تقف أمام باب السجن، بعد ليلة طويلة من تحضير الطعام وما ستحمله معها لزوجها في الزيارة الأسبوعية. معها تحمل رسالة قصيرة، تخبره فيها عن أحوالها وأحوال طفليها، على أمل تتلقى رسالة مماثلة منه. وعند وصول دورها، يأتي رد الضابط صارماً: "مفيش جوابات".
أصبحت المراسلات الكتابية أمراً صعباً بين السجناء وذويهم. بعد انتشار فيروس كورونا، علّقت مصلحة السجون الزيارات لمدة أربعة أشهر، ثم أعادتها ولكن بمعدّل زيارة واحدة شهرياً لمدة 20 دقيقة لفرد واحد من أقارب الدرجة الأولى، بعد أن كانت زيارة أسبوعية لمدة ساعة لثلاثة أشخاص.
وحالياً، تسمح مصلحة السجون بزيارة واحدة أسبوعياً تُطلق عليها اسم "رؤية"، وثلاث زيارات أخرى على مدار الشهر تسمى "طبلية"، وفيها يُسمَح بإدخال الطعام واحتياجات السجين دون رؤيته.
حلقة الوصل المفقودة
تقول سهام، زوجة المدون القرآني رضا عبد الرحمن الذي تجاوز في حبسه الاحتياطي مدة العام، إن آخر رسالة حصلت عليها منه كانت في أيلول/ سبتمبر الماضي، وانقطعت الرسائل عقب ذلك، دون سب واضح.
تصف تلك الرسائل بأنها حلقة الوصل بينها وبين زوجها. "من خلالها يمكنني الاطمئنان عليه وأيضاً معرفة احتياجاته الأسبوعية، وعند انقطاع الرسائل أشعر بالخطر عليه وعلى صحته خاصة مع انتشار وباء يهدد حياة السجناء بسبب التكدس والظروف السيئة التي يعانون منها"، تقول لرصيف22.
رسالة من رضا عبد الرحمن إلى أسرته
ألقي القبض على رضا من منزله يوم 21 آب/ أغسطس 2020، بعد صدور قرار ضبط وإحضار له بناءً على تحريات الأمن الوطني، ووُضع على ذمة القضية رقم 3418 لسنة 2020 جنح أمن الدولة طوارئ، والتي يواجه فيها اتهامات بالانضمام إلى جماعة إرهابية تتبنى أفكاراً تكفيرية والترويج لتلك الأفكار بطريقة غير مباشرة.
"لا نعلم لماذا"
لا يختلف حال سهام كثيراً عن حال أسرة المرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، رئيس حزب مصر القوية. يقول نجله حذيفة لرصيف22 إن آخر رسالة حصلت عليها الأسرة كانت في 13 أيلول/ سبتمبر الماضي، دون أسباب واضحة، وللمرة الثانية على التوالي لم تحصل الأسرة على أي مراسلات كتابية تطمئنهم على صحته.
وأضاف حذيفة أن الأمر تكرر مرات سابقة، وعند سؤاله الضباط في السجن عن سبب رفض خروج الرسائل، كان يتلقى رداً بأن هناك تعليمات بهذا الأمر "لا نعلم لماذا تلك التعليمات أو ممن تأتي وما الهدف منها. ما الهدف من وراء منع ورقة ستطمئن سطورها قلوب مَن في الخارج على ذويهم في الداخل؟ والدي حالته الصحية في تدهور ومنع الرسائل يسبب مزيداً من القلق".
"لا نعلم لماذا تلك التعليمات أو ممن تأتي وما الهدف منها. ما الهدف من وراء منع ورقة ستطمئن سطورها قلوب مَن في الخارج على ذويهم في الداخل؟"
وكان قد ألقي القبض على أبو الفتوح في 14 شباط/ فبراير 2018، ووجَّهت له نيابة أمن الدولة اتهامات بنشر أخبار كاذبة والانضمام إلى جماعة إرهابية، على ذمة القضية 440 لسنة 2018. وفي الثاني من شباط/ فبراير 2020، وُضع على ذمة قضية جديدة هي 1781 لسنة 2019 أمن دولة، ووجهت له تهم تولي قيادة جماعة إرهابية وارتكاب جريمة من جرائم تمويل الإرهاب. ولا يزال في الحبس الاحتياطي دون محاكمة.
