شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اشترك/ ي وشارك/ ي!
بعض الجنون لا يحتاج التفكير: كالحبّ أو تورّط فتاتيْن بشِجار

بعض الجنون لا يحتاج التفكير: كالحبّ أو تورّط فتاتيْن بشِجار

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

رأي

السبت 2 فبراير 201904:20 م
"الحب، جنون مقبول اجتماعيًا"، تقولها إحدى الشخصيات في فيلم Her، ردًا على صديقها الذي اعترف بوقوعه في الحب قائلًا: "هل يجعل مني ذلك غريب الأطوار؟". حقيقة هذا ما أقوله أنا أيضًا، لكن ليس حرفيًا، فما أقوله أنا جد بسيط، وهو أن الحب تتلاشى فيه المسافات ببطء شديد، ببطء غير ملحوظ، لدرجة أنك إذا كنت في مقهى وعبرت بك لحظة حبّ بين إثنين، ستنتظر الكثير من الثواني والدقائق لتتمكن من استراق نظرة لقبلة أو لعبطة. وذلك على عكس المسافة التي تتلاشى بين إثنين غضبًا، فهي تأتي سريعة وبلمح البصر، دون أن تدرك من البادئ أصلًا، حتى أن الفضاء يعبق بالصراخ واللعنات. ومعظمنا يبقى متسمرًا في مكانه ليحاول فهم ما يحدث. وفي الحقيقة لن يفهم ما يحدث أو ما حدث أصلًا فليس الغضب سوى جنون أيضًا، لكني لست متأكدة إن كان مقبولًا اجتماعيًا، فلم أسمع عن فيلم سينمائي يقول ذلك. لكن ماذا لو كنت في مكان حيث اجتمع الجنون كله في لحظة واحدة؛ جنون الحب وجنون الغضب، هل كنت ستجلس لتفكر إن كان كل ما يحدث من حولك مقبولًا اجتماعيًا؟، أم أنك ستؤدي دور اللامبالي؟، أو ربما تكون مباليًا وتسترق بعض النظرات؟ أعتقد أن كل ذلك ممكنًا، فحيث المقهى الذي قادتني إليه صديقتي والذي لم أكن زرته من قبل، جلست أثرثر وأشرب البيرة، لأتيقن بعدها أني جلست بين فضائين، الأول يتقلص حبًا بين إثنين يجلسان أمامي، والثاني يتقلص غضبًا بين إثنين أمام باب المقهى، لأكون في الأولى مختلسة للنظر أترقب قبلة،  بينما أنال في الثانية عضة قوية من أحد الأطراف الغاضبة. لن أدخل بسرد لحظة الحبّ التي شهدتها بين الشاب والفتاة، وسأكون  بخيلة بقدر ما كانا هما بخيلين علي، ففي كل نظرة حنان بينهما أو عبطة عفوية، يرمقني أحدهما بنظرة سريعة ليتأكد أني لا أراقبهما. أما أنا فكنت التفت مسرعة إلى صديقتي: "أكملي الحديث، فكلي آذان صاغية". على غفلة من الحبّ ومن استراقي النظر، للقبلة المنتظرة، ارتطمت كتف بكتف، ملتفتةً رأيتهما على باب المقهى الذي امتلأ بالصراخ، تاركة ورائي حديث صديقتي، وقبل أن تمس قدمي الأرض وقوفًا، كان الفضاء الفاصل بينهما تقلص وانعدم بلحظة واحدة، ليبدأ عراك الأيدي والانبطاح على الأرض. كنت أوّل الواصلين لفك الفتاتين الغاضبتين عن بعضهما -نعم هما فتاتان-، فالغضب لا يعرف جنسًا، يهجم عليك سواء أكنت تلبس بنطالًا أم تنورة، وسواء كنت بشعر قصير أو طويل، أكنت بشارب أو تضع منيكور. ومهما حاولت مواربة نفسك ضمن اتكيت الشعر المسرَّح بانتظام أو الشعر المدبب من الجيل، فهو سيهجم عليك في لحظة تخرج