ سوى إثبات الجدارة في القتال، فيتابع:

نديمي، رعاك الله، قُم غنِّ لي على/ كؤوس المنايا من دمٍ حين أشربُ. غير أنّنا لا ينطلي علينا ادّعاؤه نسيان الحبّ وطلب نقيضه متمثّلاً في كراهية الأعداء. فقصيدته خير دليل على خيبته وألمه وطلبه للغناء كي يسلو، وربما لا يفلح، ليغدو الغناء عامل إيقاد لجذوة ظنّها انطفأت إلى الأبد.

"في حياتنا شيء يجنّن؛ وحين لا يجنّ أحد، فهذا يعني أنّ أحاسيسنا متبلّدة، وأنّ فجائعنا لا تهزّنا. فالجنون عند بعض منّا دلالة صحّيّة على شعب معافى لا يتحمّل إهانة"

يغني عنترة كي ينسى، وإن ادّعى أنه نسي. ويرقص زوربا في رواية نيكوس كازانتزاكي كي لا يُجنّ. مَن حوله ظنّ أنّه قد جُنّ، لكنّها فلسفته في الحياة. فهو في كلّ مرّة يكون فيها على وشك الاختناق، يصرخ: ارقص! ارقص! فيعيد الرقص الهدوء إلى نفسه. يسرد قصة حزنه على رحيل صغيره، قائلاً:

"ذات مرّة، عندما مات صغيري ديمتري... وقفت هكذا ورقصت. وأسرع الأقارب والأصدقاء الذين كانوا يتطلّعون إليّ وأنا أرقص أمام الجثة، ليوقفوني، وأخذوا يصرخون: لقد جنّ زوربا! جنّ زوربا!. لكنني أنا، في تلك اللحظة، لو لم أرقص لجننت من الألم".

حال كلّ من عنترة وزوربا يصحّ في وصفها رأي الجاحظ بأنّ للأمور حكمين: حكم ظاهر للحواس وحكم باطن للعقل، ويدعونا ألا نذهب إلى ما ترينا العين، بل إلى ما يرينا العقل. في سياق هذه النظرية المعرفيّة، نحتاج إلى تحديد العقل ليتبيّن لنا الجنون، لكن في زمننا -كما في أزمنة سابقة- نكاد لا نتوصّل إلى تحديد حاسم ونهائي للمفاهيم.

أزمة التعريف، والفهم تالياً، تضعنا أمام مقدمات ممدوح عدوان في دفاعه عن الجنون، إذ يفصح بالقول: "في حياتنا شيء يجنّن؛ وحين لا يجنّ أحد، فهذا يعني أنّ أحاسيسنا متبلّدة، وأنّ فجائعنا لا تهزّنا. فالجنون عند بعض منّا دلالة صحّيّة على شعب معافى لا يتحمّل إهانة".

حساسية عدوان وأجراس الماغوط

تتبدّى دعوة  ممدوح عدوان صريحة لانتفاضة الأحاسيس، عوض التعقّل في مناخ لا يناسبه إلا ثورة الحواس. لكن سرعان ما يوضّح تمظهرات الجنون بالفنّ المجنون، لا أن يبقى فقداناً مجانيّاً للتوازن العقلي. ذلك في معرض حديثه عن الرسّام لؤي كيالي، وعن "الانفجار المدمّر في الحساسية" التي بإمكانها أن تدين من يفتقدها، فيستطيع متابعة حياته بهدوء واتّزان، انتهاء بالتعوّد فالنسيان.

"في تلك اللحظة، لو لم أرقص لجننت من الألم"... في كلّ مرّة يكون فيها  زوربا على وشك الاختناق، يرقص فيعيد الرقص الهدوء إلى نفسه 

رقص زوربا المستند إلى فلسفة ونمط وجود، يذكّرنا ببيت شهير للشاعر العربي الذي يرقص حزناً وليس فرحاً، مشبّهاً حاله بحال الطائر الذبيح المنتفض؛ فيقول: لا تحسبوا رقصي بينكم طرباً/ فالطير يرقص مذبوحاً من الألمِ. يجد هذا السلوك في التحليل النفسي تفسيراً في أواليات دفاعيّة بوصفها اختزالاً عاجلاً للتوتّرات الدّاخليّة.

فالتصريف والتفريج في الغناء والرقص، بما هما تفريغ انفعالي تتخلّص الذات بوساطته من الانفعال المرتبط بذكرى حادث صدميّ وإنكار الواقع، كحال عنترة، هو أسلوب دفاعي يتّخذ شكل رفض الاعتراف بواقعيّة إدراك ذي تأثير صدميّ.

في خيبة بحثه عن مكان عامر بالألفة، قادته إلى الكآبة، ينشد محمد الماغوط من مجموعة "حزن في ضوء القمر" قصيدته "جناح الكآبة" بما مطلعها: "مخذولٌ  أنا لا أهل ولا حبيبة". الاغتراب عن العالم ولّد لديه الحنين: "والحنين يلسع منكبيّ الهزيلين"، فيستحضر طيف أمّه وأشباح طفولته في تمنّي العودة المستحيلة:

"مدّي ذراعيكِ يا أمّي... لألمس طفولتي وكآبتي". في هذا الاستدعاء المتناقض يحضر الغناء بما يشبه نداء الحلم بالانبعاث لماضٍ بعيد مشتهى، يسمع ترجيعه في قرع النواقيس، بل عويلها: "الدمع يتساقط/ وفؤادي يختنق كأجراسٍ من الدم".

في اتجاه غنائي مماثل قلب لمنطق الأشياء ولنسق مفهوم الزمن؛ حيث إنّ العزلة تتطلّب البحث عن الآخر ابتغاء الفرح، وليس الإمعان هرباً في الغناء الحزين لتهويدة أمّ، بما يشكّل سقوطاً مدوّياً في الاختناق. إنّه غناء يخصب السلب، ويؤكّد دوامة الحزن في هذه العودويّة.

إذا كان على كلّ منّا أن يجد إجاباته عن الأسئلة نفسها؛ أسئلة التحرّر من فوائض الحزن والألم، فقراءة ما فكّر فيه الآخرون وما اقترحوه من سبل يتيح لنا –وفق ما جاء في الرواية الفلسفيّة "عالم صوفي"- تكوين أحكامنا الخاصة على الحياة. ويلفتني قول لفرانسوا لابلانتين:

"إننا لا نصبح مجانين برغبتنا؛ فقد تنبّأت الثقافة بكل شيء". فأن نُجنّ مجازاً في التجليات الفنّية، أو بمعنى آخر أن نسلك طريق الفنّ كي نحتمل جنون الواقع، كي لا نجنّ حقيقة، لهو نمط وجود وطريق حياة.


رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image