هل لا يزال بخير؟
أسرة المدون والناشط علاء عبد الفتاح اتّخذت مساراً قانونياً مقابلاً لرفض السماح بالرسائل، وصفته شقيقته منى بأنه مسار لن يغيّر في الأمور كثيراً، ولكنه المسار الوحيد الذي يمكن للأسرة والمحامين التحرك من خلاله. "قدّمنا بلاغات للنائب العام وإدارة السجن، ومصلحة السجون دون رد على تلك البلاغات أو إبلاغنا بسببٍ لمنع ‘الجوابات’"، تقول لرصيف22.
رحلة الرسائل كما وصفتها منى، بدأت بعد جائحة كورونا، لتصبح تلك المراسلات هي الوسيلة الوحيدة للتواصل. وبالرغم من أنها وسيلة قانونية إلا أنها لم تطبّق. "في العام الماضي اعتصمنا أمام السجن ورفعنا لافتات ‘عايزين جواب’ حتى ألقي القبض على شقيقتي، وانتظمت الرسائل لفترة ليتكرر نفس الأمر هذا العام".
معرفة أحوال علاء عبد الفتاح أصبحت ملحة بعد تهديده بالانتحار أمام محاميه في جلسة تجديد حبسه، واصفاً له ظروف حبسه السيئة ومنعه من التريض والقراءة. وأعرب حينها المحامي والحقوقي خالد علي عن قلقه على موكله، ليخرج بعدها برسالة مقتضبة يعتذر فيه لوالدته وأسرته ويعدهم بعدم التفكير في الانتحار مجدداً.
آخر رسالة من علاء عبد الفتاح إلى أسرته
ولكن مخاوف الأسرة لم تنتهِ وفقاً لحديث شقيقته. "ظروف حبس شقيقي في سجن العقرب تدفعه للتفكير مجدداً في الانتحار بسبب ما يعانيه، وهنا تصبح الرسائل أمراً مهماً، فهي التي تطمئنا بأنه ما زال بخير".
وكان عبد الفتاح قد سُجن لمدة خمس سنوات على ذمة القضية المعروفة إعلاميا بأحداث مجلس الشورى. وبعد قليل من إطلاق سراحه ووضعه تحت المراقبة، اعتُقل في 29 أيلول/ سبتمبر 2019، بتهم نشر أخبار كاذبة والانضمام إلى جماعة إرهابية ثم نُقل إلى "سجن طرة شديد الحراسة 2" (سجن العقرب).
"ظروف حبس شقيقي في سجن العقرب تدفعه للتفكير مجدداً في الانتحار بسبب ما يعانيه، وهنا تصبح الرسائل أمراً مهماً، فهي التي تطمئنا بأنه ما زال بخير"
ويسمح القانون المصري، وفقاً لما أكده خالد علي لرصيف22 بالرسائل من السجناء لذويهم، وأيضاً بمكالمة هاتفية شهرياً، ولكن هذا الأمر لا يطبَّق على أرض الواقع. ويوضح علي أن قانون السجون يكفل لوزارة الداخلية منع الزيارة منعاً مطلقاً أو مقيّداً في أوقات معيّنة، وذلك لأسباب صحية أو متعلقة بالأمن، ولكن نفس القانون ولائحته التنفيذية التي أصدرها وزير الداخلية تتضمن وسائل للتواصل بين السجين أو المحبوس وأسرته ومحاميه غير الزيارة المباشرة في مقر الاحتجاز، منها الرسائل والبرقيات والمكالمات التلفونية على النحو الذي نظمته المادة 38 من قانون السجون، والمواد من 60 حتى67 من اللائحة التنفيذية للسجون التي أصدرها وزير الداخلية.