فيها عن طورك، حتى أن ربطة الشعر الزهرية لا تغري الغضب بالابتعاد، فهو ليس لعنة وربطة الشعر ليست رقية أو حجاب. لم اقتبس ذلك من أي فيلم سينمائي، هذا فقط تمامًا ما أدركه من تجربتي. في محاولتي  فصلهما عن بعض، نلت نصيبي من إحداهن بعد أن اختلطت عليها الأيادي، فأطبقت فكها على يدي وكانت تلك أول إصابة أنالها. حاولت تهدئة الموقف بالكلام: "ما بصير هيك يا صبايا"، إلّا أنه لم يكن هناك أي منطق في كلامي، فأي منطق أقوله لفتاة كانت توًا منبطحة على الأرض تأكل الرفسات؟ قواي الجسدية خانتني، أنا التي كنت أعتبر نفسي رياضية، لم أستطع إيقاف غضب فتاتين نحيلتين بعمر لا  يتجاوز السابعة عشر. كان علي اختيار طرف وإبعاده، إلا أن ذلك لم يجد نفعًا، لأن الطرف الآخر كان يهرول راكضًا لإمساك الطرف الأول. كما أني لم يسبق أن رأيت أيد طويلة بطول أيديهما التي كانت تتجاوز جسدي للإمساك بشعر بعضهما والتلويح به يمينا ويسارًا. اعترف اني بهذه اللحظة خفت كثيرًا، وكدت أهرب جزعة من هول الغضب المتشبث بالفتاتين. في خضم الشجار وفي قرارة نفسي، كانت لدي فسحة غريبة من التفكير، فالمشهد يعاد ويعاد، والشجار يأخذ طريقه ذهابًا وإيابًا، هبوطًا وصعودًا بلحظات مكررة. فتساءلت: "كيف أن الأمر لم ينته بعد؟" كان هناك كثير من الوجوه التي استطعت رؤيتها بين الأيدي المتشابكة، إلّا أن المشهد ما انفك يكرر نفسه. عندها أيقنت أنني لم أكن أول الواصلين فقط، بل كنت أيضًا آخر الواصلين. فقد كان جميع من تجمهر حولنا من شباب وشابات يريدون فقط  الوصول إلى مسافة كافية للرؤية، بل كان لدى بعضهم متسع من الوقت لكي يشعل سيجارته وآخر لكي يرتشف من فنجان قهوته، بينما شاب آخر كان قد أخرج هاتفه ربما أراد أن يلتقط بعض الصور للحركات الجمبازية التي كانت تحدث. لم أعد أستطع إدراك إن كان ما يحدث فيلمًا سينمائيَا، وكل ما عليك فعله هو أكل الفوشار والمشاهدة، كان كل شيء ينذر أن الأمر كذلك، إلا أن العضة القوية على ساعدي جعلتني أدرك أننا لسنا أمام مشهد سينمائي. إذا ماذا علينا أن نفعل؟ منذ سبعة عشرة عامًا حين كنت في الجامعة، تورطت بمشادة كلامية مع إحدى الفتيات، نتج عنها، أنها شتمتني، فهممت بضربها، إلّا أنها هربت. لسوء حظها استطعت اللحاق بها فأمسكتها من قبة قميصها وثبتها على الحائط، ولسوء حظي كان ساعدها أشدّ مني. لحسن حظنا كلانا بأن أمسكت بنا فتاة كانت بقربنا وأبعدتنا عن بعضنا. في كل مرة أتذكر تلك الحادثة أشكر في نفسي دائمًا تلك الفتاة التي لم تقف مشاهدة أو عابرة للحدث. الكثير من المواقف التي شهدتها فيما بعد، كنت عاجزة عن اتخاذ موقف شبيه لما فعلته تلك الفتاة أيام الجامعة. ربما لأنني لم أكن أكترث، أو بسبب شعوري بالجبن، أو لعدم القدرة على فعل شيء ما. في بعض الأحيان لم أكن متأكدة. ولكن كيف أنني لم أكن متأكدة! هل لهذه الدرجة لا نعرف ما هو التصرف الصحيح؟ أتساءل.
