شاركوا في مهمّتنا،
بل قودوها

اترك/ ي بصمَتك!

"كل الناس مجانين"... قراءة في كتاب "ما لذّة العشق إلّا للمجانين"

انضمّ/ ي إلى مجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات”.

هدفنا الاستماع إلى الكل، لكن هذه الميزة محجوزة لمجتمع "قرّائنا/ قارئاتنا الدائمين/ ات"! تفاعل/ي مع مجتمع يشبهك في اهتماماتك وتطلعاتك وفيه أشخاص يشاركونك قيمك.

إلى النقاش!

ثقافة

السبت 29 أغسطس 202012:30 م

"كلّ الناس مجانين" نعم كلّهم... يجزم أحد مجانين النيسابوريّ يوم سُئل إن كان يرى نفسه مجنونًا. ولعلّه على حقّ، فأيّ عقل ينفع في مواجهة هذا العالم؟ عالمٌ قرّر فجأة أن يقلب صخب الدنيا إلى صمت دفين لتدعو أبسط الأشياء حولنا، إن لم تكن كلّها، للتشتّت والضياع وتدفع أيّ إنسان على أقلّ تقدير دفعاً حتميًاً نحو الجنون. فإن كان الطريق إلى الجنون درباً سنسلكه، فهل أفضل من قصص المجانين لعبور سلس سليم؟

ولعلّ كتاب ما لذّة العشق إلّا للمجانين، وهو مختارات انتقاها بلال الأرفه لي وموريس بومرانتز من عقلاء المجانين لأبي القاسم النيسابوريّ (تـ. 1016/406)، الدليل الأوّل والمرشد الأساس لرحلة السير من سلطة العقل إلى إمرة الجنون. وهو كتاب يُنشر ضمن سلسلة المكتبة العربيّة للناشئة، وهي مبادرة من المكتبة العربيّة التابعة لمعهد نيويورك أبو ظبي لإحياء التراث واستعادته بأجناسه وثيماته المتنوّعة من منظور تفاعليّ يتيح فرصة حيويّة للدخول في التجريب والابتكار.

تعريف الجنون

بدأ كتاب ما لذّة العشق إلّا للمجانين بتحديد ماهيّة الجنون؛ وهو بحسب النيسابوريّ الإقامة على المعاصي وبيع الآخرة بالدنيا وعدم المبالاة في نقص الدين. ومن جهة أخرى نسب النيسابوريّ الجنون إلى العارفين باللّه قائلًا: من عَرف ربّه حقّ معرفةٍ كان عند الناس مجنونًا.

يعرّف كتاب "ما لذة العشق إلا للمجانين" ماهية الجنون بحسب النيسابوري على أنه بيع الدنيا بالآخرة وعدم المبالاة في نقص الدين، أما عقلاء المجانين بالنسبة له فهم من يتحملون المشقة في سبيل الوصول إلى حب الله

من الواضح أنّ الكاتب مهّد إلى مستويين في تعريف الجنون. المستوى الأوّل مرتبط بالشريعة وأحكامها العمليّة وما يتعلّق بها من أحكام دينيّة. وفي هذا المستوى ظهر النيسابوريّ بمظهر الفقيه الواعظ، لأنّ العقل من هذا المنظور يعني تقديم مصلحة الآخرة على الدنيا. ولا يبدو أنّه تبنّى هذا المفهوم في تصنيف كتابه، لذلك انتقل بنا إلى المستوى التأويليّ الآخر الذي أقام عليه هذا الكتاب. فالجنون بالنسبة للنيسابوريّ هو القرب من الله ومعرفته معرفة حقّة وعلى هذا الأساس اختار مجانينه العقلاء الذين ذكرهم في الكتاب.