ويشرح علي أن اللائحة تلزم إدارة السجن بأن تمنح المسجونين الورق والأدوات اللازمة لكتابة رسائلهم، فللمحكوم بالحبس البسيط والمحبوسين احتياطياً الحق في التراسل في أي وقت، ولكل محكوم بعقوبة سالبة للحرية الحق في إرسال أربعة رسائل شهرياً، وأغلب المسجونين في قضايا سياسية محرومون من هذا الحق، بالرغم من أن اللائحة تتيح لمدير السجن أو المأمور أن يطّلع على كل ورقة ترد إلى المسجون أو يرغب المسجون في إرسالها، باستثناء ما يتبادله المسجون ومحاميه من مكاتبات في شأن القضية المتهم فيها.
كما يحق لجميع المسجونين بتسلم ما يرد إليهم من رسائل إلا إذا رأى مدير السجن أو المأمور أنها تتضمن ما يثير الشبهة أو يخل بالأمن، كما تقيّد جميع الزيارات والرسائل التي ترد إلى المسجون أو ترسل منه في سجلاته.
عالم موازٍ
تقول المحامية والمعتقلة السابقة ماهينور المصري لرصيف22 إنها كانت واحدة من ضمن المحظوظات داخل سجن القناطر، فكان يُسمح لها بإخراج رسالة أسبوعياً واستقبال أخرى من أسرتها، ولكن في نفس السجن كانت تُمنع المراسلات عن سجناء آخرين.
خرجت ماهينور ومعها رسائل لأصدقاء كتبتها دون أن تتمكن من إرسالها لهم، إذ لم يكن مسموحاً لها سوى برسالة واحدة أسبوعياً. ظلت تحتفظ بتلك الرسائل حتى إخلاء سبيلها.
رسالة من ماهينور المصري إلى صديقتها، لم تخرج من السجن
تفسر المصري منع الرسائل بأمرين: الأول، بأنه نوع من أنواع التعنت ضد أسماء أو شخصيات بعينها؛ والثاني هو الاستسهال، فتلك الرسائل تمرّ على ضابط الأمن الوطني لقراءتها قبل تسليمها للسجناء، وهنا يجد عدد منهم أنه من الأسهل منع الرسائل بدلاً من فتح هذا الباب للجميع وقراءة الرسائل ومراجعتها.
وتصف المصري الرسائل بأنها بمثابة عالم موازٍ داخل السجن، فهي العالم الذي من خلاله يتمكن السجين من معرفة أخبار أسرته، وأيضاً إرسال ما يحتاجه في الزيارة المقبلة.
وألقي القبض على المصري في أيلول/ سبتمبر 2020، ووُضعت على ذمة القضية 488 لعام 2019، ووجهت لها تهم نشر أخبار كاذبة، والانضمام إلى جماعة إرهابية، ثم أخلي سبيلها بقرار من نيابة أمن الدولة في تموز/ يوليو الماضي.
سماح مع قيود
الصحافي والعضو السابق في حزب الدستور خالد داوود، والذي قضى ما يقرب عامين في الحبس، روى لرصيف22 أنه مع توقف الزيارات في آذار/ مارس 2020، بدأ بالتفاوض مع ضباط السجن حول دخول وخروج المراسلات، واستمرت تلك المفاوضات حتى شهر نيسان/ أبريل وسُمح بالرسائل. "بالرغم من السماح بهذا الأمر، إلا أنه كانت هناك قيود أوّلها هو قراءة واطّلاع ضابط الأمن الوطني على الرسالة، وأيضاً تدخله في محتواها. فذات مرة كتبت لوالدي أن الطقس تحسن ومع هذا التحسن تتحسن الأحوال قليلاً داخل السجن، فعاد إليّ الضابط وطلب منّي تغيير تلك العبارة وكتابة مسودة جديدة من الرسالة لأنها عبارة يمكن أن يُساء فهمها وأن يم استغلالها".
ويتابع داوود أنه كان يحصل على الرسالة التي تتركها له أسرته في اليوم التالي بعد اطّلاع الضابط عليها، وأنه كان عليه أيضاً أن يقدّم رسالته لنفس الضابط قبل الموعد الأسبوعي لزيارة أسرته للاطّلاع عليها.