في محاولتي  فصلهما عن بعض، نلت نصيبي من إحداهن بعد أن اختلطت عليها الأيادي، فأطبقت فكها على يدي وكانت تلك أول إصابة أنالها. حاولت تهدئة الموقف بالكلام: "ما بصير هيك يا صبايا"، إلّا أنه لم يكن هناك أي منطق في كلامي، فأي منطق أقوله لفتاة كانت توًا منبطحة على الأرض تأكل الرفسات؟
جلست أثرثر وأشرب البيرة، لأتيقن بعدها أني جلست بين فضائين، الأول يتقلص حبًا بين إثنين يجلسان أمامي، والثاني يتقلص غضبًا بين إثنين أمام باب المقهى، لأكون في الأولى مختلسة للنظر أترقب قبلة،  بينما أنال في الثانية عضة قوية من أحد الأطراف الغاضبة.
تبادرني صديقتي ضاحكة "منيح ما أكلتي قتلة!". ولكني كنت على وشك ذلك ولولا شعوري بالغضب وصراخي لما تحرك أحدهم!، هل كان جنوني مقبولًا اجتماعيًا، ولذلك تحركوا؟ بينما جنون الفتاتين غير مقبول اجتماعيًا ولذلك بقوا مشاهدين؟
لم أعد أستطع إدراك إن كان ما يحدث فيلمًا سينمائيَا، وكل ما عليك فعله هو أكل الفوشار والمشاهدة، كان كل شيء ينذر أن الأمر كذلك، إلا أن العضة القوية على ساعدي جعلتني أدرك أننا لسنا أمام مشهد سينمائي. إذا ماذا علينا أن نفعل؟
شعرت بالغضب من هول الأفكار التي بدأت تتزاحم في رأسي، فبدأت أصرخ على من تجمهر للمشاهدة، هل أنتم سعداء؟ هل أنتم خائفون؟ هل أنتم مترددون؟ ألا تعرفون ما يجب فعله؟. غضبي أيقظ وعيًا أو إدراكًا -لا علم لي بتسميته- عند البعض، فبدأ بالتحرك ومساعدتي لنشكل حاجزًا ينهي ذلك التلاحم العنيف بين الفتاتين. بعض الشتائم المتطايرة على بعد أمتار لا بد منها كخاتمة لمشهد يتضمن كثيرًا من الصراع. المهم أن ليس هناك أحد على الأرض والأهم أن الفضاء المنحسر بدأ بإعادة تشكله ليفصل الفتاتين عن بعضهما. تبادرني صديقتي ضاحكة "منيح ما أكلتي قتلة!". ولكني كنت على وشك ذلك ولولا شعوري بالغضب وصراخي لما تحرك أحدهم!، هل كان جنوني مقبولًا اجتماعيًا، ولذلك تحركوا؟ بينما جنون الفتاتين غير مقبول اجتماعيًا ولذلك بقوا مشاهدين؟ كيف يمكن أن يكون ذلك؟ أعود لأستدرك ما حدث، لتلك اللحظتين، لذلك الحبّ وذلك الغضب، لكل المسافات الفاصلة، أحاول استعادة التوقيت الذي بدأ بصهر كل شيء وخلطه دفعة واحدة، وكأنما العواطف تثأر حبًا وغضبًا في ذات التوقيت، ولا يشبعها في ذلك سوى تلاشي المسافات. إلا أن ما ينتج عن ذلك التلاشي هو ما سيشكّل الفرق. في الحقيقة ومنذ البداية لم تكن المسألة تتعلق بما هو "الجنون المقبول اجتماعيًا"، المسألة فقط تتعلق  فيما يتوجب عليك فعله أمام كل لحظة على حدا، وليس بما عليك التفكير به وأنت جالسًا... فبعض الجنون لا يحتاج للتفكير وإلا كنا طلبنا من الفتاتين أن تفكرا قبل أن تتورطا بقتال وضرب. وهذا ليس مقتبسًا من فيلم سينمائي.

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.



* يعبّر المقال عن وجهة نظر الكاتب/ة وليس بالضرورة عن رأي رصيف22

Website by WhiteBeard
Popup Image