وبعد عرضه لمفهومَيْ الجنون عاد النيسابوريّ وبحث عن أصل الجنون في اللغة. فتبيّن معه أنّ معنى جنّ الشيء هو استتر، فالمجنون هو المستور العقل من الناحية اللغويّة. ثمّ انتقل إلى ذكر أسماء المجنون، وأسماء جنون الدوابّ، وضروب المجانين، وشدّد على ضرورة اجتناب صحبتهم. ومن ثمّ أتى إلى صلب الكتاب وقسّم المجانين من الحضر بحسب بلدانهم ثمّ عرض قصص مجانين من الأعراب، وأتبعها بقصص عشر مجنونات. وفي آخر الكتاب، ذكر أخبار من لم تثبت أسماؤهم من المجانين.

سمات المجانين

بما أنّ الجنون في عقلاء المجانين جلّه مرتبط بالحكمة والمعرفة، كان أبطال النيسابوريّ يدركون جنونهم ويتمسّكون به. فقد سُئل أبو الحسن عليّان متى عرف ربّه حقّ معرفة، فقال: "مذ جُعل اسمي في المجانين،" ويوم طلبت أمّ بهلول من ابنها أن يعدّ لها المجانين قال: "اسكتي ابنك منهم".

هذه المعرفة هي نفسها التي ترهق المجانين وتجعلهم يتحمّلون كلّ أشكال المعاناة - في سبيل الوصول إلى حبّ الله - من: نحول الجسد وقلّة النوم وقيام الليل والصوم عن الطعام وهجر المنازل ومجاورة القبور والترفّع عن الشهوات. كما أنّ هذه المعرفة تدرك جيّدًا ضيق حدودها، وأوّل ما يعرفه عقلاء المجانين هو أنّهم لا يعرفون. وهو حال نُمير الذي قيل له: أنت أعلم. فأجاب "كلّا" ومضى.

ما وراء القصص

يظهر جليًّا للمتمعّن في قراءة كتاب عقلاء المجانين أنّه لم يكن لمجرّد سرد قصص المجانين ونقل الروايات عنهم وإنّما كان قناعًا لأنواع لاذعة من النقد الدينيّ والسياسيّ والاجتماعيّ. فهذا الكتاب في أساسه موقف اجتماعيّ ناقد للتطوّر الحاصل في المجتمع الإسلاميّ بما فيه من مفارقة للصورة المثلى للإيمان وشيوع النفاق والإقبال على الدنيا وغياب التكافل بين المسلمين. وقد جاء هذا النقد على لسان مجانين لذا خفّت حدّته خصوصًا أنّ هذه الفئة الاجتماعيّة قلّما تُؤاخذ بأقوالها وأفعالها كما يشير القرآن ﴿ليْسَ عَلَى الْأَعْمَىٰ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ﴾.

تكشف قصص المجانين في كتاب "ما لذة العشق إلا للمجانين"، استخدام العقلاء لظاهرة الجنون لإيصال رسائل سياسية واجتماعية لاذعة لنقد تردي الأحوال في المجتمع الإسلامي، فالنقد يصبح أخف وطأةً على لسان مجنون

ولا نستغرب هنا أن يستخدم العقلاءُ - الذين آلمهم ما وصلت إليه الأحوال في المجتمع الإسلاميّ - ظاهرةَ الجنون لإيصال رسائل سياسيّة واجتماعيّة لاذعة النقد. فتؤدّي هذه الرسائل وظائفها بسلاسة وبوطأة أخفّ من خلال شخصيّات ليس لها اعتبارات اجتماعيّة كهؤلاء المجانين. وهو أمر يفتح الباب لكثير من الأسئلة: مَن الناقد الحقيقيّ إذًا؟ ومَن اختبأ وراء المجانين ليفرغ ما في قلبه؟ ومِن مصلحة من أن تصل هذه الرسائل؟ وهل من الممكن أن يُقرأ أدب القاع عمومًا -من أدب المجانين والحمقى والبخلاء والطفيليّين والمكدّيين وغيرهم - بطرق مختلفة تحاول الكشف عمّا حمله هؤلاء الأبطال المعكوسين الفاقدي المكانة الاجتماعيّة؟

إنضمّ/ي إنضمّ/ي

رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.

لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.

Website by WhiteBeard
Popup Image