ويضيف: "بعد فتح الزيارات في آب/ أغسطس 2020، تحدّث معنا عدد من الضباط داخل سجن طرة تحقيق لوقف تلك المراسلات لأن الزيارات عادت من جديد، لكننا تمسكنا بهذا الحق لأن الزيارة الشهرية لم تعد كافية للاطمئنان على الأسرة أو التواصل معها، كما أنها أصبحت زيارة لشخص واحد ولمدة 20 دقيقة فقط من وراء حاجز".
يفسر داوود تدخل الأمن الوطني في المراسلات بأنه يأتي خوفاً من نشرها عبر مواقع وصفحات التواصل الاجتماعي، لتصبح كما وصفها "مراسلات بأمر الأمن الوطني". احتفظ داوود بعدد من الرسائل غير المرسلة، لكنه لم يتمكن من إخراجها من محبسه، فقد أُخذت منه قبل إخلاء سبيله.
وألقي القبض على داوود في أيلول/ سبتمبر 2019، على ذمة القضية رقم 488 لعام 2019، قبل أن يُخلى سبيله بقرار من نيابة أمن الدولة في نيسان/ أبريل الماضي.
"اتهمني بنشر الشائعات"
تمكّن محمد عصمت من الاحتفاط بنسخة من آخر رسالة أراد إرسالها إلى نجله. طلب منه في هذه الرسالة أن يرسل له مزيداً من الأموال لأن أسعار "الكانتين" في الداخل أعلى من الخارج، وأيضاً مزيداً من السجائر، فرفض الضابط خروج الرسالة. "نظر إليّ الضابط بغضب عند قراءة الرسالة وقال لي إنني أريد نشر شائعات في الخارج حول غلاء الأسعار في السجن، وكان يريد تمزيق الرسالة فطلبت منه عدم القيام بذلك والحصول عليها على أن أكتب رسالة جديدة"، يروي لرصيف22.
وضع عصمت تلك الورقة في ملابسه، وحالفه الحظ كما ذكر في عدم التحفظ عليها عند خروجه، ليستطيع إخراجها معه من السجن في تموز/ يوليو الماضي بموجب إخلاء سبيل من قبل محكمة الجنايات، بعد قضائه عاماً ونصف العام في حبس احتياطي بتهم نشر أخبار كاذبة والانضمام إلى جماعة محظورة، دون إحالة على المحاكمة.
خرج عصمت من تلك التجربة، محتفظاً بتلك السطور التي تذكّره بأيام صعبة، بينما لا تزال سهام تنتظر اللقاء الشهري بزوجها من خلف حاجز سلكي.
رصيف22 منظمة غير ربحية. الأموال التي نجمعها من ناس رصيف، والتمويل المؤسسي، يذهبان مباشرةً إلى دعم عملنا الصحافي. نحن لا نحصل على تمويل من الشركات الكبرى، أو تمويل سياسي، ولا ننشر محتوى مدفوعاً.
لدعم صحافتنا المعنية بالشأن العام أولاً، ولتبقى صفحاتنا متاحةً لكل القرّاء، انقر هنا.
انضم/ي إلى المناقشة
مستخدم مجهول -
منذ يومينكل التوفيق ومقال رائع
Ahmad Tanany -
منذ 6 أيامتلخيص هايل ودسم لجانب مهم جداً من مسيرة الفكر البشري
مستخدم مجهول -
منذ أسبوعلا يوجد اله او شئ بعد الموت
Mohammed Liswi -
منذ أسبوعأبدعت
نايف السيف الصقيل -
منذ أسبوعلا اقر ولا انكر الواقع والواقعة فكل الخيوط رمادية ومعقولة فيما يخص هذه القضية... بعيدا عن الحادثة...
جيسيكا ملو فالنتاين -
منذ اسبوعينمقال بديع ومثير للاهتمام، جعلني أفكر في أبعاد تغير صوتنا كعرب في خضم هذه المحن. أين صوت النفس من...